الأمر الثامن فی أنحاء الشکوک العارضة للمکلّف
اعلم أنّ منشأ الشکّ فی الصحّة والفساد قد یکون هو الشکّ فی خصوصیات المأمور به مع العلم بخصوصیات المأتیّ به إمّا لشبهة حکمیة ، کما إذا علم إتیان الصلاة بلا سورة ، أو مع تسبیحة واحدة ، أو إتیانها فی السفر الملفّق قصراً مثلاً وشکّ بعد الصلاة فی وجوب السورة ، أو ثلاث تسبیحات ، أو القصر علی المسافر بسفر تلفیقی ، أو لشبهة موضوعیة ، کما إذا علم بإتیان الصلاة مع التیمّم أو جالساً أو نحو ذلک لکن احتمل کونه لمجوّز شرعی .
وقد یکون منشأ الشکّ فیهما الشکّ فی کیفیّة المأتیّ به وخصوصیاته ، وکونه واجداً للأجزاء والشرائط الوجودیة والعدمیة أو غیر واجد مع العلم فعلاً بما کان معتبراً فی المأمور به الذی اُتی به من الأجزاء والشرائط ، ولهذه الصورة أقسام :
الأوّل : أن یکون منشأ الشکّ فی المأتیّ به الجهل بالحکم أو الموضوع حین العمل ، سواء کان الموضوع من قبیل قیود التکلیف کالمسافة للتقصیر أو من قیود المکلّف به کالقبلة للصلاة ، وسواء کانت الشبهة حکمیة کما إذا لم یعلم أنّ حکم المسافر تعیّن القصر أو لم یعلم مقدار المسافة الشرعیة ، أو لم یعلم معنی القبلة وأنّها خصوص البیت مثلاً أو مطلق الحرم ، أو موضوعیة کما إذا لم یعلم کونه
کتابمحاضرات فی الاصول (تشتمل علی تنبیهات الاستصحاب و التعادل و الترجیح و الاجتهاد و التقلید): تقریر الابحاث الامام الخمینی (س)صفحه 281
مسافراً أو لم یعلم أنّ من هنا إلی هناک بمقدار المسافة ، أو لم یعلم جهة القبلة سواء کانت صورة العمل من هذا الحیث محفوظة بأن علم إتیانها إلی هذه الجهة الخاصّة أو لم تکن کذلک ، کما إذا علم بإتیانها إلی إحدی الجهات .
الثانی : أن یکون منشأ الشکّ فیه احتمال الغفلة والسهو عن بعض خصوصیاته أو القطع بالغفلة مع احتمال تحقّقه اتّفاقاً .
الثالث : أن یکون منشاؤه احتمال حصول الاشتباه حین العمل بنحو الشکّ الساری .
الرابع : أن یکون منشاؤه مردّداً بین الجهل وبین السهو والغفلة بأن احتمل الإخلال ببعض الخصوصیات إمّا جهلاً أو غفلة .
الخامس : أن یکون منشاؤه جهله بحاله وأنّه کان جاهلاً أو غیر جاهل إذا علم بعدم الإخلال فیما إذا لم یجهل .
السادس : أن یکون منشاؤه احتمال الإخلال عمداً مع العلم بالحکم والموضوع والالتفات إلی تمام الخصوصیات .
السابع : أن یکون منشاؤه احتمال تحقّق المشکوک فیه من باب الاتّفاق مع العلم بعدم إتیانه بالإرادة ، کما إذا علم عدم تحریک الخاتم واحتمل دخول الماء وحصول الانغسال اتّفاقاً .
الثامن : أن یکون منشاؤه قیام أمارة أو أصل عملی حین العمل علی خلاف ما یعتقده فعلاً .
هذه جملة الأقسام المتصوّرة للصورة الثانیة وبانضمام الصورة الاُولی إلیها یحصل صور تسعة ، وربّما ینقسم کلّ منها إلی أقسام کما سیتّضح :
کتابمحاضرات فی الاصول (تشتمل علی تنبیهات الاستصحاب و التعادل و الترجیح و الاجتهاد و التقلید): تقریر الابحاث الامام الخمینی (س)صفحه 282
أمّا الصورة الاُولی من التسعة : فبناءً علی ما اخترناه من کون المجعول قاعدة واحدة للشکّ فی الوجود نسمّیها قاعدة التجاوز لا مجال لتوهّم جریانها فیها ، لعدم الشکّ فی وجود شیء ، وإنّما الشکّ فیما هو المأمور به بعد العلم بالمأتیّ به ، وأمّا بناءً علی جعل قاعدة اُخری مسمّاة بـ «قاعدة الفراغ» بمعنی أصالة الصحّة فی عمل النفس فیشکل أیضاً جریانها ، إذ المتبادر من أدلّتها هو صورة کون الشکّ فی الصحّة ناشئاً عن الشکّ فی وجود شیء وعدمه وتنصرف عن مثل ما نحن فیه قطعاً ، فتدبّر .
