الجهة السادسة : فی الأخبار الواردة فیها
وأمّا ما تدلّ علیها من الأخبار ، فهی علی طوائف ثلاثة :
الاُولی : ما یستفاد منها أماریتها وهی الأکثر .
کتابمحاضرات فی الاصول (تشتمل علی تنبیهات الاستصحاب و التعادل و الترجیح و الاجتهاد و التقلید): تقریر الابحاث الامام الخمینی (س)صفحه 196
الثانیة : ما یستفاد منها الأصلیة .
الثالثة : ما لا ینافی واحدة منهما ، ثمّ ما یستفاد منها الأصلیة أیضاً لیس فیها إلاّ صرف الإشعار بها فیمکن إرجاعها إلی الأماریة ، فالأقوی فی النظر کونها أمارة ولو بمقتضی الأخبار فلنشر إلی تلک الطوائف منها لیتدبّر فیها :
الروایة الاُولی : ما رواه الشیخ بإسناده عن علی بن الحسن ، عن محمّد بن الولید ، عن یونس بن یعقوب عن أبی عبدالله علیه السلام فی امرأة تموت قبل الرجل أو رجل قبل المرأة ، قال : «ما کان من متاع النساء فهو للمرأة ، وما کان من متاع الرجال والنساء فهو بینهما ، ومن استولی علی شیء منه فهو له» .
وهذه الروایة أظهر ما فی الباب من جهة الدلالة علی حجّیة الید وعلی أماریتها .
أمّا الاُولی فواضحة بعد إلغاء خصوصیة کون الطرفین المتخاصمین زوجین وکون المستولی علیه متاع البیت ، فیستکشف من الروایة أنّ الاستیلاء بما هو هو تمام الموضوع فی الدلالة علی الملکیة والاختصاص .
وأمّا وجه دلالتها علی أماریة الید ، فلأنّ الأصل والأمارة وإن اشترکا فی کون الأمر فیهما بلحاظ ترتیب الآثار ولکنّهما یفترقان بحسب لسان الدلیل ، فإنّ لسان دلیل الأصل جعل وظیفة عملیة عند الشکّ فی الواقع من دون نظر إلی الوصول إلیه ، ولسان دلیل الأمارة کونها موصلة إلی الواقع وکونه عندها . ولا یخفی أنّ مفاد الروایة هو الثانی .
کتابمحاضرات فی الاصول (تشتمل علی تنبیهات الاستصحاب و التعادل و الترجیح و الاجتهاد و التقلید): تقریر الابحاث الامام الخمینی (س)صفحه 197
وبعبارة اُخری : قوله : «فهو له» ظاهر فی إثبات الملکیة لا وجوب ترتیب آثارها ، فمفاده کون الاستیلاء دلیلاً علی الملکیة .
ثمّ إنّ هاهنا إشکالاً فی صدر الروایة وهو أنّ من المسائل المقرّرة فی کتاب القضاء : أنّ العین إذا کانت فی ید شخصین وادّعی کلّ منهما أنّها له فإن لم یکن لهما بیّنة حکم بکونها لهما بالتناصف ، إمّا من جهة أنّ لکلٍّ منهما یداً مستقلّة بالنسبة إلی الکلّ أو من جهة أنّه یعتبر ید کلٍّ منهما علی النصف المشاع فتکون بالنسبة إلی النصف الآخر خارجة .
وبالجملة : فالحکم هو التنصیف ، وذلک من غیر فرق بین کون جمیع ما فی الید أو بعضه من مختصّات أحدهما وبین غیره ، وظاهر هذه الروایة أنّ المتاع مع کونه تحت یدیهما یحکم بکون المختصّات بالنساء للنساء وکون المشترکات بینهما لهما .
نعم ، ما کان فی ید واحدٍ منهما فهو له مطلقاً ، کما دلّ علیه ذیلها .
