تعارض العموم والإطلاق تعارض الأدلّة والأمارات / تعارض العموم والإطلاق
ثمّ قال ما حاصله : ومن موارد الأظهر والظاهر ما إذا تعارض العامّ الاُصولی والإطلاق الشمولی ودار الأمر بین التخصیص والتقیـید کقوله : «أکرم العالم» و«لا تکرم الفسّاق» إذ یدور الأمر بین تقیـید العالم بغیر الفاسق وبین تخصیص الفسّاق بما عدا العالم ؛ ولکن شمول العامّ لمورد الاجتماع أظهر لأنّ شموله له بالوضع وشمول المطلق له بمقدّمات الحکمة . ومن جملتها عدم ورود ما یصلح أن یکون بیاناً للتقیـید ، والعامّ یصلح لأن یکون بیاناً فلا تتمّ المقدّمات ، فلابدّ حینئذٍ من تقدیم العامِّ، ولا مجال لتوهّم العکس لاستلزامه تخصیص العامّ بلا وجه أو بوجه دائر لتوقّف التخصیص علی الإطلاق وتوقّفه علی التخصیص ، إذ لو لاه لما ثبت الإطلاق لما عرفت من کفایة العامّ فی البیانیة .
کتابمحاضرات فی الاصول (تشتمل علی تنبیهات الاستصحاب و التعادل و الترجیح و الاجتهاد و التقلید): تقریر الابحاث الامام الخمینی (س)صفحه 323
ودعوی أنّ ما یکون من مقدّمات الحکمة عدم البیان فی مقام التخاطب لا مطلقاً فالعامّ المتأخّر لا یصلح للبیانیة ؛ واضحة الفساد ، إذ المقدّمة هی عدم البیان المطلق ، انتهی کلامه ، وما ذکره قدس سره هو مراد الشیخ من قوله : بکون العموم تنجیزیاً والإطلاق تعلیقیاً .
أقول : توضیح المقام یحتاج إلی بسط فی الکلام .
فنقول : إنّ العموم یستفاد من ظاهر اللفظ بما هو لفظ موضوع للمعنی ، فإنّ العامّ وضع للعموم ویستعمل فیه دائماً ، وبأصالة التطابق بین الجدّ والاستعمال یستظهر من اللفظ إرادة العموم ، ولذا ینسب إلیه مفاده ویقال : إنّه قال : کذا ، فإذا قال : «أکرم العلماء» ولم یذکر قرینة علی التخصیص یمکن أن ینسب إلیه أنّه قال بوجوب إکرام جمیع العلماء ، وأمّا الإطلاق فلیس شیئاً یستفاد من ظاهر اللفظ بما هو لفظ موضوع ، بل یستفاد من ظاهر التلفّظ والتکلّم بما هو فعل صادر من المتکلّم ، فإنّ المولی إذا قال : «أعتق رقبة مؤمنة» یستفاد من ذکره القید أنّه ذکر للإفادة فیکون دخیلاً فی الموضوع حملاً للفعل الصادر منه علی کونه لغایة ، وإذا قال : «أعتق رقبة» یستفاد من عدم ذکره قید الإیمان عدم کونه دخیلاً فی الموضوع ، ولازم ذلک کون حیثیة الرقبة تمام الموضوع للحکم فالتقیـید یستفاد من تلفّظه بالقید وتنطّقه به بما هو فعل اختیاری صادر عنه وهو الملاک فی أخذ المفهوم . والإطلاق یستفاد من عدم تلفّظه وعدم تنطّقه به ، فکون حیثیة الرقبة تمام الموضوع لیس أمراً مستفاداً من ظاهر اللفظ بما هو لفظ
کتابمحاضرات فی الاصول (تشتمل علی تنبیهات الاستصحاب و التعادل و الترجیح و الاجتهاد و التقلید): تقریر الابحاث الامام الخمینی (س)صفحه 324
موضوع کما فی العموم ، بل من ظاهر التلفّظ وکیفیته ، فلا معنی لانعقاد ظهور اللفظ فی الإطلاق ، بل المتکلّم إن ذکر اللفظ ولم یذکر له قیداً احتجّ بکیفیة تلفّظه وعدم إتیانه بالقید فیعامل معاملة المطلق إلی أن یثبت من قبله تقیـید ، وأمّا بعد ما ثبت فلا یکون فی ذکره مخالفة لکلامه الأوّل المستفاد منه الإطلاق ، إذ الإطلاق لم یستفد من ظاهر اللفظ بما هو لفظ حتّی یکون ذکر القید منفصلاً منافیاً له ، بل الإطلاق استفید من عدم صدور فعل منه ؛ أعنی عدم ذکر القید وهذا یرتفع موضوعاً بذکره والاحتجاج بعد الذکر یصحّ إلی حین ذکره وأمّا بعده فلا یبقی له موضوع .