وأمّا الصورة الثانیة : أعنی صورة کون المنشأ الجهل بالحکم أو بالموضوع بشبهة حکمیة أو موضوعیة فهی علی أقسام ، إذ الجهل بهما قد یکون مجامعاً للغفلة رأساً حین العمل ، وقد یکون مع اعتقاد الخلاف حینه ، وقد یکون مع التردید کذلک ، وقد یکون مردّداً فعلاً بین کونه حین العمل بهذا النحو أو بذاک أو بذلک .
ثمّ ما کان مع اعتقاد الخلاف قد یکون بحیث لا یمکن تصادق مقتضی اعتقاده سابقاً مع ما یقتضیه اعتقاده فعلاً ، کما إذا اعتقد سابقاً وجوب القصر والآن یعتقد وجوب الإتمام ، وقد یکون بحیث یمکن تصادقهما ، کما إذا اعتقد سابقاً التخیـیر بین الإتمام والقصر والآن یعتقد تعیّن الإتمام وقد یشکّ فعلاً فی أنّ اعتقاده کان علی هذا النحو أو ذاک فهذه ستّة أقسام .
والظاهر جریان القاعدة بالنسبة إلی من کان مردّداً حین العمل إذا کان حینه بصدد إبراء ذمّته ، إذ الجاهل الملتفت إذا لم یکن له أصل عملی ـ کما هو المفروض وإلاّ لدخل فی الصورة التاسعة ـ کانت وظیفته الاحتیاط ، فإذا کان
کتابمحاضرات فی الاصول (تشتمل علی تنبیهات الاستصحاب و التعادل و الترجیح و الاجتهاد و التقلید): تقریر الابحاث الامام الخمینی (س)صفحه 283
بصدد إبراء ذمّته فلا محالة یعمل بوظیفته ، واحتمال الإخلال بها عمداً أو سهواً احتمال ملغی ، أمّا العمد فلکونه بعیداً ممّن هو بصدد إبراء الذمّة ولا یعتنی به العقلاء ، وأمّا السهو فلما سیجیء من أنّه القدر المتیقّن للأدلّة .
اللهمّ إلاّ أن یکون جاهلاً بوظیفته الظاهریة ؛ أعنی الاحتیاط أیضاً فیصیر حکمه حکم غیره .
وأمّا سائر الأقسام غیر صورة التردید حین العمل ، فجریان القاعدة فیها مشکل ، سواء کانت الشبهة حکمیة أو موضوعیة فإنّ منشأ احتمال مطابقة المأتیّ به للواقع فی أربعة منها احتمال التصادف وحصول الموافقة من باب الاتّفاق ، وفی واحد منها وهی صورة اعتقاد الخلاف بحیث لا یتصادق مع الواقع احتمال المخالفة لما هو المعتقد عمداً أو عصیاناً أو سهواً وغفلة ، وشمول إطلاقات الأدلّة لمثل صورة توقّف الموافقة علی حصول التصادف أو المخالفة للمعتقد ممنوع ولا سیّما الثانی .
فإن قلت : إطلاق قوله : «کلّ شیء شکّ فیه ممّا قد جاوزه ودخل فی غیره فلیمض علیه» وقوله : «إذا خرجت من شیء ثمّ دخلت فی غیره فشککت لیس بشیء» فی روایة زرارة وإسماعیل ممّا لا مانع لشموله لجمیع الصور مع کونهما فی مقام البیان ، وقوله فی روایة بکیر : «هو حین یتوضّأ أذکر منه حین
کتابمحاضرات فی الاصول (تشتمل علی تنبیهات الاستصحاب و التعادل و الترجیح و الاجتهاد و التقلید): تقریر الابحاث الامام الخمینی (س)صفحه 284
یشکّ» وإن کان بظاهره مخالفاً لإطلاقات سائر الأخبار ، ولکنّ التحقیق کونه حکمة لجعل قاعدة کلّیة ولیس علّة یدور الحکم مدارها کما مرّ سابقاً .
