هل القاعدة أمارة أو أصل ؟
فیبقی الکلام فی أنّها أمارة تأسیسیة أو أصل محرز بنحو الإطلاق أو بالإضافة إلی ما تحقّق التجاوز بالنسبة إلیه أو أصل تعبّدی محض والمرجع فی ذلک هو الروایات .
فنقول : ألسنتها مختلفة أمّا ما تدلّ علی مجرّد المضیّ وعدم الاعتناء فمجمل من هذه الجهة ، ولا ینافی الأماریة ولا الأصلیة بأقسامها وإن کان لا یخلو عن ظهور ضعیف فی الأصل غیر المحرز ، ولکنّه بحیث یمکن أن یرفع الید عنه لو کان دلیل أقوی یدلّ علی الخلاف وکذلک قوله : «فشکّک لیس بشیء» خصوصاً بعد الجمع بینه وبین وجوب المضیّ فی روایة زرارة وما یمکن أن یستفاد منه الأماریة هو قوله فی روایة بکیر : «هو حین یتوضّأ أذکر . . .» وقوله فی روایة ابن مسلم : «وکان حین انصرف أقرب إلی الحقّ» وقوله فی روایة حمّاد : «قد رکعت امضه» ، إذ قوله : «هو حین یتوضّأ» علّة للحکم المطویّ وهو أنّه لا یعتنی بشکّه فکأنّه قیل : شکّه لیس بشیء ولا یعتنی به لأنّه کان حین العمل أذکر ، فلا محالة اُتی به ، وکذلک قوله : «وکان حین انصرف» وقوله : «قد رکعت»
کتابمحاضرات فی الاصول (تشتمل علی تنبیهات الاستصحاب و التعادل و الترجیح و الاجتهاد و التقلید): تقریر الابحاث الامام الخمینی (س)صفحه 275
بلسان الحکایة عن تحقّق الرکوع فیکشف عن جعل التجاوز أمارة حاکیة عن الواقع .
هذا ، ولکن استفادة الأماریة مشکلة ، إذ قوله : «هو حین یتوضّأ أذکر» علّة للحکم المطویّ جعلت فی موضعه ، ولو فرض التصریح به لکان إمّا بلسان «لا یعتنی» أو بلسان «فلیمض» أو بلسان «قد توضّأ» ، وعلی الأوّلین فلا یدلّ علی أزید من أصل تعبّدی محض ، وعلی الثالث یکون مفاده مفاد قوله : «قد رکعت» ولا نسلّم کون مفاد قوله : «هو حین یتوضّأ أذکر» أنّه أذکر وکلّ من کان کذلک فلا محالة اُتی به ، إذ من الواضح أنّه علیه السلام لیس بصدد الحکایة عن التحقّق من جهة وجود الأمارة علیه بل بصدد بیان الحکم .
غایة الأمر : أنّه ذکره بنحو الکنایة بجعل حکمة تشریعه مقامه ، وعلی هذا فاللازم التحقیق فی مفاد قوله : «قد رکعت» ، والظاهر أنّ مفاده الحکم بتحقّق الرکوع فی عالم التشریع والتعبّد من دون أن یکون فی البین ما یدلّ علی جعل التجاوز أمارة حاکیة عن تحقّقه خارجاً ، فمفاده أصل محرز ولکن لا مطلقاً ، بل بالنسبة إلی ما تحقّق التجاوز عن المشکوک بالنسبة إلیه لأنّه المتبادر من قوله : «ممّا قد جاوزه ودخل فی غیره» حیث علّق الحکم علی التجاوز ، فلو شکّ بعد الصلاة فی أنّه کان علی وضوء أم لا ، حکم بوجوده بالنسبة إلی الصلاة السابقة ، حیث جاوز عن محلّه بالنسبة إلیها دون الصلوات الاُخر لعدم تحقّق التجاوز عنه بالنسبة إلیها .
کتابمحاضرات فی الاصول (تشتمل علی تنبیهات الاستصحاب و التعادل و الترجیح و الاجتهاد و التقلید): تقریر الابحاث الامام الخمینی (س)صفحه 276
وبهذا البیان ظهر : أنّ القول بالکفایة بالنسبة إلی الآثار اللاحقة لا یتوقّف علی القول بالأماریة ، بل یترتّب هذا المعنی علی القول بکونه أصلاً محرزاً بنحو الإطلاق أیضاً . غایة الأمر : أنّ الأقوی خلافه ، وأنّه محرز لا بنحو الإطلاق .