وممّا ذکرنا : یظهر أنّ عدّ المطلق والمقیّد من المتعارضین لا وجه له ، إذ الإطلاق لیس مفاد اللفظ ، بل لا یکون هو إلاّ أمراً مستفاداً من ظهور عدم صدور فعل من المولی .
نعم ، العامّ والخاصّ متعارضان لکون العموم مفاداً للّفظ بما هو لفظ ولو بضمیمة أصالة التطابق التی هی أصل عقلائی ، إذ بعد ضمّها یمکن أن ینسب إلی المولی أنّه قال بمفاد العموم ولا یصحّ هذا التعبیر فی باب الإطلاق ، إذ المتحقّق من المولی عدم ذکر القید لا التلفّظ بما یکون موضوعاً للإطلاق کی ینسب إلیه أنّه قاله .
فإن قلت : الملاک فی الاحتجاج بعدم ذکر القید علی الإطلاق عدم ذکره فی حال التلفّظ أو إلی الأبد فعلی الأوّل لا یکون ذکره بعد ذلک رافعاً لصحّة الاحتجاج بعدم الذکر وعلی الثانی لا وجه للاحتجاج بعدم الذکر حین التنطّق .
قلت : الملاک عدم ذکره حین التنطّق لا مطلقاً ، ولکنّ الاحتجاج به إنّما یصحّ
کتابمحاضرات فی الاصول (تشتمل علی تنبیهات الاستصحاب و التعادل و الترجیح و الاجتهاد و التقلید): تقریر الابحاث الامام الخمینی (س)صفحه 325
عند العقلاء إلی زمان لم یثبت منه القید ، فموضوع الاحتجاج عدم الذکر حین التنطّق ، ولکنّ الاحتجاج بذلک معلّق علی عدم الذکر المطلق فبعد الذکر ولو فی المآل لا یبقی مجال للاحتجاج بعدم الذکر .
نعم ، یصحّ الاحتجاج بالنسبة إلی زمن عدم الذکر ، فاللفظ المطلق ، إذا ذکر بلا قید حین التلفّظ کان مطلقاً فإذا ذکر له قید منفصلاً صار مقیّداً له ، وبه ینتهی أمد الاحتجاج بالمطلق ، وأمّا بناءً علی ما یستفاد من کلام الشیخ و المحقّق النائینی من کون الملاک فی تحقّق الإطلاق عدم ذکر القید إلی الأبد فلا یتصوّر تقیـید أصلاً ، إذ بعد ذکر القید ولو فی المآل ینکشف عدم الإطلاق من أوّل الأمر، لا أنّه یقیّد به المطلق إذ المطلق علی هذا عبارة عمّا لم یذکر له قید إلی الأبد ، مع أنّ تقیـید الإطلاق من الألفاظ المتداولة فی ألسنتهم .
ثمّ لو فرض تسلیمهما لعدم تصوّر التقیـید أصلاً فالأولی أن یعنون المسألة المبحوث عنها بمسألة دوران الأمر بین التخصیص والإطلاق لا دوران الأمر بین التخصیص والتقیـید .