أقول : التحقیق عدم ورود الإشکال ، فإنّ ذیل الروایة یدلّ بإطلاقه علی أنّ کلِّ: «من استولی علی شیء فهو له» ولم یعتبر فیه الوحدة والتعدّد ، فإذا استولی شخص واحد علی شیء فهو له ، وإذا استولی علیه اثنان فهو لهما بالتناصف ، وهکذا من غیر فرق بین المختصّات والمشترکات ولیس فی الصدر ما ینافی ذلک ، فإنّه بصدد بیان صورة الجهل بالید وعدم العلم بأنّ جمیع المتاع کان فی یدیهما أو فی ید واحد منهما فجعل الاختصاص دلیلاً علی الید وأمارة علی الأمارة ، وفی صورة الاشتراک حیث لا أمارة معیّنة للید . وبالأخرة لا حجّة فی البین حکم علی طبق القاعدة بالتنصیف فیصیر محصّل الروایة صدراً وذیلاً أنّ
کتابمحاضرات فی الاصول (تشتمل علی تنبیهات الاستصحاب و التعادل و الترجیح و الاجتهاد و التقلید): تقریر الابحاث الامام الخمینی (س)صفحه 198
الید إذا اُحرزت لواحد منهما فهی دلیل علی الملکیة ، سواء کانت فی المختصّات أو المشترکات ، وأمّا إذا لم تحرز بأن کان هنا متاع فی الدار مثلاً وکان فیها زوجان ولم یعلم أنّه کان فی یدیهما أو فی ید هذا أو فی ید ذاک ، ثمّ تخاصما أو تخاصم ورثتهما فاختصاص بعض الأمتعة بواحد منهما أمارة علی کونه ذا الید دون الآخر فیحکم به له . وفی المشترکات حیث لا أمارة علی اختصاص الید والاستیلاء فیحکم بکون کلیهما ذا الید علیها من جهة کونها فی دار استولیا علیها وجداناً والاستیلاء علی المکان استیلاء علی ما فیه ما لم یحرز خلافه .
فإن قلت : لِم لا یجعل اختصاص بعض الأمتعة بواحد منهما دلیلاً علی ملکیته من دون توسیط الید ، وما وجه جعل الاختصاص أمارة علی الید التی هی أمارة الملکیة ؟
قلت : من الواضح عدم کون الاختصاص أمارة فی قبال الید ، ولذا لو فرضنا فی حجرة الحدّاد کتاباً مثلاً فادّعی علیه بعض الطلبة أو فی حجرة الطلبة ما یختصّ بالحمّامی فادّعاه الحمّامی لا یحکم بقبول قول المدّعی ، بل الید أمارة علی الملکیة والبیّنة علی الخارج المدّعی .
فإن قلت : لا ینافی ذلک أماریة الاختصاص أیضاً لاحتمال کون الید أقوی .
قلت : کلاّ إذا کانت الید معلومة فلا حکم للاختصاص أصلاً . ألا تری أنّه لو اُحرز ید کلّ من الشریکین فی دار علی جمیع أمتعتها وکان بعضها ممّا یختصّ بواحد منهما لا یحکم به لخصوصه لو تخاصما ، فالاختصاص بنفسه لیس أمارة علی الملکیة لا عند العقلاء ولا عند الشارع .
وغایة ما یستفاد من الروایة وأمثالها المعمول بها عند الأصحاب ، أماریة
کتابمحاضرات فی الاصول (تشتمل علی تنبیهات الاستصحاب و التعادل و الترجیح و الاجتهاد و التقلید): تقریر الابحاث الامام الخمینی (س)صفحه 199
الاختصاص للید وتشخیصها به عند الجهل بها . ولا یخفی : أنّ بذلک ینفتح باب فی کتاب القضاء . بداهة أنّ خصوصیة کون المتداعیـین زوجین والمتنازع فیه متاع البیت ملغاة بنظر العرف فکلّما تداعی اثنان علی أمتعة موجودة فی مکان یشترکان فیه ولم یحرز کونها تحت یدیهما أو ید واحد منهما یستکشف بالاختصاص ید المختصِّ، وفی صورة الاشتراک یحکم بکون کلیهما معاً ذا الید ، وأمّا إذا اُحرز کونهما معاً ذوی الید فلا أثر للاختصاص أصلاً ، فتدبّر .