قلت : الظاهر انصراف الإطلاقات بنفسها مع قطع النظر عن روایة بکیر عن مثل هذه الصور ، إذ الظاهر منها والمنسبق إلی ذهن العرف هو وجوب البناء علی عدم حصول الغفلة وعلی حصول الامتثال إذا کان منشأ الشکّ فیه احتمال الغفلة والخطأ فی مقام الامتثال بعد کون الشخص بصدد الإطاعة وکونه عالماً بما هو المعتبر فی المأمور به من الأجزاء والشرائط ، فمفاد الروایات وجوب إلغاء احتمال الغفلة والخطأ بعد إرادة الإتیان بالأجزاء والشرائط بنحو الإجمال ، ولیس مفادها وجوب البناء علی تحقّق المأمور به وإن کان وجوده مساوقاً للعصیان والسهو والغفلة مثلاً ، کما إذا اعتقد تعیّن الإتمام فی السفر التلفیقی أو کون القبلة إلی جهة خاصّة ثمّ انکشف خلاف ذلک بنحو یضادّ مع الأوّل فإنّ مطابقة المأتیّ به للواقع إنّما تتصوّر إذا خالف ما اعتقده عصیاناً أو سهواً ، ولیس إطلاق الروایات بحیث یکون نتیجته الحکم بتحقّق العصیان أو السهو .
وبالجملة : فانصراف الأدلّة عن هذه الصورة بلا إشکال ، والظاهر انصرافها عن سائر أقسام الجهل أیضاً ، لما عرفت من أنّ الظاهر اختصاصها بما إذا کان منشأ الشکّ فی الامتثال احتمال الغفلة بحیث یقطع به علی فرض عدمها .
والسرّ فیما ذکرنا : هو أنّ العرف بعد ما سمع جعل هذه القاعدة یتبادر إلی ذهنه أنّ مقصود الشارع فی جعله هو إمضاء ما یختلج إلی الذهن من غلبة وقوع
کتابمحاضرات فی الاصول (تشتمل علی تنبیهات الاستصحاب و التعادل و الترجیح و الاجتهاد و التقلید): تقریر الابحاث الامام الخمینی (س)صفحه 285
الأمر فی مرتبته إذا تعلّق بمجموع المؤلّف منه ومن غیره إرادة إجمالیة فإنّ هذه الغلبة أمر مرکوز فی ذهن العقلاء وإن لم تکن بحیث یعتمدون علیها فی اُمورهم بنحو الأماریة ما لم یصل بالنسبة إلیها جعل من الشارع ، إذ یمکن أن لا تکون بنفسه أمارة عندهم ولکن تکون قرینة لانصراف الروایات .
والحاصل : أنّ النکتة فی جعلها إمّا صرف تسهیل الأمر علی المکلّفین وإمّا غلبة وقوع الشیء فی مرتبته بعد تعلّق الإرادة به إجمالاً . ولا ریب أنّ المرکوز فی أذهان الناس هو هذه الغلبة وإن لم یکن ارتکازها بحدّ یجعلها أمارة عقلائیة ، فهذا الارتکاز یکون قرینة للانصراف عن غیر صورة احتمال الترک غفلة وسهواً بعد العلم بالأجزاء والشرائط وإرادة إتیانها بنحو الإجمال .
وبالجملة : فلا ینعقد بعد هذا الارتکاز إطلاق من أوّل الأمر حتّی نحتاج فی رفع الید عنه إلی روایة بکیر . وممّا یشهد لما ذکرنا وقوع الإطلاق فی الروایتین بعد صغریات مخصوصة یکون الإخلال فیها مستنداً إلی الغفلة .
هذا کلّه ممّا یتعلّق بالصورة الثانیة من الصور التسعة .
وأمّا الصورة الثالثة : وهی صورة استناد الإخلال إلی الغفلة فهی أیضاً علی أقسام فإنّه تارة : یقطع فعلاً بعدم الالتفات حین العمل .
وتارة : یحتمل فعلاً الالتفات وعدمه حینه ، وعلی الثانی ، فتارة : یعلم بالإتیان علی فرض الالتفات وبعدم الإتیان علی فرض عدم الالتفات .
وتارة : یعلم بالإتیان علی فرض الالتفات ، ویحتمل الأمرین علی فرض عدم الالتفات .
وتارة : یحتملهما علی فرض الالتفات ، ویعلم بعدم الإتیان علی فرض عدمه .
کتابمحاضرات فی الاصول (تشتمل علی تنبیهات الاستصحاب و التعادل و الترجیح و الاجتهاد و التقلید): تقریر الابحاث الامام الخمینی (س)صفحه 286
وتارة : یحتمل الإتیان وعدمه علی کلا الاحتمالین .
والظاهر جریان القاعدة فی جمیع صور احتمال الالتفات ، وأمّا إذا قطع بعدمه فیشکل جریانه لما عرفت من أنّ المتبادر من الروایات کونها بصدد إلغاء احتمال الغفلة ولا إطلاق لها یشمل غیر صورة احتمال الالتفات بعد ما ذکرنا من الارتکاز الصالح للقرینیة والانصراف .
وأمّا الصورة الرابعة : وهی صورة تحقّق الشکّ ساریاً فمثاله ما إذا کان بیده خاتم وحرّکه حین الوضوء أو الغسل وقطع بدخول الماء تحته ثمّ شکّ بعدهما فی وصول الماء وعدمه وشمول الأخبار وجریان القاعدة لهذه الصورة أیضاً مشکل .
اللهمّ إلاّ أن یتمسّک بقوله : «من کان علی یقین فشکّ فلیمض علی یقینه» ، فراجع «الرسائل» وتدبّر فی التفصیل الذی ذکره الشیخ قدس سره عند تعرّضه لقاعدة الیقین .
وأمّا الصورة الخامسة : فلا مجال فیها علی ما ذکرناه ، لجریان القاعدة ولا لاستصحاب العدم لکونها بالنسبة إلی کلّ منهما شبهة مصداقیة ، فالمرجع فیها سائر الاُصول العملیة من البراءة أو الاشتغال ، وسیأتی توضیحه عند ردّ کلام المحقّق الهمدانی قدس سره .
کتابمحاضرات فی الاصول (تشتمل علی تنبیهات الاستصحاب و التعادل و الترجیح و الاجتهاد و التقلید): تقریر الابحاث الامام الخمینی (س)صفحه 287
وأمّا الصورة السادسة : فجریانها فیها أیضاً مشکل . اللهمّ إلاّ أن یقال : إنّ احتمال الجهل أیضاً مثل احتمال الغفلة أمر ملغی عند العقلاء وفی ارتکازهم وإن لم یصل هذا الارتکاز إلی حدّ الأماریة فلا مانع من شمول الإطلاقات لها .
وأمّا الصورة السابعة : فربّما یقرّر جریان القاعدة فیها . بتقریب أنّ قوله : «هو حین یتوضّأ أذکر» بمنزلة الصغری لکبری مطویّة ، والصغری وإن لم تشمل صورة احتمال الإخلال عمداً ولکنّ الکبری تشملها ، والکبری المطویّة هی أنّ ظاهر حال المسلم الإتیان بما یکون ذاکراً له بعد کونه بصدد إبراء ذمّته ، کما هو مقتضی إسلامه ، ففی الحقیقة یکون المنظور فی الروایة اعتبار ظهور حال المسلم .
ولأحد أن یقول : إنّ الروایات وإن انصرفت عن مثل هذه الصورة والصورة السادسة ، ولکن بناء العقلاء علی إلغاء احتمال الجهل أو الترک عمداً بعد کون الشخص بصدد إبراء الذمّة ولا سیّما فی هذه الصورة فإنّ بناء العقلاء فیها بحدّ یعتمدون علیه ، فتدبّر .
وأمّا الصورة الثامنة : فجریان القاعدة بالنسبة إلیها أیضاً مشکل .
نعم ، هنا روایتان فی مسألة الخاتم ربّما یظهر من إحداهما جریان القاعدة فی هذه الصورة ، فراجع «الدرر» و«الطهارة» المحقّق الهمدانی قدس سره حتّی تقف علی ما قیل .
والإنصاف لزوم التوجیه فی الروایة وحملها علی الخاتم الوسیع وحمل الأمر
کتابمحاضرات فی الاصول (تشتمل علی تنبیهات الاستصحاب و التعادل و الترجیح و الاجتهاد و التقلید): تقریر الابحاث الامام الخمینی (س)صفحه 288
فیها علی الاستحباب کما صنع المشهور ، فتدبّر جیّداً .
وأمّا الصورة التاسعة : وهی صورة قیام أمارة أو أصل عملی حین العمل علی خلاف ما یعتقده فعلاً ، فیجری فیها أیضاً أقسام صورة الجهل مع اعتقاد الخلاف لما یعتقده فعلاً وهی ثلاثة ، قد عرفت حالها وأنّ الأظهر عدم جریان القاعدة فیها خصوصاً فیما إذا لم یمکن تصادق مقتضی الاعتقادین بحیث یکون الموافقة موقوفـة علی العصیان أو السهو . هذه خلاصة الصور المتصوّرة فی المقام ، ولا یخفی أنّ ما ذکرناه أجمع وأشمل ممّا ذکره القوم .
بقی هنا أمران یجب التنبیه علیهما :
الأمر الأوّل : قال المحقّق النائینی قدس سره فی المقام ما حاصله : أنّ المعتبر فی القاعدة کون الشکّ راجعاً إلی کیفیّة صدور العمل وانطباقه علی المأمور به بعد العلم بمتعلّق التکلیف بأجزائه وشرائطه وموانعه موضوعاً وحکماً ، إذ القاعدة إنّما جعلت لعلاج الشکّ من حیث الانطباق ، فلابدّ وأن یکون الشکّ متمحّضاً فی الانطباق فلا یجری القاعدة فیما إذا حصل الشکّ من حیثیة اُخری وإن حصل منه الشکّ فی الانطباق . وضابط تمحّضه فیه هو أن یکون الشکّ بعد العمل بحیث لو لا صدور العمل لم یحصل الشکّ فی الصحّة والفساد .
ثمّ ذکر النائینی قدس سره للشکّ صوراً أربعة وجعل کلاًّ من الثانیة والثالثة أیضاً ذات قسمین : الصورة الاُولی : صورة احتمال الغفلة . الصورة الثانیة : ما إذا عمل عملاً واحتمل مصادفته للواقع عن غیر اختیار بحیث لو کان حین العمل ملتفتاً لکان شاکّاً أیضاً ، کما إذا لم یحرز جهة القبلة وصلّی إلی جهة غفلةً وکما فی الجاهل المقصّر وهی علی قسمین : الأوّل : کون صورة العمل محفوظة . الثانی :
کتابمحاضرات فی الاصول (تشتمل علی تنبیهات الاستصحاب و التعادل و الترجیح و الاجتهاد و التقلید): تقریر الابحاث الامام الخمینی (س)صفحه 289
صورة عدم کونها کذلک . ثمّ قال : أمّا الصورة الاُولی فهی القدر المسلّم من مورد جریان القاعدة ، وأمّا الثانیة فتجری فی القسم الأوّل منها دون الثانی ، انتهی .
أقول : وفی کلامه من أوّله إلی آخره مواقع للنظر نشیر إلی بعضها :
الأوّل : وقوع التهافت فی کلامه ، حیث إنّ ما ذکره أوّلاً من أنّ المعتبر کون الشکّ راجعاً إلی کیفیّة الصدور وانطباق العمل علی المأمور به بعد العلم بتمام الخصوصیات ، وما ذکره ثانیاً من الضابط لتمحّض الشکّ فی الانطباق یقتضیان عدم جریان القاعدة بالنسبة إلی الجاهل المقصّر ، إذا احتمل الموافقة من باب التصادف ، وهذا ینافی ما ذکره أخیراً من جریانها بالنسبة إلیه کما لا یخفی .
الثانی : حکمه فی الصورة الاُولی بالجریان مطلقاً مع أنّ الأقوی فیها هو التفصیل بین صورة احتمال الالتفات وعدمه .
الثالث : تفکیکه بین القسمین للصورة الثانیة ونحو ذلک ممّا یرد علیه کما یظهر بالتدبّر .
هذا مضافاً إلی عدم استقصائه لجمیع الصور ، فتدبّر .