اللهمّ إلاّ أن یرید بالتقیـید عدم الإطلاق فیکون التقیـید عدمیاً عندهما ولا أظنّ أن یلتزما بذلک .
وقد اتّضح بما ذکرنا فی طریق استفادة الإطلاق تقدّم العموم علیه لکفایته فی
کتابمحاضرات فی الاصول (تشتمل علی تنبیهات الاستصحاب و التعادل و الترجیح و الاجتهاد و التقلید): تقریر الابحاث الامام الخمینی (س)صفحه 326
بیان القید ، کما أنّه لو دار الأمر بین الإطلاق وبین المفاهیم المستندة إلی ظواهر الألفاظ بما هی ألفاظ کمفهوم الغایة والحصر قدّم المفهوم علیه أیضاً . وأمّا إذا دار الأمر بینه وبین المفاهیم التی تستفاد من الإطلاق کمفهوم الشرط مثلاً علی مذاقه قدس سره من أنّه یستفاد من ذکر الشرط الظاهر فی العلّیة بنحو الإطلاق ، فتقدیم أحدهما علی الآخر یحتاج إلی مرجّح خارجی یصیر قرینة علی تقدیم أحدهما ، فتدبّر .
وبعبارة اُخری : یستفاد من الجملة الشرطیة مثلاً دخالتها فی الحکم من باب ظهور الفعل فی کونه لفائدة وغایة مترقّبة منه عادة أو من جهة ظهور کلمة الشرط فی العلّیة وضعاً ، ویستفاد من إطلاق الشرط کونه علّة ودخیلاً بنحو الإطلاق ، سواء کان هنا شیء آخر أم لا ، وباعتبار هذا الإطلاق یستفاد منه المفهوم ؛ أعنی الانتفاء عند الانتفاء فحین تعارض هذا الإطلاق مع إطلاق آخر لا مرجّح لتقدیم أحدهما .
وبما ذکرنا فی تقریب المفهوم یظهر فساد ما فی کلماتهم من القول بکون مفهوم الشرط أظهر من مفهوم الوصف ، فإنّ المفهوم کما عرفت لا یستفاد بدلالة واحدة ، بل یستفاد أوّلاً من ذکر الشرط أو الوصف صرف الدخالة حذراً من لغویّة ذکره أو لوضعه للعلّیة ، ثمّ یستفاد المفهوم من إطلاقه .
ولا یخفی : أنّ ظهور الشرط فی أصل الدخالة أقوی من ظهور الوصف فیه ، إذ یتراءی من التعبیر بالجملة الشرطیة کونه ذا عنایة بذکر القید أکثر ممّا یستفاد من ذکر الوصف ، وأمّا الإطلاق فهو فیهما بمساق واحد ، ولا یتصوّر القوّة
کتابمحاضرات فی الاصول (تشتمل علی تنبیهات الاستصحاب و التعادل و الترجیح و الاجتهاد و التقلید): تقریر الابحاث الامام الخمینی (س)صفحه 327
والضعف فی الإطلاق ، إذ تمام الملاک فیه عدم ذکر القید کما مرِّ، وهو مشترک فیهما .
وعلی هذا ، فلو دار الأمر بین دخالة وصف أو شرط بأن وقع التعارض بین الدخالتین کان لتقدیم الشرط وجه لکونه أظهر فی الدخالة ، وأمّا المفهوم فلا یکفی فیه صرف الدخالة ، بل هو عبارة عن تمامیة الدخالة وانحصارها المستفادة من الإطلاق فلو وقع التعارض بین المفهومین ، فلا وجه لتقدیم أحدهما علی الآخر بعد کون کلیهما مستفادین من الإطلاق الذی لا یتصوّر فیه قوّة وضعف .
کتابمحاضرات فی الاصول (تشتمل علی تنبیهات الاستصحاب و التعادل و الترجیح و الاجتهاد و التقلید): تقریر الابحاث الامام الخمینی (س)صفحه 328