الروایة الثانیة : ما رواه محمّد بن یعقوب ، عن علی بن إبراهیم ، عن أبیه ، وعن محمّد بن إسماعیل ، عن الفضل بن شاذان جمیعاً عن ابن أبی عمیر ، عن عبدالرحمن بن الحجّاج ، عن أبی عبدالله علیه السلام ، قال : سألنی ، هل یقضی ابن أبی لیلی بالقضاء ثمّ یرجع عنه ؟ فقلت له : بلغنی أنّه قضی فی متاع الرجل والمرأة إذا مات أحدهما فادّعاه ورثة الحیّ وورثة المیّت أو طلّقها الرجل فادّعاه الرجل وادّعته المرأة بأربع قضایا ، فقال : «وما ذاک» قلت : أمّا أولاهنّ فقضی فیه بقول إبراهیم النخعی کان یجعل متاع المرأة الذی لا یصلح للرجل للمرأة ومتاع الرجل الذی لا یصلح للنساء للرجل ، وما کان للرجال والنساء بینهما نصفان ، ثمّ بلغنی أنّه قال : إنّهما مدّعیان جمیعاً فالذی بأیدیهما جمیعاً بینهما نصفان ، ثمّ قال : الرجل صاحب البیت والمرأة الداخلة علیه وهی المدّعیة فالمتاع کلّه للرجل إلاّ متاع النساء الذی لا یکون للرجال فهو للمرأة ، ثمّ قضی بعد ذلک بقضاء لو لا أنّی شهدته لم أروه علیه : ماتت امرأة منّا ولها زوج وترکت متاعاً فرفعته إلیه ، فقال : کتبوا المتاع فلمّا قرأه قال للزوج : هذا یکون للرجال والمرأة
کتابمحاضرات فی الاصول (تشتمل علی تنبیهات الاستصحاب و التعادل و الترجیح و الاجتهاد و التقلید): تقریر الابحاث الامام الخمینی (س)صفحه 200
فقد جعلناه للمرأة إلاّ المیزان فإنّه من متاع الرجل فهو لک .
فقال لی : «فعلی أیّ شیء هو الیوم ؟» .
فقلت : رجع ـ إلی أن قال بقول إبراهیم النخعی ـ : أن جعل البیت للرجل ، ثمّ سألته عن ذلک ، فقلت له : ما تقول أنت فیه ؟
فقال : «القول الذی أخبرتنی أنّک شهدته وإن کان قد رجع عنه» .
فقلت : یکون المتاع للمرأة ؟ فقال : «أرأیت إن أقامت بیّنة إلی کم کانت تحتاج» ؟
فقلت : شاهدین ، فقال : «لو سألت مَن بین لابتیها ـ یعنی الجبلین ونحن یومئذٍ بمکّة ـ لأخبروک أنّ الجهاز والمتاع یهدی علانیة من بیت المرأة إلی بیت زوجها فهی التی جاءت به ، وهذا المدّعی فإن زعم أنّه أحدث فیه شیئاً فلیأت علیه البیّنة» .
ووجه دلالتها علی حجّیة الید أنّ الإمام علیه السلام استدلّ لکون المتاع للمرأة بما هو معلوم عند الناس من أنّها هی التی جاءت به . ولا یخفی : أنّ المعلوم عندهم لیس أزید من ثبوت یدها علیه حینما جاءت به إلی بیت زوجها ، فالحکم بکونه لها دون زوجها لیس إلاّ لاستصحاب یدها .
ثمّ إنّه ربّما یتوهّم معارضة هذا الحدیث لسابقه ، حیث دلّ السابق علی کون المختصّات بالرجال للرجال وبالنساء للنساء والمشترکات بینهما ، وهذا یدلّ علی کون المتاع مطلقاً للمرأة .
کتابمحاضرات فی الاصول (تشتمل علی تنبیهات الاستصحاب و التعادل و الترجیح و الاجتهاد و التقلید): تقریر الابحاث الامام الخمینی (س)صفحه 201
ویدفع بأنّ المورد فی الحدیث السابق صورة کون تحقّق الید مجهولاً فاُرید إثباته بالاختصاص کما مرِّ، وأمّا فیما نحن فیه ، فقد فرض تحقّقها سابقاً للمرأة من جهة ما هو المرسوم سابقاً فی مکّة من إهداء المرأة المتاع من بیت أبیها فاُحرزت بالاستصحاب ولهذا قرّر علیه السلام حکم أبی لیلی بالنسبة إلی المیزان الذی هو من مختصّات الرجال من جهة عدم کونه من متاع البیت ومن الجهاز الذی تأتی به المرأة ، ومن المعلوم عدم خصوصیة للمیزان ، بل یجری هذا المعنی فی أمثاله ممّا لم یکن سابقاً بید المرأة حتّی تستصحب ، وکان الاختصاص بالرجال أمارة لکونه تحت یده .
الروایة الثالثة : ما رواه محمّد بن یعقوب ، عن علی ، عن أبیه ، عن ابن محبوب ، عن العلاء ، عن محمّد بن مسلم ، عن أبی جعفر علیه السلام قال : سألته عن الدار یوجد فیها الورق .
قال : «إن کانت معمورة فیها أهلها فهی لهم ، وإن کانت خربة قد جلا عنها أهلها فالذی وجد المال أحقّ به» .
ونحوها روایته الاُخری ولعلّهما واحدة ووجه دلالتها أنّ الإمام علیه السلام حکم بکون الورق لأهل الدار ، ولیس ذلک إلاّ لکون الورق تحت یدهم من جهة کون الید علی الدار یداً علی ما فیها .
والظاهر دلالتها علی الأماریة أیضاً ، إذ عبّر علیه السلام بأنّها لهم فتدلّ علی
کتابمحاضرات فی الاصول (تشتمل علی تنبیهات الاستصحاب و التعادل و الترجیح و الاجتهاد و التقلید): تقریر الابحاث الامام الخمینی (س)صفحه 202
الأماریة بتقریب مضی فی الروایة الاُولی .
الروایة الرابعة : ما رواه محمّد بن یعقوب ، عن محمّد بن یحیی ، عن محمّد بن الحسین ، قال : کتبت إلی أبی محمّد علیه السلام : . . . رجل کانت له رحی علی نهر قریة ، والقریة لرجل فأراد صاحب القریة أن یسوق إلی قریته الماء فی غیر هذا النهر ، ویعطّل هذه الرحی ، أ له ذلک ؟
فوقّع علیه السلام : «یتّقی الله ویعمل فی ذلک بالمعروف ، ولا یضرّ أخاه المؤمن» .
ورواه الشیخ بإسناده عن محمّد بن علی بن محبوب ، قال : کتب رجل إلی الفقیه علیه السلام وذکر مثله . ورواه الصدوق أیضاً کذلک .
ودلالتها علی الید مبنیّة علی کون مورد السؤال صورة الاشتباه فی کون صاحب الرحی ذا حقّ فنهی علیه السلام عن الإضرار بحقّ المؤمن ، فیستفاد من ذلک أنّ استیلاءه علی الماء بهذا النحو یدلّ علی استحقاقه له بهذا المقدار ، أی بمقدار یدور منه رحاه . وقد عرفت : أنّ الید علی الشیء تدلّ علی مطلق الحقّ الممکن المعتبر عند العقلاء الأعمّ من الملکیة لا علی خصوص الملکیة ، هذا .
ولکنّه من المحتمل کون مفروض السؤال صورة إحراز عدم حقّ لصاحب الرحی بالماء من جهة بنائه متأخّراً بلا إذن صاحب الماء .
فإن قلت : ینافی ذلک قوله : «لا یضرّ» إذ بناءً علی ما ذکرت یکون
کتابمحاضرات فی الاصول (تشتمل علی تنبیهات الاستصحاب و التعادل و الترجیح و الاجتهاد و التقلید): تقریر الابحاث الامام الخمینی (س)صفحه 203
تعطیل الرحی من باب عدم النفع لا الضرر فإنّ الضرر عبارة عن تضیـیع حقّ الغیر .
قلت : التعبیر بـ «الضرر» لیس باعتبار عدم الانتفاع بالماء ، بل باعتبار استلزام تعطیل الرحی صیرورتها خربة بلا قیمة بعد ما أنفق لبنائها مبالغ . ویقرب هذا الاحتمال صیرورة الإمام علیه السلام أوّلاً بصدد الموعظة الظاهرة فی عدم کون الحکم إلزامیاً وجوبیاً ، بل هو من باب الإرفاق بالمؤمن ، والمراد بـ «المعروف» فیها المعروف أخلاقاً ، فالإنصاف عدم إمکان الاستدلال بالروایة لما نحن فیه ، ثمّ علی فرض دلالتها فهی عن جهة الأصلیة والأماریة ساکتة .
الروایة الخامسة : ما رواه محمّد بن الحسن بإسناده عن الحسین بن سعید ، عن صفوان بن یحیی ، عن العیص بن القاسم ، عن أبی عبدالله علیه السلام ، قال : سألته عن مملوک ادّعی أنّه حرِّ، ولم یأت ببیّنة علی ذلک ، أشتریه ؟ قال : «نعم» .
ونحوها روایة حمزة بن حمران ، قال : قلت لأبی عبدالله علیه السلام : أدخل السوق واُرید أشتری جاریة فتقول : إنّی حرّة .
فقال : «اشترها إلاّ أن تکون لها بیّنة» .
وهاتان الروایتان تدلاّن علی حجّیة الید قطعاً ولکنّهما ساکتـتان أیضاً عن جهة الأماریة والأصلیة .
کتابمحاضرات فی الاصول (تشتمل علی تنبیهات الاستصحاب و التعادل و الترجیح و الاجتهاد و التقلید): تقریر الابحاث الامام الخمینی (س)صفحه 204
الروایة السادسة : ما رواه محمّد بن یعقوب ، عن علی بن إبراهیم ، عن أبیه وعلی بن محمّد القاسانی جمیعاً عن القاسم بن یحیی ، عن سلیمان بن داود ، عن حفص بن غیاث ، عن أبی عبدالله علیه السلام ، قال : قال له رجل : إذا رأیت شیئاً فی یدی رجل یجوز لی أن أشهد أنّه له ؟ قال : «نعم» .
