منع دلالة بعض الآیات علی مبطلیّة الریاء
ثمّ اعلم: أنّـه من الآیات الـدالّـة علیٰ مبغوضیّـة الریاء، وموجبیّتـه البطلان، قولُـه تعالیٰ: «یَا أَیُّهَا الَّذِینَ آمَنُواْ لاَتُبْطِلُواْ صَدَقَاتِکُمْ بالْمَنِّ والأَذَیٰ کَالَّذِی یُنْفِقُ مَالَهُ رِئَاءَ النَّاسِ» فإنّها بظاهرها تدلّ علیٰ بطلان الـعمل الـریائیّ.
وفیه: أنّها تدلّ علیٰ بطلان الـصدقـة بالمنّ والأذیٰ، والـمقصود من بطلانها سقوط أجرها، دون فسادها حتّیٰ تلزم إعادة الـصدقـة الـواجبـة؛ فإنّ الـمنّ بعد الـعمل لایورث الـبطلان، مع أنّ الآیـة ناظرة إلـیٰ إبطال الـصدقـة بهما، فیکون الـمفروض فیها أنّـه قد أتیٰ بها، ثمّ یرید الـمنّـة والأذیٰ، فنهی الـناس عنـه.
وتوهّم: أنّها فی مقام بیان اشتراط الـصدقـة بعدم الـمنّـة حین الإعطاء، فاسد جدّاً؛ لظهور قولـه: «لاَتُبْطِلُواْ» فی أنّ الـصدقـة الـمفروضـة الـوجود صحیحـة جامعةً للـشرائط، تکون منهیّاً إبطالها کما لایخفیٰ.
وعلیٰ هذا، لا دلالـة لها علیٰ فساد الـعمل الـمأتیّ بـه للّٰـه تعالیٰ ریاءً، بل تدلّ علیٰ هبوط الـعمل الـریائیّ، الـذی لایرید جدّاً فیـه شؤونَـه تعالیٰ، بل الـمقصود إراءة الـناس لا الـغیر.
وأمّا لو أراده تعالیٰ، ویری الـناس عملـه الـمأتیّ بـه للّٰـه تعالیٰ،
کتابتحریرات فی الفقه: الواجبات فی الصلاةصفحه 178
وترشّح الإرادة الـجدّیَّـة للـتقرّب بـه منـه تعالیٰ، فهو صحیح، وربّما کان الـریاء فی هذه الـمواقف - لـمصالـح مترتّبـة علیـه - حسناً. إلاّ أنّ مقتضیٰ مطلقات الـمسألـة، حرمتـه فی هذه الـفروض أیضاً.
وممّا یشهد علیٰ ذلک الآیـة الـسابقـة علیها؛ وهی قولـه تعالیٰ: «الَّذِینَ یُنْفِقُونَ أَمْوَالَهُمْ فی سَبِیل الله ِ ثُمَّ لا یُتْبِعُونَ مَا أَنْفَقُوا مَنّاً وَلاَ أَذَیً لَهُمْ أَجْرُهُمْ عِنْدَ رَبِّهِمْ وَلاَ خَوْفٌ عَلَیْهِمْ وَلاَ هُمْ یَحْزَنُونَ».
وذیلُ تلک الآیـة: «ولا یُؤْمِنُ بِالله ِ وَالْیَوْمِ الآخِرِ فَمَثَلُهُ کَمَثَلِ صَفْوَانٍ...» إلـیٰ آخرها.
فإنّ الآیات فی الـمقام، لا نظارة لها إلـی الـمسألـة الـفرعیّـة، بل هی ناظرة إلـیٰ هبوط الأعمال الـمتعقّبـة بالمنّ والأذیٰ؛ وأنّ الإنفاق الـریائیّ - لا الإنفاق فی سبیل اللّٰـه ریاءً - یکون مثالـه «کَمَثَلِ صَفْوَانٍ عَلَیْهِ تُرابