الأمر الثالث فی أنّ المراد من المحلّ هو المحلّ الشرعی
هل المراد بالمحلّ المحلّ المقرّر شرعاً أو الأعمّ منه ومن المحلّ العقلی والعادی لأغلب الناس أو للشخص أیضاً ؟ فیه وجوه :
قد یقال : أنّ المراد به هو الأعمِّ، فإنّ کلام الشارع منزّل علی المعانی العرفیة فإذا لم یقرّر فی الشرع محلّ لشیء ، ولکنّه کان بناء النوع أو خصوص هذا المکلّف علی إتیانه فی محلّ مخصوص فیصدق أنّ لهذا الشیء محلاًّ ولو بالنسبة إلی هذا الشخص فیشمله العمومات .
وربّما یخصّ ذلک بالمحلّ النوعی ، إذ الملاک صدق المحلّیة بنحو الإطلاق بحیث یقال : محلّ هذا العمل کذا وهذا المعنی لا یصدق فی المحلّ الشخصی فلا یشمل الروایات لمن اعتاد علی إتیان عمل عقیب صلاته فرأی نفسه فیه وشکّ فیها أو اعتاد الوضوء عقیب الحدث بلا فصل أو الوضوء قبل الوقت للتهیّؤ ، وتشمل لمن شکّ فی الجزء الأخیر من الغسل بعد فوات الموالاة ، إذ بناء النوع علی الموالاة فیه وإن لم تجب شرعاً .
والتحقیق أن یقال : إنّه لمّا وقع لفظ التجاوز عن الشیء فی کلام الشارع وکان
کتابمحاضرات فی الاصول (تشتمل علی تنبیهات الاستصحاب و التعادل و الترجیح و الاجتهاد و التقلید): تقریر الابحاث الامام الخمینی (س)صفحه 266
ذلک بعنایة المحلّ فلا محالة یراد منه المحلّ الشرعی ، إذ لو فرض عدم انقضاء المحلّ الشرعی للشیء کما فی مثال الغسل فلا یصدق أنّه تجاوز محلّه بعد ما جعل الشارع للشیء محلاًّ وسیعاً .
اللهمّ إلاّ أن یقال : إنّ المذکور فی الأخبار لفظ التجاوز عن الشیء ، ولیس فیها لفظ المحلِّ، ولا نسلّم تقدیره لبشاعة ذلک ، وإنّما المنسوب إلیه لفظ التجاوز هو نفس الشیء ولکن بعنایة ما ، وذلک یختلف بحسب الموارد فربّما ینسب إلیه بعنایة تجاوز محلّه الشرعی ، وربّما ینسب إلیه بعنایة التجاوز عن الکلّ عرفاً إذا کان المشکوک فیه جزءاً یسیراً لا یضرّ فواته بصدق التجاوز عن الکلّ کما إذا شکّ بعد فوات الموالاة فی الغسل فی الإتیان بجزء یسیر من الطرف الأیسر ، ففرق بیّن بین هذه الصورة وصورة الشکّ فی تمام الطرف الأیسر ، إذ فی الأوّل یصحّ إسناد التجاوز إلی الجزء بعنایة التجاوز عن الکلّ عرفاً وإن لم یتجاوز عنه حقیقة ، وربّما ینسب بعنایة التجاوز عن المحلّ المعتاد للشخص .
وبعبارة اُخری : التجاوز عن المحلّ المقرّر له بحسب إرادة الشخص ، إذ الفعل معلول للإرادة فمن أراد إتیان مرکّب اعتباری أو أمرین مترتّبین عند الشارع أو فی خیال نفسه فلا محالة یوجد المترتّبات فی مقام الإرادة مترتّبة ، والعادة تقتضی مطابقة النظام الخارجی للنظام الإرادی فیوجد الشیء المرکّب علی حسبما أراده إجمالاً ، ولازم ذلک کفایة التجاوز عن المحلّ العادی الشخصی دون النوعی إذا لم یستقرّ عادة هذا الشخص علیه لصدق التجاوز عن الشیء فی الأوّل دون الثانی .
ویظهر من مجموع الأخبار : أنّ الإنسان إذا أراد بالإرادة الإجمالیة إتیان
کتابمحاضرات فی الاصول (تشتمل علی تنبیهات الاستصحاب و التعادل و الترجیح و الاجتهاد و التقلید): تقریر الابحاث الامام الخمینی (س)صفحه 267
شیء فی محلّ خاصّ ثمّ شکّ بعد التجاوز عن هذا المحلّ فی إتیانه وصدوره عنه علی طبق إرادته وجب علیه أن یبنی علی الإتیان به .
ولعلّه إلی ذلک أشار فخرالمحقّقین قدس سره حیث قال : «خرق العادة علی خلاف الأصل» ، وهو المستفاد أیضاً من قوله فی الموثّقة : «هو حین یتوضّأ أذکر منه حین یشکّ» .