قال الرجل : أشهد أنّه فی یده ولا أشهد أنّه له ، فلعلّه لغیره! فقال أبو عبدالله علیه السلام : «أ فیحلّ الشراء منه ؟» قال : نعم .
فقال أبو عبدالله علیه السلام : «فلعلّه لغیره ، فمِن أین جاز لک أن تشتریه ویصیر ملکاً لک ، ثمّ تقول بعد الملک : هو لی وتحلف علیه ، ولا یجوز أن تنسبه إلی من صار ملکه من قبله إلیک ؟» .
ثمّ قال أبو عبدالله علیه السلام : «لو لم یجز هذا لم یقم للمسلمین سوق» .
وهذه الروایة تدلّ علی حجّیة الید وعلی کون حجّیتها مدار نظام الاجتماع . وربّما یقال : أنّ بیان الحکمة یناسب کونها أصلاً عقلائیاً تعبّدوا بها لیدور بها رحی الاجتماع لا طریقاً عقلائیاً کاشفاً عن الواقع ، إذ علی الطریقیة لا یحتاج إلی بیان حکمة الجعل والتشریع ، بل یکون حجّیتها ارتکازیة .
ویرد علی ذلک : أنّ بیان الحکمة لا ینافی الأماریة ، إذ أکثر الأمارات تکون أساساً لنظام الاجتماع ، ولعلّ ذکر الحکمة إنّما هو لإمضاء الشارع طریقة العقلاء ، فی العمل بها ، والظاهر أنّ الأصل العقلائی صرف فرض لا واقع له ، إذ لیس فیهم تعبّد بالعمل بشیء من دون نظر إلی الواقع .
کتابمحاضرات فی الاصول (تشتمل علی تنبیهات الاستصحاب و التعادل و الترجیح و الاجتهاد و التقلید): تقریر الابحاث الامام الخمینی (س)صفحه 205
وبالجملة : فالحکمة یمکن أن تکون حکمة لإمضاء الشارع طریقة العقلاء ولو سلّم عدم بنائهم علی العمل بها فالحکمة حکمة لتأسیس هذه الأمارة . وکیف کان : فبیان الحکمة لا ینافی الأماریة ، وحینئذٍ فبالدقّة فی تعبیرات الروایة یظهر کونها بصدد بیان أماریتها ، إذ الراوی سأل عن جواز الشهادة علی أنّه له ، فقال علیه السلام : «نعم» ، فقال : لا أشهد أنّه له ، فلعلّه لغیره ، فأجابه الإمام علیه السلام بما أجاب . فمن هذه التعبیرات یعلم أنّ المنظور السؤال عن جواز الشهادة علی الملکیة الواقعیة المعبّر عنها بـ «أنّه له» باعتماد کونه فی یده لا علی وجوب ترتیب آثار الملکیة تعبّداً ، إذ الملکیة التعبّدیة لم تنقدح فی ذهن السائل قطعاً حتّی یسأل عن جواز الشهادة علیها ، وقد أجاب الإمام علیه السلام بقوله : «نعم» عن السؤال فیکون کلامه تقریراً لما ارتکز فی ذهن السائل من کون الملکیة علی فرض ثبوتها ملکیة واقعیة کشفت الید عنها . غایة الأمر : أنّه تردّد فی کفایة الید فی ثبوتها فأجاب الإمام علیه السلام بکفایتها .
ثمّ إنّه ربّما یورد فی الروایة إشکال وحاصله : أنّ مورد السؤال جواز الشهادة علی الملکیة بمجرّد الید وأمّا معاملة الملکیة بسببها فکانت مفروغاً عنها بینهما ، ولذا کان مرتکزاً فی ذهن السائل جواز الشراء منه ، فحینئذٍ یکون المشار إلیه بهذا فی قوله : «لو لم یجز هذا» عبارة عمّا کان السائل متردّداً فیه ؛ أعنی الشهادة فیصیر محصّل ذیل الروایة : أنّه لو لم تجز الشهادة علی الملکیة بما تحت الید لم یقم للمسلمین سوق ، وهذا المعنی بظاهره غیر مستقیم ، إذ لا یلزم من مجرّد ترک الشهادة کذلک اختلال أمر السوق ، وإنّما الذی یوجب اختلاله عدم معاملة الملکیة من جواز الشراء ونحوه .