الأمر الثانی : یظهر من المحقّق الهمدانی قدس سره فی «حاشیته» علی «الرسائل» و«طهارته» عدم اختصاص القاعدة بمن یحتمل الغفلة ، بل حکم بجریانها حتّی فی حقّ الجاهل المقصّر ، قال ما حاصله : إنّ وجه الحمل علی الصحیح لیس منحصراً فی ظهور حال الإنسان کما یستفاد من روایة بکیر ، بل العمدة هی السیرة القطعیة وأنّه لو لا ذلک لاختلّ نظام المعاش والمعاد ولم یقم للمسلمین سوق ، إذ ما من أحد إذا التفت إلی أعماله الصادرة منه فی الأعصار المتقدّمة من
کتابمحاضرات فی الاصول (تشتمل علی تنبیهات الاستصحاب و التعادل و الترجیح و الاجتهاد و التقلید): تقریر الابحاث الامام الخمینی (س)صفحه 290
العبادات والمعاملات إلاّ ویشکّ فی کثیر منها لأجل الجهل بأحکامها أو اقترانها ببعض الاُمور . ألاتری : أنّ جلّ العوام بل العلماء غافلون عن کثیر من الاُمور المعتبرة فی الصلاة وغیرها ویلتفتون إلیها یوماً فیوماً فلو لم یحمل عملهم علی الصحیح وبنی علی الاعتناء بالشکّ الناشئ من الجهل أو احتماله لضاق علیهم العیش ، انتهی .
أقول : وفیه : أوّلاً : أنّ ما ادّعاه من السیرة القطعیة لا محصّل له ، إذ لو فرض تحقّقها کان لازمه کون القاعدة أمارة عقلائیة أو أصلاً عقلائیاً ، غایة الأمر إمضاء الشارع لها مع أنّک قد عرفت أنّها تأسیسیة .
والسرّ فی ذلک : أنّ نظیر هذا النحو من التکالیف الشرعیة المتعلّقة بالمرکّبات من الأجزاء والشرائط المتکرّرة فی کلّ یوم وکلّ لیلة لیس فی العرفیات وفی التکالیف المتحقّقة بین الموالی والعبید العرفیة حتّی یلزم من عدم إجرائهم لقاعدة التجاوز اختلال النظام وینعقد السیرة علی إجرائهم لها .
اللهمّ إلاّ أن یدّعی سیرة المتشرعة فی الشرعیات لا سیرة العقلاء ، فتدبّر .
وثانیاً : أنّ ما ذکره من لزوم الاختلال علی فرض عدم إجراء القاعدة فی العبادات والمعاملات الماضیة فاسد أیضاً .
أمّا فی الصلاة : فلأنّ الغالب کون الشکّ فی الصلوات الماضیة من قبیل الصورة الخامسة ، إذ بعد مضیّ مدّة مدیدة إذا وقع الشکّ فإنّما یتحقّق مع تردّد الإنسان فی کون الترک لجهل أو غفلة أو سهو أو نحو ذلک فأحد الاحتمالات هو الغفلة .
کتابمحاضرات فی الاصول (تشتمل علی تنبیهات الاستصحاب و التعادل و الترجیح و الاجتهاد و التقلید): تقریر الابحاث الامام الخمینی (س)صفحه 291
وقد عرفت : أنّ منشأ الشکّ فی الصحّة إذا کان احتمال الغفلة کان مورداً لقاعدة التجاوز وصارت مقدّمة علی استصحاب عدم الإتیان ، وإذا کان سائر الاحتمالات لم یکن مورداً لها وکان الاستصحاب محکّماً ، فإذا تردّد المنشأ بین احتمال الغفلة وغیره کان شبهة مصداقیة لکلّ من القاعدة والاستصحاب ، والمرجع سائر الاُصول .
وعلی هذا فلو کان الشکّ طارئاً فی الوقت کانت قاعدة الاشتغال محکّمة ولکنّ الشکّ لا یتحقّق غالباً فی الوقت ، بل یتحقّق بمضیّ مدّة ، وفی مثله لیس مورد لقاعدة الاشتغال ، إذ القضاء بأمر جدید وموضوعه الفوت وهو غیر متحقّق ، وإثباته باستصحاب عدم الإتیان فی الوقت غیر صحیح ، لعدم جریان الاستصحاب فیه ، لما ذکر من کونه شبهة مصداقیة لکلّ من الاستصحاب والقاعدة ، مضافاً إلی کونه تعویلاً علی الأصل المثبت لو سلّم جریان الاستصحاب ، وعلی هذا فالمرجع خارج الوقت هو أصل البراءة بعد عدم ثبوت الفوت .
فإن قلت : أوامر القضاء تکشف عن کون ملاک الأمر الأوّل بنحو تعدّد المطلوب وکونه باقیاً ببعض مراتبه . بداهة أنّ القضاء لیس لملاک مستقلّ فی نفسه ، وعلی هذا فلا یبقی فرق بین کون القضاء بالأمر الأوّل أو بأمر جدید .