ثمّ إنّه یمکن أن یستدلّ علی کون المراد بالمحلِّ، الأعمّ من المقرّر شرعاً بما فی روایة زرارة السابقة حیث قال : «ما دمت فی حال الوضوء فإذا قمت من الوضوء وفرغت منه وقد صرت فی حال اُخری فی الصلاة أو فی غیرها . . .» ، فإنّه علیه السلام جعل الملاک الخروج من حال الوضوء والدخول فی حال اُخری وإن لم تکن أمراً مترتّباً علی الوضوء ، بناءً علی عدم کون المراد بغیرها خصوص ما یکون مثل الصلاة فی الترتّب علی الوضوء شرعاً . والذی یشهد لذلک أنّه علّق الاعتناء علی کونه فی حال الوضوء فیکون الموضوع لعدم الاعتناء بقرینة المقابلة مطلق الدخول فی حالة اُخری أیّة حالة کانت .
ولا یخفی : أنّ الاستدلال بذلک إنّما یتمّ بناءً علی شمول الروایة لصورة الشکّ فی الجزء الأخیر فیدلّ الروایة علی أنّ الدخول فی الغیر المعتبر فی قاعدة
کتابمحاضرات فی الاصول (تشتمل علی تنبیهات الاستصحاب و التعادل و الترجیح و الاجتهاد و التقلید): تقریر الابحاث الامام الخمینی (س)صفحه 268
التجاوز یراد به الدخول فی أیّ غیر کان ، إذ لا خصوصیة لباب الوضوء ، وعلی هذا فیظهر حکم باب الغسل أیضاً ، إذا شکّ بعد فوات الموالاة فی بعض الطرف الأیسر ممّا لا یضرّ فواته بصدق الخروج عن حالة الغسل والدخول فی حالة اُخری فلا یعتنی به وإن لم یعتبر فی الغسل الموالات .
اللهمّ إلاّ أن یقال : بعد ما لم یعتبر الشارع الموالات فی باب الغسل یصیر حکمه بعد فواتها حکم الوضوء قبل فواتها . ولا یخفی : أنّه مادام یبقی وقت التیمّم لا یصدق أنّه دخل فی حالة اُخری ، إذ الدخول فیها إنّما هو بالخروج عن الحالة الواقعیة المعتبرة شرعاً للوضوء والغسل فمادام یبقی وقت تتمیمهما وتدارک ما فات منهما یصدق شرعاً أنّه علی حالهما .
وعلی هذا فالمراد بالدخول فی حالة اُخری فی الوضوء هو الدخول فیها بحیث فات الموالات ، وهذا المعنی لا أثر له فی الغسل لعدم اعتبار الموالات فیه ، فلا تفید الروایة فی باب الغسل شیئاً ، ولو سلّم فلا یختصّ بما إذا کان الشکّ فی بعض الطرف الأیسر ، بل یصدق فیما إذا شکّ فی تمامه ، إذ معنی الدخول فی حالة اُخری عدم کونه مشتغلاً بالغسل وکونه مشتغلاً بغیره فتفید الروایة ولو شکّ فی تمام الأیسر ، فتدبّر .
فإن قلت : الظاهر من قوله فی الروایة : «فإذا قمت من الوضوء وفرغت منه . . .» کونها بصدد بیان قاعدة الفراغ لا التجاوز . غایة الأمر : کونها بصدد بیان الفراغ بالمعنی الصحیح وهو کون المجعول نفس الجزء ؛ غایة الأمر عند الفراغ .
قلت : قد عرفت أنّ لنا قاعدة واحدة ساریة فی جمیع الأبواب حتّی الوضوء وهی قاعدة التجاوز . غایة الأمر : تقیـیدها بالنسبة إلی الوضوء وما تذکره من
کتابمحاضرات فی الاصول (تشتمل علی تنبیهات الاستصحاب و التعادل و الترجیح و الاجتهاد و التقلید): تقریر الابحاث الامام الخمینی (س)صفحه 269
الفراغ بالمعنی الصحیح لا یرجع إلاّ إلی قاعدة التجاوز مقیّدة بالفراغ .
فإن قلت : یجب أن یتصوّر قاعدة اُخری وراء قاعدة التجاوز لعدم جریان قاعدة التجاوز فی الأوصاف والشرائط التی لیس لها منشأ انتزاع وراء نفس المشروط .
قلت : أوّلاً : نمنع من عدم جریانها فیها وسیأتی وجهه .
وثانیاً : لو لم تجر هی فلم تجر قاعدة الفراغ بالمعنی الصحیح أیضاً ، إذ اللازم فیها أیضاً کون المشکوک والمجعول نفس الجزء لا صحّة الکلّ لما عرفت من أنّ الصحّة غیر قابلة للجعل .
کتابمحاضرات فی الاصول (تشتمل علی تنبیهات الاستصحاب و التعادل و الترجیح و الاجتهاد و التقلید): تقریر الابحاث الامام الخمینی (س)صفحه 270