تفسیر قاعدة الفراغ
توضیح ذلک : أنّ ما یمکن أن یقال فی تفسیر قاعدة الفراغ وجهان :
الوجه الأوّل : أن یکون المراد بها أصالة الصحّة فی عمل نفس المکلّف ، بأن یکون المجعول من قبل الشارع هو صحّة العمل الذی شکّ فی صحّته وتمامیته ، فیکون متعلّق الشکّ هو نفس صحّة العمل وواجدیته للأجزاء والشرائط ، والمجعول تعبّداً أیضاً نفس الصحّة والتمامیة . وهذا المعنی هو الظاهر من کلمات أکثر المتأخّرین منهم الشیخ قدس سره .
ویرد علیه : أوّلاً : أنّ الصحّة لیست حکماً شرعیاً تناله ید الجعل ولا موضوعاً لحکم شرعی حتّی یکون التعبّد بها باعتبار آثارها .
وما یری فی بعض الکلمات من کون الصحّة من الأحکام الوضعیة فاسد ، إذ الحکم الشرعی عبارة عمّا یکون جعله بید الشارع إمّا مستقلاًّ وإمّا تبعاً بأن
کتابمحاضرات فی الاصول (تشتمل علی تنبیهات الاستصحاب و التعادل و الترجیح و الاجتهاد و التقلید): تقریر الابحاث الامام الخمینی (س)صفحه 251
یکون منتزعاً عن مجعول شرعی ، والصحّة معنی ینتزع عن عمل المکلّف ، إذ هی عبارة عن مطابقة عمله المأتی به للمأمور به ، وقبل إتیان المکلّف للفعل لا یتّصف الفعل بصحّة ولا فساد مع أنّ المجعول الشرعی وهو الوجوب ثابت قبله.
وثانیاً : أنّه بناءً علی سریان قاعدة التجاوز فی جمیع أبواب الفقه حتّی فی الوضوء علی ما ذکرنا من التقیـید کما هو المختار ، والمستفاد من عمومات الأدلّة کما عرفت تکون قاعدة الفراغ بهذا المعنی محکومة دائماً بقاعدة التجاوز فیصیر جعلها لغواً ، إذ الشکّ فی الصحّة مسبّب عن الشکّ فی إتیان جزء أو شرط دائماً .
فإن قلت : بین القاعدتین عموم من وجه لاجتماعهما فیما إذا شکّ فی وجود جزء من أجزاء المرکّب سوی الأخیر منها بعد ما فرغ من المرکّب ، وافتراق قاعدة التجاوز فیما إذا شکّ فی جزء منها بعد التجاوز عنه وقبل الفراغ، وافتراق قاعدة الفراغ فیما إذا شکّ فی وجود وصف کاستقبال القبلة وکالجهر بالقراءة بعد الفراغ عن الموصوف کالقراءة مثلاً ، وفیما إذا شکّ فی الجزء الأخیر من العمل إذا کان بحیث لا یضرّ عدمه بصدق الفراغ عرفاً کالسلام مثلاً إذا وقع الشکّ قبل الدخول فی الغیر .
قلت : أمّا ما ذکرت من خروج الشکّ فی الوصف عن کونه مورداً لقاعدة التجاوز فدعوی بلا برهان ، وعمومات الباب تشمل مثل ذلک أیضاً ، فإنّ التجاوز عن محلّ الوصف یتحقّق بالفراغ عن الموصوف ، فمن فرغ من القراءة ، ثمّ شکّ فی وقوعها جهراً أو تجاه القبلة یکون شکّه بالنسبة إلیهما بعد التجاوز عن
کتابمحاضرات فی الاصول (تشتمل علی تنبیهات الاستصحاب و التعادل و الترجیح و الاجتهاد و التقلید): تقریر الابحاث الامام الخمینی (س)صفحه 252
المحلّ فإنّ محلّ الإتیان بالوصف هو حال الاشتغال بالموصوف .
وأمّا ما ذکرت من افتراق قاعدة الفراغ فی الجزء الأخیر ، فیرد علیه : أوّلاً : أنّا لا نسلّم صدق الفراغ مع الشکّ فی إتیان الجزء الأخیر الذی هو المحقّق للفراغ خصوصاً إذا کان جزءاً وجوبیاً .
وثانیاً : أنّه لو سلّم صدق الفراغ حینئذٍ لصدق التجاوز أیضاً ، فتأمّل .
فإن قلت : بناءً علی اعتبار الدخول فی الغیر فی قاعدة التجاوز تفترق القاعدتان فی هذا الجزء الأخیر .
قلت : الدخول فی الغیر کما هو مذکور فیما استدلّ به لقاعدة التجاوز ، مذکور أیضاً فیما استدلّ به لقاعدة الفراغ کموثقة ابن أبی یعفور ، فإن اعتبر فی هذا یجب أن یعتبر فی ذاک أیضاً ، وسیأتی البحث عن ذلک .
الوجه الثانی فی تفسیر قاعدة الفراغ أن یقال : إنّ المجعول فیها وجوب البناء عملاً علی إتیان الجزء أو الشرط بعد الفراغ من العمل المرکّب المعتبر فیه هذا الشرط أو الجزء فیکون المشکوک فی هذه القاعدة أیضاً نفس الإتیان بالجزء أو الشرط کما فی قاعدة التجاوز لا صحّة مجموع العمل .
