المدار فی الجمع العرفی تعارض الأدلّة والأمارات / المدار فی الجمع العرفی
قد عرفت من مطاوی ما ذکرناه : أنّ الأخبار العلاجیة تنصرف عن موارد الجمع العرفی المطبوع عند أبناء المحاورة ، فإنّ التنافی حینئذٍ لا یکون عندهم مصداقاً للتعارض ، وقد ذکروا أنّ المدار فی الجمع العرفی کون أحد الدلیلین نصّاً والآخر ظاهراً أو کون أحدهما ظاهراً والآخر أظهر .
أقول : لیس الملاک ما ذکروه ، بل الملاک کون الدلیلین بحیث لو اجتمعا کان أحدهما قرینة عرفیة للتصرّف فی الآخر وموجباً لصرف ظهوره إلی ما یرتفع بسببه التنافی ، إذ لیس کلّ نصّ وظاهر وأظهر وظاهر مورداً للجمع العرفی . ألا تری أنّ قوله : «أکرم العلماء» نصّ فی الجواز ، وقوله : «لا تکرم العلماء» ظاهر فی الحرمة ، ومع ذلک لا یکون الجمع بینهما بحمل الثانی علی الکراهة جمعاً عرفیاً ، بل یعامل معهما لکونهما متباینین معاملة التعارض من الترجیح أو التخیـیر .
فإن قلت : دلالة قوله : «أکرم» علی الترخیص عقلی لا وضعی ، فإنّه وضع للإلزام . غایة الأمر : أنّ الإلزام أیضاً یستلزم الترخیص بالمعنی الأعمِّ.
قلت : لا یشترط فی النصّ عندهم کون دلالته بالوضع .
کتابمحاضرات فی الاصول (تشتمل علی تنبیهات الاستصحاب و التعادل و الترجیح و الاجتهاد و التقلید): تقریر الابحاث الامام الخمینی (س)صفحه 318
ألا تری : أنّ المحقّق النائینی قدس سره جعل من موارد النصّ والظاهر ما إذا کان لأحد الدلیلین قدر متیقّن فی مقام التخاطب مع أنّ دلالة اللفظ علی القدر المتیقّن لیس بدلالة وضعیة مطابقیة ، وکذلک الکلام فی بعض الموارد الاُخر التی عدّها من النصّ والظاهر .
ثمّ إنّه لا بأس بالإشارة إلی الموارد التی عدّها من هذا القبیل مع بیان ما فیها .
فمنها : ما إذا کان لأحد الدلیلین قدر متیقّن فی مقام التخاطب ، فإنّه وإن لم یکن ینفع فی مقام تقیـید الإطلاق ، إلاّ أنّه ینفع فی رفع التعارض ، فإنّ الدلیل یکون کالنصّ فی القدر المتیقّن فیصلح لأن یکون قرینة علی التصرّف فی الآخر، مثلاً لو کان مفاد أحدهما وجوب إکرام العلماء ومفاد الآخر حرمة إکرام الفسّاق ولکنّه علم من حال الأمر أنّه یبغض العالم الفاسق أشدّ من الفاسق غیر العالم صار هو متیقّن الاندراج فی الثانی فلابدّ من تخصیص الأوّل بسببه ، انتهی .
أقول : کون العالم الفاسق مثلاً قدراً متیقّناً إمّا أن یرید به هو العلم بکراهة المولی منه فعلاً بحیث یبغض إکرامه ، سواء صدر منه قوله : «لا تکرم الفسّاق» وأراد مضمونه أم لا ، وإمّا أن یرید به أنّه لو فرض صدور هذه الجملة منه بنحو الجدّ کان العالم الفاسق متیقّن الاندراج فیه ، ولکنّه من المحتمل عدم صدوره عنه أو عدم کونه بنحو الجدّ فلا یبغض إکرام أحد أصلاً .
فإن أراد الأوّل کما هو ظاهر عبارته أیضاً . فیرد علیه ، أوّلاً : عدم الفرق بین المتیقّن فی مقام التخاطب وغیره .
