الجمع بین أخبار التخیـیر والتوقّف
إذا عرفت روایات المسألة : فنقول : قد قیل فی الجمع بین الطائفتین أقوال :
الأوّل : ما اختاره الشیخ فی «الرسائل» بحمل أخبار التوقّف علی صورة التمکّن من لقاء الإمام علیه السلام واستعلام الحکم منه علیه السلام وأخبار التخیـیر علی صورة عدم التمکن .
ویرد علیه : عدم إمکان هذا الحمل ، إذ عمدة روایات التخیـیر روایة ابن الجهم کما عرفت ، وهل یمکن أن یحتمل أحد أنّ ابن الجهم بعد سؤاله عن الوظیفة المتعلّقة به وبأمثاله من المتمکّنین من استعلام الحکم من الإمام علیه السلام ولو بالمکاتبة معه علیه السلام أجابه الإمام علیه السلام بجواب یختصّ بزمان الغیبة وأهمل بیان الحکم المتعلّق به وبأمثاله .
وبالجملة : فلا یمکن إخراج المورد من القاعدة التی ذکرها الإمام علیه السلام للخبرین المختلفین ، وابن الجهم کان متمکّناً من استعلام الحکم منه علیه السلام ولو بالکتابة من البلاد البعیدة .
فإن قلت : یمکن دخول المورد أیضاً فی مصادیق عدم التمکّن فإنّ المکاتبة وإن أمکنت ولکن فی الوقائع غیر الفوریة ، وأمّا الوقائع الفوریة المحتاجة إلی استعلام حکمها فلا یمکن استعلام حکمها منه علیه السلام ولو فی زمان الحضور ، بالنسبة إلی أغلب الأشخاص .
قلت : المراد بـ «التمکّن» من الاستعلام المحمول علیه أخبار التوقّف هو
کتابمحاضرات فی الاصول (تشتمل علی تنبیهات الاستصحاب و التعادل و الترجیح و الاجتهاد و التقلید): تقریر الابحاث الامام الخمینی (س)صفحه 368
التمکّن الفوری الآنی فی قبال عدم التمکّن کذلک وإن تمکّن بالمآل ، أو المراد به التمکّن ولو فی المآل ، أو ولو بالمکاتبة ، فإن اُرید به الأوّل نافی ذلک بعض أخبار التوقّف ، کروایتی سماعة ، ففی الاُولی قال علیه السلام بعد الحکم بالإرجاء : «فهو فی سعة حتّی یلقاه» فیعلم منه عدم التمکّن من اللقاء فوراً ، والمراد بالسعة کما عرفت لیس هو السعة فی الأخذ بأحد الخبرین ، بل السعة فی العمل بأن یعمل علی طبق البراءة . والظاهر أنّ المراد بـ «من یخبره» فیها لیس خصوص الإمام علیه السلامبل کلّ من یمکن أن یستعلم منه الحکم کأصحابه الواقفین علی فتاواه علیه السلام .
وعلی هذا ، فحمل أخبار التخیـیر علی صورة عدم التمکّن من الاستعلام ولو من أصحاب الأئمّة علیه السلام المنتشرین فی الأمصار ولو بالمکاتبة معهم حمل علی فرد نادر جدّاً .
وفی روایته الثانیة بعد أمر الإمام علیه السلام بالإرجاء قال : «لابدّ من العمل» فیعلم منه أنّه لم یکن متمکّناً فوراً من لقائه وکانت الواقعة فوریة ، إذ لو کان متمکّناً فوراً لکان علیه الاستعلام ولو فی الواقعة الفوریة فلم یکن معنی لقوله : «لابدّ من العمل بواحد من الروایتین» .
وبالجملة : فروایتا سماعة من أخبار التوقّف وموردهما عدم التمکّن الفوری ، وإن اُرید بالتمکّن التمکّن ولو فی المآل لزم خروج مورد أخبار التخیـیر ، کما عرفت . فإنّ الناس فی زمن الحضور کانوا متمکّنین من الاستعلام ولو بالمکاتبة مع أصحاب الأئمّة علیهم السلام المنتشرین فی البلاد .
کتابمحاضرات فی الاصول (تشتمل علی تنبیهات الاستصحاب و التعادل و الترجیح و الاجتهاد و التقلید): تقریر الابحاث الامام الخمینی (س)صفحه 369
فتلخّص ممّا ذکرنا : عدم إمکان الجمع بین الطائفتین بما ذکره الشیخ وتبعه بعض آخر .