کتابمحاضرات فی الاصول (تشتمل علی تنبیهات الاستصحاب و التعادل و الترجیح و الاجتهاد و التقلید): تقریر الابحاث الامام الخمینی (س)صفحه 206
ویمکن أن یجاب عنه : أوّلاً : بأنّ قوله : «هذا» إشارة إلی مطلق ما سبق من جواز الشهادة وجواز الشراء وجواز الحلف بعده من الاُمور المتلازمة التی تکشف عنها الید .
وثانیاً : بأنّه وإن کان إشارة إلی ما سأل عنه الراوی من جواز الشهادة ، ولکنّه بعد ما أثبت الإمام علیه السلام الملازمة بین جواز الشراء وجواز الشهادة وجوداً وعدماً وکان عدم جواز الشراء مخلاًّ بالسوق صحّ أن یقال : لو لم یجز الشهادة لم یقم للمسلمین سوق من جهة استلزام عدم جوازها عدم جواز الشراء أیضاً ، فمراده علیه السلام قلع أساس احتمال کونه للغیر بأنّه لو صار مانعاً عن الشهادة لصار مانعاً عن الشراء .
وثالثاً : أنّ مقتضی تذکیر لفظ الإشارة کونه إشارة إلی الشراء لا الشهادة ، وقد صدر منه علیه السلام هذا الکلام لدفع توهّم السائل عدم جواز الشراء أیضاً بعد ما التفت إلی الملازمة بین الشهادة والشراء .
الروایة السابعة : ما رواه علی بن إبراهیم فی تفسیره عن أبیه ، عن ابن أبی عمیر ، عن عثمان بن عیسی وحمّاد بن عثمان ، جمیعاً عن أبی عبدالله علیه السلام فی حدیث فدک : «إنّ أمیر المؤمنین علیه السلام قال لأبی بکر : أتحکم فینا بخلاف حکم الله فی المسلمین ؟ قال : لا . قال : فإن کان فی ید المسلمین شیء یملکونه ادّعیت أنا فیه من تسأل البیّنة ؟ قال : إیّاک کنت أسأل البیّنة علی ما تدّعیه علی المسلمین ، قال : فإذا کان فی یدی شیء فادّعی فیه المسلمون ، تسألنی البیّنة علی ما فی یدی ، وقد ملکته فی حیاة رسول الله صلی الله علیه و آله وسلم وبعده ، ولم تسأل المؤمنین البیّنة علی ما ادّعوا علیّ کما سألتنی البیّنة علی ما ادّعیت علیهم ؟ إلی
کتابمحاضرات فی الاصول (تشتمل علی تنبیهات الاستصحاب و التعادل و الترجیح و الاجتهاد و التقلید): تقریر الابحاث الامام الخمینی (س)صفحه 207
أن قال : وقد قال رسول الله صلی الله علیه و آله وسلم : البیّنة علی من ادّعی ، والیمین علی من أنکر» .
ودلالة الروایة علی حجّیة الید إجمالاً ووجوب تقدیم قول صاحب الید فی مقام المخاصمة وجعله منکراً واضحة جدّاً ، ویمکن استفادة أماریتها من قوله : «یملکونه» ، إذ الکلام فی قوّة أن یقال : فإن کان المسلمون یملکون شیئاً من جهة کونه فی یدهم فجعل الید دلیلاً وکاشفاً عن الملکیة ، والقول بأنّ المراد أنّه إن کان فی یدهم شیء یعاملون معه معاملة الملکیة أو یجب علینا ترتیب آثار الملکیة علیه عند الشکِّ، خلاف الظاهر جدّاً ، کالقول بأنّ المراد بالملکیة هنا هو الاستیلاء ، فیکون قوله : «یملکونه» تفسیراً لقوله : «فی ید المسلمین» .
وبالجملة : فیستفاد من قوله : «یملکونه» ومن قوله : «ملکته فی زمن رسول الله صلی الله علیه و آله وسلم وبعده» مع کون الملکیة بعده عین المتنازع فیه وکون الید أمارة علی الملکیة بحیث یجوز الأخبار عن الملکیة بسببها .
الروایة الثامنة : ما رواه الکلینی عن علی بن إبراهیم ، عن هارون بن مسلم ، عن مسعدة بن صدقة ، عن أبی عبدالله علیه السلام ، قال : سمعته یقول : «کلّ شیء هو لک حلال حتّی تعلم أنّه حرام بعینه ، فتدعه من قبل نفسک ، وذلک مثل الثوب یکون علیک قد اشتریته وهو سرقة أو المملوک عندک ولعلّه حرّ قد باع نفسه أو خدع فبیع قهراً ، أو امرأة تحتک وهی اُختک أو رضیعتک ، والأشیاء کلّها علی
کتابمحاضرات فی الاصول (تشتمل علی تنبیهات الاستصحاب و التعادل و الترجیح و الاجتهاد و التقلید): تقریر الابحاث الامام الخمینی (س)صفحه 208
هذا حتّی یستبین لک غیر ذلک أو تقوم به البیّنة» .
وظاهر الروایة کونها بصدد بیان قاعدة کلّیة مع ذکر بعض مصادیقها من باب المثال ، وحینئذٍ فیتولّد إشکال وهو :
أنّ الکبری المجعولة فیها هی قاعدة الحلّیة التی یکون موضوعها المشکوک بما هو مشکوک ، وهذه الأمثلة المذکورة فی الروایة حلّیتها مستندة إلی قواعد اُخر مثل الید أو أصالة الصحّة فی الثوب والعبد واستصحاب عدم تحقّق النسب أو الرضاع فی المرأة، إذ قد تقرّر فی محلّه حکومة هذه القواعد علی قاعدة الحلّیة.
هذا ، مضافاً إلی أنّه لو فرض عدم هذه القواعد فلا مجال لقاعدة الحلّیة أیضاً لوجود أصل آخر مخالف لها مقدّم علیها وهو عبارة عن أصالة عدم تحقّق السبب الشرعی أو عدم تأثیره فی انتقال العبد والثوب وتحقّق الزوجیة . وهذه الشبهة شبهة معروفة فی الروایة .
وما قیل أو یمکن أن یقال فی جوابها وجوه :
الوجه الأوّل : کون صدر الروایة أیضاً بصدد بیان حجّیة الید لا قاعدة الحلّیة . غایة الأمر : حجّیة ید صاحب الید بالنسبة إلی مالکیة نفسه لما تحت یده فیکون قوله : «هو لک» صفة لقوله : «شیء» ومعنی العبارة : أنّ کلّ شیء تحت یدک محکوم لک بالحلّیة ، وعلی هذا فتنطبق الکبری علی الصغریات .
وفیه : مضافاً إلی عدم مأنوسیة هذا التعبیر وکونه خلاف الظاهر :
أوّلاً : أنّ اللام تفید الاختصاص والملکیة کما فی قوله : «من استولی علی
کتابمحاضرات فی الاصول (تشتمل علی تنبیهات الاستصحاب و التعادل و الترجیح و الاجتهاد و التقلید): تقریر الابحاث الامام الخمینی (س)صفحه 209
شیء فهو له» ولم یعهد استعمالها لإفادة الاستیلاء الکاشف عن الملکیة .
وثانیاً : أنّ مستند الحلّیة فی مثل الثوب والعبد ید الغیر لا ید نفسه ، ومعنی قوله : «لعلّه سرقة» لعلّ بائع الثوب سرقه ، إذ لا یحتمل الإنسان سرقة نفسه إلاّ نادراً ، والحمل علیه بعید ، ولو لا حجّیة ید الغیر فی هذه الموارد لم تنفع ید نفسه بالنسبة إلی المعاملة السابقة المشکوکة تأثیرها من جهة احتمال عدم کون المبیع ملکاً للبائع ، فإنّ ید نفسه لا تکفی لنفی سرقة الغیر .
نعم ، لو شکّ فی أنّ ما بیده وقع تحت یده بسبب شرعی أو وقع قهراً وغصباً أو شکّ فی أنّه من بدو مالیّـته حدث فی ملکه أو ملک غیره أمکن أن یقال بحجّیة ید نفسه کما سیأتی .
وثالثاً : أنّه لا معنی للید بالنسبة إلی المرأة المشکوکة فی کونها اُختاً أو رضیعة ، ولیست حجّة فی مثل ذلک فإنّ موردها الأموال .
الوجه الثانی : کون صدر الروایة بصدد بیان قاعدة عامّة جامعة لقاعدة الحلّیة والید والاستصحاب فإنّ الحلّیة الظاهریة تکون تارة : مستندة إلی الید ، واُخری : إلی الاستصحاب ، وثالثة : إلی القاعدة وجامعها صورة عدم العلم بالواقع .
وفیه : أنّ ظاهر الصدر کون مشکوک الحلّیة والحرمة بما هو کذلک محکوماً بالحلّیة الظاهریة ولا ینطبق ذلک إلاّ علی القاعدة .