وثانیاً : أنّ العلم بإرادة المولی یوجب خروج العالم الفاسق عن قوله : «أکرم»
کتابمحاضرات فی الاصول (تشتمل علی تنبیهات الاستصحاب و التعادل و الترجیح و الاجتهاد و التقلید): تقریر الابحاث الامام الخمینی (س)صفحه 319
قطعاً ودخوله فی قوله : «لا تکرم» کذلک ، فکما یکون معلوم الدخول فی الثانی یکون معلوم الخروج عن الأوّل ، فلا وجه لعدّ المقام من النصّ والظاهر ، إذ لا یحتمل مع ذلک دخوله فی الأوّل حتّی یسمّی ظاهراً .
وثالثاً : أنّ مورد العلم بلبّ إرادة المولی خارج عن باب التعارض بالکلّیة فإنّ مورده صورة استفادة الحکم من الدلیل .
فإن قلت : یلزم علی هذا خروج معارضة النصّ مع غیره عن هذا الباب .
قلت : لا نسلّم لزوم ذلک ، إذ لیس معنی النصّ ما یوجب العلم بإرادة المولی ، بل المراد به صراحته فی مفاده وإن احتمل عدم کونه مراداً للمولی لعدم الصدور أو لصدوره تقیّة مثلاً .
وإن أراد الثانی فیرد علیه ، أوّلاً : أنّه لو کان المحقّق النائینی قدس سره ممّن یقول بکفایة القدر المتیقّن فی مقام التخاطب لتقیـید المطلق ، کما یقول به المحقّق الخراسانی قدس سره کان لکلامه فی المقام وجه ؛ إذ یصیر ذلک حینئذٍ بمنزلة قرینة مذکورة لفظاً فیتصرّف بسببه فی الدلیل الآخر ، وأمّا إذا لم یکن ممّن یقول بذلک کما هو الحقِّ، فالقدر المتیقّن فی مقام التخاطب علی هذا یصیر کالقدر المتیقّن الذی لا یکون فی مقام التخاطب فی عدم کونه بمنزلة قرینة موجبة للتصرّف . وعلی هذا فأیّ دلیل للجمع بین الدلیلین بهذا النحو ، إذ من الممکن طرح قوله : «لا تکرم الفسّاق» للخدشة فی صدوره أو جهة صدوره ، والفرض عدم العلم بکراهة المولی من العالم الفاسق إلاّ علی تقدیر صدور هذا الکلام منه وإرادته لمضمونه .
کتابمحاضرات فی الاصول (تشتمل علی تنبیهات الاستصحاب و التعادل و الترجیح و الاجتهاد و التقلید): تقریر الابحاث الامام الخمینی (س)صفحه 320
وبالجملة : فأیّ دلیل لهذا الجمع مع عدم کون القدر المتیقّن بمنزلة القرینة ؟! والفرض إمکان الطرح رأساً فیشمله أدلّته من الأخبار العلاجیة .
فإن قلت : لا مانع من أخذ قوله : «لا تکرم الفسّاق» فی مادّة الافتراق وبعد الأخذ به یستلزم الأخذ به فی مادّة الاجتماع أیضاً ، لما عرفت من کونه متیقّناً علی تقدیره .
قلت : لا مانع من أخذه لو لا هذا الاستلزام المستعقب للتصرّف فی دلیل آخر ، وأمّا بعد ذلک فیدور الأمر بین الأخذ به ، والتصرّف فی الآخر ، وبین طرحه ، ولا مرجّح للأوّل بعد عدم وجود قرینة لفظیة موجبة للتصرّف وکون الجمع والتصرّف بهذا النحو خارجاً عن طریقة المحاورات العرفیة .
وثانیاً : ما أوردناه علی الاحتمال الأوّل بعینه فی قولنا : ثانیاً .
کتابمحاضرات فی الاصول (تشتمل علی تنبیهات الاستصحاب و التعادل و الترجیح و الاجتهاد و التقلید): تقریر الابحاث الامام الخمینی (س)صفحه 321