وقد تلخّص ممّا ذکرنا : أنّ سائر التعابیر وراء قوله : «قد رکعت» إمّا أن ترجع إلیه أو لا تنافیه فالمدار علی مفاده ، والمستفاد منه أصل محرز بالنسبة إلی ما تحقّق التجاوز عن المشکوک بالنسبة إلیه .
إذا عرفت هذه المقدّمة ، فنقول : قد یستشکل فی جریان القاعدة فی الشروط فینکر جریانها فیها ولو بعد الفراغ من المشروط ، وهذا القول فی غایة الإفراط .
وهنا قول فی غایة التفریط ، وهو أنّه لا یعتنی بالشکّ فی الشرط مثل الوضوء مثلاً بعد التهیّؤ للمشروط فضلاً عن الدخول فیه فضلاً عن الفراغ عنه ، وأنّه یکفی نفس ذلک بالنسبة إلی غیر هذا المشروط أیضاً .
وربّما یفصّل بین الفراغ عن المشروط وبین غیره فیحکم بعدم الاعتناء فی الأوّل دون الثانی وإن کان فی الأثناء بأن دخل فی المشروط .
وربّما یفصّل بین الشروط فیحکم فی مثل الطهارة التی محلّ إحرازها شرعاً لجمیع أجزاء المشروط قبل العمل وبین غیرها ممّا یمکن أن یحرز فی الأثناء أیضاً کالستر والاستقبال .
والتحقیق هو الثالث ، وهو التفصیل بین صورة الفراغ وغیره مطلقاً ، إذ تخصیص الأخبار بخصوص الأجزاء لا وجه له بعد کون الشرط أیضاً مثل الجزء أمراً معتبراً فی المأمور به وشیئاً دخیلاً فی تحقّقه والشرط دخیل فی جمیع أجزاء المأمور به ، فما لم یتحقّق الفراغ عنه لم یتحقّق التجاوز عنه بالنسبة إلی الجمیع .
کتابمحاضرات فی الاصول (تشتمل علی تنبیهات الاستصحاب و التعادل و الترجیح و الاجتهاد و التقلید): تقریر الابحاث الامام الخمینی (س)صفحه 277
وقد عرفت : أنّ مفاد القاعدة لیس إحراز المشکوک بنحو الإطلاق ، بل بالنسبة إلی خصوص ما تحقّق التجاوز عن المشکوک بالنسبة إلیه ، وأمّا التفصیل بین الشروط فهو أیضاً لا وجه له ، إذ الشرط حقیقة عبارة عن تقیّد مثل الصلاة ونحوها بالوقوع من المصلّی المتطهّر الساتر المستقبل للقبلة لا نفس الطهارة والوضوء والستر ونحوها ، إذ شرط المأمور به یجب أن یکون من قیوده وأوصافه المقسّمة له .
وعلی هذا فلا یبقی فرق بین الشروط المنتزعة من أمر خارج عن المأمور به وبین غیرها ، إذ المأمور به بالأمر الغیری الشرطی لیس هو الأمر الخارجی ، بل ما ینتزع عنه ویکون صفة للمأمور به ، ولو سلّم تعلّق الأمر الشرطی بذلک الأمر الخارجی من جهة کونه منشأ لانتزاع الشرط ، والأمر بإیجاده أمر بإیجاد منشئه ، إذ وجود الأمر الانتزاعی بوجود منشأ انتزاعه فلا یجدی ذلک أیضاً فی الفرق بین نحوی الشرط ، إذ لا یقتضی ذلک الأمر شرعاً بتقدیم هذا الأمر الخارجی علی المشروط حتّی یکون بینهما ترتّب شرعی ، إذ غایة ما تقتضیه الشرطیة هو المقارنة لا التقدیم ، والحاکم بالتقدیم هو العقل لیتمکّن من الإتیان بالمشروط مقارناً لشرطه . وقد عرفت : أنّ الترتّب العقلی أو العادی لا یکفی وإنّما الواجب التجاوز عن المحلّ الشرعی .