کتابمحاضرات فی الاصول (تشتمل علی تنبیهات الاستصحاب و التعادل و الترجیح و الاجتهاد و التقلید): تقریر الابحاث الامام الخمینی (س)صفحه 210
الوجه الثالث : کون الأمثلة من باب التنظیر لا التمثیل فیکون الإمام علیه السلام فی مقام رفع الاستیحاش عن المخاطب وأنّه لا مانع من ارتکاب الحرام الواقعی مع عدم العلم به ، فذکر موارد مقبولة عند المخاطب یحتمل لیرتفع استبعاده ، ولعلّ هذا الوجه أقرب الوجوه الثلاثة ، وعلی هذا فلا إشکال فی الروایة إلاّ فی قوله : «أو امرأة تحتک وهی اُختک أو رضیعتک» فإنّ الشکّ فی کونها رضیعة وإن کان مورداً لاستصحاب العدم ، ولکنّ الشکّ فی الاُختیّة لیس مورداً له إلاّ بنحو السالبة البسیطة ، ولا تفید ذلک فی جواز النکاح وتأثیر العقد ، إذ لا یثبت بها حال المرأة وأنّها غیر اُخت حتّی یترتّب علیه جواز تزویجها المستفاد من قوله : «وَأُحِلَّ لَکُم ما وَراءَ ذلِکُم» .
کتابمحاضرات فی الاصول (تشتمل علی تنبیهات الاستصحاب و التعادل و الترجیح و الاجتهاد و التقلید): تقریر الابحاث الامام الخمینی (س)صفحه 211
فإن قلت : یحکم بحلّیة مشکوک الاُختیّة من جهة کونها فی بیته وتحت یده ، بناءً علی حجّیة ید صاحب الید بالنسبة إلی اختصاص نفسه بما فی یده ، أو من جهة یدها علی بعضها حین تسلیم نفسها للمزاوجة ، والید علی کلّ شیء أمارة علی نحو ثبوت اختصاص مناسب لذلک الشیء ، ویمکن أن یعبّر عنه مسامحة بالملکیة أیضاً .
قلت : اعتبار الید فی مثل ذلک عند العقلاء مشکل واستفادته من عموم قوله : «من استولی علی شیء فهو له» الذی هو أظهر روایات الباب وأعمّها أشکل .
ولو سلّم اعتبار الید فی مثل ذلک فإنّما هو فیما إذا کان طرف الاحتمال حقّ الغیر ، کما إذا احتمل کون المرأة التی تحته زوجة لغیره ولا تعتبر قطعاً فیما إذا کان احتمال الحرمة من جهة الحرمة الذاتیة کالاُختیّة ونحوها ، نظیر ما إذا شکّ فیما بیده أنّه خلّ أو خمر فلا یکفی الید فی إحراز ملکیته وإثبات آثار الخلّیة وإنّما تکفی الید لرفع شبهة کون المال للغیر .
وبالجملة : فهذا الإشکال یبقی فی الروایة ، إذ مقتضی استصحاب عدم تأثیر العقد بطلان النکاح فیمن شکّ فی کونها اُختاً بعد عدم کفایة الاستصحاب الأزلی بنحو السلب البسیط .
هذا تمام الکلام فی الروایات .
وقد عرفت : أنّ المستفاد من الجمیع حجّیة الید ، ومن أکثرها أماریتها أیضاً ، وبعضها لا یأبئ عن الأماریة والأصلیة ، وربّما یوهم بعضها جهة الأصلیة . وقد عرفت فساد ذلک ، فالحقّ أنّها أمارة .
کتابمحاضرات فی الاصول (تشتمل علی تنبیهات الاستصحاب و التعادل و الترجیح و الاجتهاد و التقلید): تقریر الابحاث الامام الخمینی (س)صفحه 212
ولیعلم : أنّ حجّیتها ممّا قامت علیه السیرة کما عرفت ، وإنّما الاحتیاج إلی الروایات من جهة التمسّک بإطلاقاتها فی الموارد المشکوکة التی لم یحرز فیها بناء العقلاء ، وأظهر روایات الباب دلالة وأعمّها هو قوله : «من استولی علی شیء فهو له» بعد إلغاء الخصوصیة کما عرفت تقریبه ، فراجع .
ویمکن استفادة حجّیة الید فی روایات اُخر أیضاً ولکن فیما ذکرناه غنیً وکفایةً ، وممّا یدلّ علیها أیضاً ، الخبران الآتیان فی المسألة الآتیة .
کتابمحاضرات فی الاصول (تشتمل علی تنبیهات الاستصحاب و التعادل و الترجیح و الاجتهاد و التقلید): تقریر الابحاث الامام الخمینی (س)صفحه 213