الثانی : ما ذکره فی «الدرر» وحاصله : أنّ المأمور به فی أخبار التخیـیر هو الأخذ بأحد الخبرین من باب التسلیم والأخذ بظاهره بلا إعمال رویة واستنباط یبتنی علی إعمال الاستحسان ونحوه ، لتحصیل المراد الواقعی والمأمور به فی أخبار التوقّف هو التوقّف عن أعمال الاستنباطات الظنّیة المبتنیة علی الحدس والتخمین فی تعیـین مدلول الخبرین وتعیـین ما هو الحکم واقعاً . وهذا لا ینافی جعل وظیفة عملیة فی مرحلة الظاهر وهی الأخذ بأحد الخبرین من باب التسلیم ، ویشهد لذلک أمران :
الأوّل : أنّ التوقّف عن العمل بأحد الخبرین أمر إرتکازی بناءً علی ما ذکرناه من توقّف العقلاء عند تعارض الطریقین فلا یحتاج إلی هذه الأوامر الکثیرة فالمراد به لیس ذلک ، بل التوقّف عن تحصیل الحقّ منهما بالظنون والاستحسانات المرسومة عند العقلاء .
الثانی : قوله فی روایة «العیون» : «فردّوا إلینا علمه ولا تقولوا فیه بآرائکم» ، انتهی .
أقول : الظاهر عدم استقامة هذا الجمع أیضاً فی جمیع الأخبار وإن تمشّی فی بعضها ، فمن روایات التوقّف هو روایة سماعة الثانیة ، وقد قال الإمام علیه السلام فیها :
کتابمحاضرات فی الاصول (تشتمل علی تنبیهات الاستصحاب و التعادل و الترجیح و الاجتهاد و التقلید): تقریر الابحاث الامام الخمینی (س)صفحه 370
«لا تعمل بواحد منهما» . ومنه یظهر المراد من «الإرجاء» فی الاُولی منهما أیضاً فإنّهما روایة واحدة ووقع فی إحداهما أو فی کلیهما نقل بالمعنی ، والنقل بالمعنی إنّما یقع من الرواة بعد التحفّظ علی المعنی ، فیعلم من ذلک کون المراد بالإرجاء وعدم العمل بهما واحداً فی نظر الرواة ولو قطعنا النظر عن قوله : «لا تعمل بواحد منهما» .
فنقول : نفس الإرجاء أیضاً ظاهر فی إرجاء الواقعة وتأخیرها فی مقام العمل ولذا تصدّی الإمام علیه السلام لبیان وظیفته إلی زمان اللقاء فقال : «فهو فی سعة» .
وأمّا ما ذکره من کون التوقّف عند تعارض الطریقین مرکوزاً فی أذهان العقلاء فیجاب عنه بأنّه وإن کان التوقّف مرکوزاً فی أذهانهم ومطابقاً للأصل ، ولکنّ الاعتماد علی الأصل إنّما هو بعد الفحص ، وحیث احتمل الرواة جعل وظیفة من قبل الشارع فی المتعارضین رجعوا إلی الأئمّة علیهم السلام وسألوا عن حکم المتعارضین بنحو الکلّیة فتصدّی الأئمّة علیهم السلام للجواب عنهم .
الثالث : ما قد یتوهّم وقد ذکر فی «وسائل الشیعة» أیضاً من حمل أخبار التخیـیر علی صورة وجود نهی أو أمر غیر إلزامی ووجود الترخیص بخلافه ، بقرینة روایة «العیون» وقد مرّ بیانه وجوابه .
کتابمحاضرات فی الاصول (تشتمل علی تنبیهات الاستصحاب و التعادل و الترجیح و الاجتهاد و التقلید): تقریر الابحاث الامام الخمینی (س)صفحه 371
الرابع : ما فی «وسائل الشیعة» من حمل أخبار التخیـیر علی العبادیات وأخبار التوقّف علی المالیات ، وفیه أنّه جمع تبرّعی لا شاهد علیه .
الخامس : ما نقله صاحب «الحدائق» عن السیّد نعمة الله الجزائری عن المجلسی رحمه الله من حمل أخبار التوقّف علی الاستحباب وأخبار التخیـیر علی الجواز .
والظاهر أنّ هذا هو المتعیّن بحسب صناعة باب التعارض فإنّ أخبار التوقّف علی فرض التسلیم ظاهرة فی وجوب التوقّف ، وأخبار التخیـیر نصّ فی جواز التخیـیر فیجب حمل الظاهر علی النصّ مع أنّه من الممکن منع ظهور أخبار التوقّف فی الوجوب ، إذ فیها قرائن علی الاستحباب ، کقوله فی روایة «عوالی اللآلی» : «فإنّ الوقوف عند الشبهات خیر من الاقتحام فی الهلکات» ، إذ الظاهر من هذه العبارة بقرینة روایات اُخر هو مطلوبیة التحفّظ عن المکروهات والشبهات الجائزة الارتکاب شرعاً لیعتاد النفس علی التحفّظ فلا یجترئ علی ارتکاب المحرّمات فإنّ من ارتکب المکروهات یعتاد نفسه علی المخالفة فیجترئ علی ارتکاب المحرّمات والقرینة علی ذلک أخبار الحمی ، فراجع وذیل روایة «العیون» أیضاً لسانه لسان الوعظ فلا یستفاد منه أکثر من الاستحباب ، فتدبّر .
کتابمحاضرات فی الاصول (تشتمل علی تنبیهات الاستصحاب و التعادل و الترجیح و الاجتهاد و التقلید): تقریر الابحاث الامام الخمینی (س)صفحه 372