قلت : إن أردت بذلک أنّ أمر القضاء إرشاد إلی بقاء الأمر الأوّل فممنوع ، وإن أردت کونه بملاک هو من مراتب الملاک الأوّل فمسلّم ولکنّه لا یفید ؛ لبداهة الفرق بین کون القضاء بالأمر الأوّل وبین کونه بأمر جدید ، إذ علی الثانی یکون وجود الأمر مشکوکاً ولیس له حالة سابقة ، وإثباته بإثبات الفوت فی الوقت
کتابمحاضرات فی الاصول (تشتمل علی تنبیهات الاستصحاب و التعادل و الترجیح و الاجتهاد و التقلید): تقریر الابحاث الامام الخمینی (س)صفحه 292
بالاستصحاب فی الوقت قد عرفت ما فیه .
وبالجملة : فلو لا قاعدة الفراغ أیضاً کان الناس فی سعة بالنسبة إلی الصلوات الماضیة إذا وقع الشکّ خارج الوقت .
ویمکن إثبات ذلک ببیان آخر أیضاً وهو : أنّ الشکّ الناشئ من الجهل بالحکم یقع غالباً فی غیر الأرکان ، إذ أغلب الناس مطّلعون علی أرکان الصلاة ، وحینئذٍ فیجری بالنسبة إلی غیر الأرکان قاعدة «لا تعاد» أیضاً بناءً علی شمولها للجاهل کما لا یبعد .
نعم ، لو أبینا عن شمولها له أو شکّ فی کون الإخلال بالأرکان أو بغیرها کان المورد شبهة مصداقیة لقوله : «لا تعاد» وللاستصحاب فیرجع إلی البراءة أیضاً . هذا کلّه بالنسبة إلی الصلاة .
وأمّا الحجّ والصوم والزکاة والخمس : فالأغلب وقوعها علی طبق الاحتیاط حتّی من الجهّال فیقلّ وقوع الشکّ فیها .
وأمّا المعاملات : فالذی یسهّل الخطب أنّ الأغلب وقوعها بالتوکیل فیجری فیها أصالة الصحّة فی فعل الغیر ولو فرض وقوعها من نفسه .
فنقول : أمّا فیما یرجع إلی الأموال من البیع والصلح والإجارة ونحوها فلو شکّ فی صحّتها وفسادها فإن کان المال المنتقل إلیه تالفاً کان مقتضی قاعدة التجاوز عدم الضمان ، ومقتضی استصحاب ملک مالکه الضمان ، والمفروض أنّ
کتابمحاضرات فی الاصول (تشتمل علی تنبیهات الاستصحاب و التعادل و الترجیح و الاجتهاد و التقلید): تقریر الابحاث الامام الخمینی (س)صفحه 293
الشکّ من قبیل الصورة الخامسة فیکون المورد شبهة مصداقیة لکلّ منهما ، والمرجع أصالة براءة الذمّة عن الضمان للغیر وإن کان المال المنتقل إلیه موجوداً فکذلک یکون المقام شبهة مصداقیة لکلّ من قاعدتی التجاوز واستصحاب عدم التأثیر ومالکیة الغیر ، لما عرفت : من أنّ الأغلب کون الشکّ من قبیل الصورة الخامسة ، والمرجع أیضاً قاعدة الحلّیة ، إلاّ علی مذاق من یقول : «إنّ الأصل فی الأموال الحرمة» وهو ممنوع .
وأمّا فی مثل النکاح وغیره فما یرجع إلی الفروج إذا فرض وقوعها من نفسه فیشکل الأمر ، إذ بعد صیرورة المورد شبهة مصداقیة لکلّ من القاعدة واستصحاب عدم تأثیر العقد یکون المرجع أصالة الاحتیاط فی الفروج ، إذ الظاهر أنّ الأصل فیها هی الحرمة ، کما یظهر من تتبّع الموارد ، حیث یظهر أنّ بناء الشارع فیها علی المداقّة ، والذی یسهّل الخطب کما مرّ هو ما عرفت من أنّ الأغلب وقوعها بالتوکیل .
کتابمحاضرات فی الاصول (تشتمل علی تنبیهات الاستصحاب و التعادل و الترجیح و الاجتهاد و التقلید): تقریر الابحاث الامام الخمینی (س)صفحه 294