وربّما یستدلّ علی اعتبار التقدیم فی الوضوء شرعاً بقوله : «إِذَا قُمْتُمْ إِلَی الصَّلاةِ فَاغْسِلُوا وُجُوهَکُمْ . . .» . وفیه ما لا یخفی .
نعم ، یمکن الاستدلال له بالروایات الدالّة علی کون افتـتاح الصلاة
کتابمحاضرات فی الاصول (تشتمل علی تنبیهات الاستصحاب و التعادل و الترجیح و الاجتهاد و التقلید): تقریر الابحاث الامام الخمینی (س)صفحه 278
بالوضوء واختـتامها بالتسلیم ، فتأمّل .
فإن قلت : ما ذکرت من عدم الفرق بین الشروط وإرجاع جمیعها إلی أوصاف المأمور به یؤیّد القول الأوّل ؛ أعنی إنکار جریان القاعدة فی الشروط مطلقاً کما علیه صاحبا «المدارک» و«کشف اللثام» .
قلت : لا نسلّم ذلک ، إذ لا مانع من شمول القاعدة للأوصاف بعد اعتبار الشارع لها ، ونمنع عدم شمول الشیء فی قوله : «کلّ شیء شککت فیه» لها ، إذ بعد اعتبار الشارع إیّاها فی المأمور به یعتبر لها الشیئیة ، وإن سلّم عدم اعتبارها لها قبل ذلک والتجاوز عن الوصف إنّما یتحقّق بالفراغ من الموصوف ، إذ محلّ الإتیان بالوصف زمان الاشتغال بالموصوف .
وممّا ذکرنا یظهر : أنّ ما ذکره الشیخ قدس سره فی الموضع السادس بعد عنوان أنّ الشکّ فی الصحّة هل یلحق بالشکّ فی أصل الإتیان أم لا ؟ من قوله : «ومحلّ الکلام ما لا یرجع فیه الشکّ إلی الشکّ فی ترک بعض ما یعتبر فی الصحّة کما لو شکّ فی تحقّق الموالاة المعتبرة فی الکلمات والحروف» فاسد جدّاً ، إذ بعد شمول قاعدة التجاوز الموضوعة للشکّ فی الإتیان لجمیع ما اعتبر فی المأمور به حتّی الأوصاف کالجهر فی القراءة والموالاة ونحوها لا یبقی لنا موضع یکون الشکّ فی الصحّة مستنداً إلی غیر الشکّ فی الإتیان .
کتابمحاضرات فی الاصول (تشتمل علی تنبیهات الاستصحاب و التعادل و الترجیح و الاجتهاد و التقلید): تقریر الابحاث الامام الخمینی (س)صفحه 279
فإن قلت : قد ذکرت أنّ المراد بالمحلّ فی قاعدة التجاوز المحلّ الشرعی ومحلّ «بر» من «أکبر» مثلاً وإن کان بعد «أکـ » بلا فصل مخلّ بالتوالی ، إلاّ أنّ ذلک لیس بجعل شرعی وإنّما الترتیب والموالاة یعتبران بین الحروف والکلمات عقلاً ، بمعنی أنّ صیرورة الحروف کلمة والکلمات جملة تتوقّف عقلاً علی مراعاتهما .
قلت : أمر الشارع بإیجاد الکلمة والجملة إمضاء للترتیب والموالاة فکأنّهما من المجعولات الشرعیة . بداهة أنّ المأمور به لیس صرف إیجاد الحروف ، بل إیجادها بنحو یحدث منها کلمة خاصّة أو جملة .
وقد یقال : إنّ المحلّ العقلی کالشرعی بلا إشکال ، وإنّما المستشکل فیه هو العادی ، وبذلک یصحّح مثال الوضوء إذا شکّ فیه فی أثناء الصلاة لتقدّمه علیها عقلاً وفیه ما لا یخفی .
کتابمحاضرات فی الاصول (تشتمل علی تنبیهات الاستصحاب و التعادل و الترجیح و الاجتهاد و التقلید): تقریر الابحاث الامام الخمینی (س)صفحه 280