تعارض الأدلّة والأمارات

هل الأخذ بأحد المتعارضین من باب الطریقیة أم لا ‏؟

هل الأخذ بأحد المتعارضین من باب الطریقیة أم لا ؟

‏ ‏

‏ثمّ إنّ الأخذ بأحدهما هل هو من باب الطریقیة أو وظیفة عملیة صرفة‏‎ ‎‏لتحفّظ الواقع ؟‏

‏ربّما یقال‏‏  :‏‎[1]‎‏ إنّه کما یکون المجعول فی الأمارات الطریقیة والوسطیة فی‏‎ ‎‏الإثبات عند عدم التعارض‏‏  ‏‏، کذلک یکون المجعول فی المقام هو الطریقیة إلی‏‎ ‎‏الواقع والوسطیة فی الإثبات وتتمیم الکشف بالنسبة إلی أحدهما وهو ما یختاره‏‎ ‎‏المکلّف‏‏  .‏

أقول‏  ‏‏یرد علی ذلک‏‏  ‏‏: ‏أوّلاً‏  :‏‏ ما ذکرناه سابقاً‏‎[2]‎‏ من عدم قابلیة الطریقیة‏‎ ‎‏والحجّیة ونحو ذلک ممّا ذکروها للمجعولیة فإنّ الطریقیة الناقصة للأمارات ذاتیة‏‎ ‎‏کالطریقیة التامّة للقطع‏‏  ‏‏، وتتمیمها لا تناله ید الجعل التعبّدی‏‏  ‏‏، إذ لیس معنی‏‎ ‎‏تتمیمها إلاّ جعلها کالقطع‏‏  ‏‏، وکذلک الحجّیة بمعنی القاطعیة للعذر لیست بنفسها‏‎ ‎‏قابلة للجعل‏‏  ‏‏، إذ مع وجود الحجّة هی ذاتیة لها ومع عدم وجودها لا یعقل‏‎ ‎


کتابمحاضرات فی الاصول (تشتمل علی تنبیهات الاستصحاب و التعادل و الترجیح و الاجتهاد و التقلید): تقریر الابحاث الامام الخمینی (س)صفحه 374
‏الاحتجاج فما للمولی هو جعل ما یحتجّ به بالجعل البسیط بأن یقول مثلاً‏‏  ‏‏:‏‎ ‎‏«اعمل بخبر الواحد» فیصیر حجّة قهراً‏‏  .‏

‏وبالجملة‏‏  ‏‏: فجعل الطریقیة والوسطیة ونحو ذلک ممّا لم یقم علیه برهان‏‎ ‎‏مستقیم‏‏  ‏‏، وإنّما الذی یصدر من الشارع علی فرض ثبوتها فی الأمارات هو لزوم‏‎ ‎‏العمل علی طبقها‏‏  ‏‏، وحیث إنّها طریق ذاتاً وأمر الشارع بسلوکها لیصل العبد إلی‏‎ ‎‏الواقع صارت هی أمارات شرعیة فی قبال الاُصول‏‏  ‏‏، فأماریتها ذاتیة وشرعیتها‏‎ ‎‏باعتبار إیجاب الشارع سلوکها بما هی طرق‏‏  ‏‏. وبهذا تفترق عن الاُصول‏‏  ‏‏، فإنّها‏‎ ‎‏إمّا أن لا تکون واجدة للأماریة والکشف الناقص ذاتاً‏‏  ‏‏، وإمّا أن لا یکون وجوب‏‎ ‎‏العمل بها بلحاظ طریقتها کما فی الاستصحاب‏‏  .‏

‏هذا کلّه علی فرض تحقّق الجعل فی الأمارات‏‏  ‏‏، وإلاّ فقد عرفت منّا مراراً أنّ‏‎ ‎‏المتحقّق من الشارع فیها لیس إلاّ عدم الردع عن طریقة العقلاء‏‏  .‏

وثانیاً‏  :‏‏ أنّه وإن سلّم ثبوت جعل فی الأمارات فإنّما هو فیما یقبل للأماریة‏‎ ‎‏والطریقیة‏‏  .‏

‏وبعبارة اُخری‏‏  ‏‏: فیما یوجد فیه طریقیة ناقصة ذاتاً‏‏  ‏‏، والخبر المعارض بخبر‏‎ ‎‏آخر لا طریقیة له ذاتاً ولا کشف له‏‏  ‏‏، ولذا یتحیّر العقلاء فی هذه الصورة‏‎ ‎‏ولا یعملون بواحد منهما‏‏  .‏

وثالثاً‏  :‏‏ أنّه لو سلم إمکان جعل الطریقیة حتّی للخبر المعارض بخبر آخر‏‎ ‎‏فصرف الإمکان لا یکفی‏‏  ‏‏، بل نحتاج إلی دلیل فی مقام الإثبات یدلّ علی جعلها‏‏  ‏‏،‏‎ ‎‏مع أنّ لسان الأخبار الآمرة بالأخذ بأحدهما لیس إلاّ لسان الأصل‏‏  ‏‏، إذ لا فرق‏‎ ‎