غایة الأمر : أنّ وجوب المضیّ فی قاعدة التجاوز معلّق علی التجاوز عن المشکوک ، وفی قاعدة الفراغ علی الفراغ عن المرکّب ، ویمکن أن یستدلّ علی حجّیة قاعدة الفراغ بهذا المعنی بموثّقة ابن أبی یعفور السابقة ، وکذلک الروایة الرابعة ممّا ذکرنا ویدلّ علیها فی خصوص باب الصلاة ما رواه الشیخ بإسناده
کتابمحاضرات فی الاصول (تشتمل علی تنبیهات الاستصحاب و التعادل و الترجیح و الاجتهاد و التقلید): تقریر الابحاث الامام الخمینی (س)صفحه 253
عن أحمد بن محمّد ، عن الحسن بن محبوب ، عن علی بن رئاب ، عن محمّد بن مسلم ، عن أبی جعفر علیه السلام ، قال : «کلّما شککت فیه بعد ما تفرغ من صلاتک فامض ولا تعد» ، بل وکذلک الروایة التی ذکرها فی «وسائل الشیعة» قبل هذه ، فراجع .
وتفسیر قاعدة الفراغ بهذا المعنی یوجب سلامتها من کلا الإشکالین ، إذ لیس المجعول علی هذا عبارة عن الصحّة ، ولیس متعلّق الشکّ عبارة عن صحّة نفس المرکّب حتّی یقال بکونه مسبّباً عن الشکّ فی الجزء والشرط ، بل المشکوک نفس الجزء والمجعول وجوب البناء علی إتیانه .
نعم ، بناءً علی عموم قاعدة التجاوز لجمیع أبواب الفقه یرد إشکال اللغویة فی جعل قاعدة الفراغ بهذا المعنی أیضاً ، سواء جعلت فی خصوص الصلاة أو مطلقاً ، کما لا یخفی .
وأمّا بناءً علی اختصاص قاعدة التجاوز بباب الصلاة فلا یکون جعل قاعدة الفراغ بنحو العموم لغواً لصیرورة النسبة بینهما عموماً من وجه فتجتمعان فیما إذا شکّ فی جزء من الصلاة بعد الفراغ ، وتفترقان فیما إذا وقع الشکّ فی جزء من الصلاة قبل الفراغ ، وفیما إذا وقع الشکّ فی جزء من أجزاء غیر الصلاة بعد الفراغ ولا مانع من جعل قاعدتین کذلک .
کتابمحاضرات فی الاصول (تشتمل علی تنبیهات الاستصحاب و التعادل و الترجیح و الاجتهاد و التقلید): تقریر الابحاث الامام الخمینی (س)صفحه 254
وبالجملة : یصیر المحتمل علی هذا التفسیر بحسب مقام الثبوت أمرین :
الأوّل : أن یکون المجعول عبارة عن قاعدة واحدة ساریة فی جمیع أبواب الفقه وهی قاعدة التجاوز . غایة الأمر : تقیـیدها فی خصوص الوضوء بما بعد الفراغ .
الثانی : أن یکون المجعول قاعدتین ، إحداهما : قاعدة التجاوز فی خصوص باب الصلاة ، والاُخری : قاعدة الفراغ فی جمیع الأبواب .
هذا بحسب مقام الثبوت .
وأمّا بحسب مقام الإثبات فالمتعیّن هو الأوّل لما عرفت من أنّ اتّحاد سیاق الروایات وتعابیرها تدلّ علی کونها بصدد بیان قاعدة واحدة . ولا ریب أنّ مثل روایة زرارة وابن جابر صریحتان فی قاعدة التجاوز فجمیعها مسوق لبیان ذلک ، وعلی هذا فیحمل المضیّ فی قوله فی روایة ابن مسلم : «کلّما شککت فیه ممّا قد مضی فامضه کما هو» علی مضیّ المحلّ ولا بعد فیه ولا ینافی ذلک قوله : «فامضه» . ویدل علی ذلک وقوع التعبیر فیما رواه الشیخ عن الحسین بن سعید ، عن صفوان ، عن حمّاد بن عثمان ، قال : قلت لأبی عبدالله علیه السلام : أشکّ وأنا ساجد فلا أدری رکعت أم لا ؟ فقال : «قد رکعت ، امضه» .
ثمّ إنّ ظهورها فی العمومیة لجمیع الأبواب قد عرفت تقریبه حتّی بالنسبة إلی الوضوء ، لما عرفت من أنّ الثابت بالنسبة إلیه هو التقیـید لا التخصیص ،
کتابمحاضرات فی الاصول (تشتمل علی تنبیهات الاستصحاب و التعادل و الترجیح و الاجتهاد و التقلید): تقریر الابحاث الامام الخمینی (س)صفحه 255
وإنّما دلّ علی هذا التقیـید بالنسبة إلی خصوص الوضوء الإجماع والروایة ، ولا دلیل علی إلحاق غیره به حتّی الغسل والتیمّم ، فالحقّ جریان قاعدة التجاوز بلا تقیـید فی جمیع أبواب الفقه من العبادات والمعاملات سوی الوضوء حیث تکون فیه مقیّدة بالفراغ .
وینبغی التنبیه علی اُمور :
کتابمحاضرات فی الاصول (تشتمل علی تنبیهات الاستصحاب و التعادل و الترجیح و الاجتهاد و التقلید): تقریر الابحاث الامام الخمینی (س)صفحه 256