کتابمحاضرات فی الاصول (تشتمل علی تنبیهات الاستصحاب و التعادل و الترجیح و الاجتهاد و التقلید): تقریر الابحاث الامام الخمینی (س)صفحه 375
‏بین لسان قوله ‏‏علیه السلام‏‏  ‏‏: ‏«الناس فی سعة ما لا یعلمون»‎[3]‎‏ وبین قوله ‏‏علیه السلام‏‏ فی روایة‏‎ ‎‏ابن الجهم‏‏  ‏‏: ‏«فإذا لم تعلم فموسّع علیک بأیّهما أخذت»‎[4]‎‏ فالظاهر أنّ التخیـیر‏‎ ‎‏هنا أصل عملی جعل بلحاظ التحفّظ علی الواقع مهما أمکن‏‏  .‏

‏وإن شئت قلت‏‏  ‏‏: إنّه أصل عملی طریقی کالاحتیاط المجعول فی الاُمور‏‎ ‎‏المهمّة من الفروج والدماء ونحوهما ولا یعامل مع الخبر المختار معاملة الأمارة‏‏  .‏

‏فإن قلت‏‏  ‏‏: مقتضی ذلک عدم جواز الأخذ بمثبتاتها‏‏  .‏

‏قلت‏‏  ‏‏: الظاهر من أمر الشارع بـ «الأخذ بأحدهما» أخذه والمعاملة معه‏‎ ‎‏معاملة صورة عدم التعارض‏‏  .‏

‏وإن شئت قلت‏‏  ‏‏: إنّ کلّ خبر باعتبار مؤدّاه ولوازمه وملزوماته ینحلّ إلی‏‎ ‎‏أخبار وبناء العقلاء کما جری علی العمل بالخبر باعتبار نفس مؤدّاه قد جری‏‎ ‎‏علی العمل به باعتبار اللوازم والملزومات‏‏  ‏‏، وفی صورة التعارض کما یتعارض‏‎ ‎‏الخبران باعتبار مؤدّاهما کذلک یتعارضان باعتبار اللوازم والملزومات فکأنّ هنا‏‎ ‎‏أخباراً من طرف وأخباراً اُخر من طرف آخر‏‏  ‏‏، وتعارض کلّ من هذه الطائفة مع‏‎ ‎‏کلّ واحدة من تلک الطائفة وقوله‏‏  ‏‏: ‏«بأیّهما أخذت»‏ یشمل کلّ متعارضین حتّی‏‎ ‎‏ما کان فی اللوازم والملزومات‏‏  ‏‏، فتدبّر‏‏  .‏

وقد تلخّص بما ذکرنا‏  :‏‏ أنّ التخیـیر فی المسألة الاُصولیة لا الفقهیة‏‏  ‏‏؛ بمعنی أنّ‏‎ ‎


کتابمحاضرات فی الاصول (تشتمل علی تنبیهات الاستصحاب و التعادل و الترجیح و الاجتهاد و التقلید): تقریر الابحاث الامام الخمینی (س)صفحه 376
‏المکلّف یتخیّر فی الأخذ بأحد الخبرین‏‏  ‏‏، وجعله حجّة بینه وبین الله والعمل‏‎ ‎‏بمضمونه لا أنّه یتخیّر ابتداءً بین الظهر والجمعة مثلاً‏‏  ‏‏، ولکن جعل التخیـیر لیس‏‎ ‎‏عبارة عن جعل المختار منهما أمارة‏‏  ‏‏، بل هو حکم عملی طریقی کإیجاب‏‎ ‎‏الاحتیاط‏‏  .‏

 

کتابمحاضرات فی الاصول (تشتمل علی تنبیهات الاستصحاب و التعادل و الترجیح و الاجتهاد و التقلید): تقریر الابحاث الامام الخمینی (س)صفحه 377

  • - فوائد الاُصول (تقریرات المحقّق النائینی) الکاظمی 4 : 766 ـ 767 ؛ نهایة الأفکار ، القسم الثانی 4 : 210 .
  • - راجع : أنوار الهدایة 1 : 206 ـ 207 .
  • - عوالی اللآلی 1 : 424 / 109 ؛ مستدرک الوسائل 18 : 20 ، کتاب الحدود والتعزیرات ، أبواب مقدّمات الحدود ، الباب 12 ، الحدیث 4 .
  • - الاحتجاج 2 : 264 / 233 ؛ وسائل الشیعة 27 : 121 ، کتاب القضاء ، أبواب صفات القاضی ، الباب 9 ، الحدیث 40 .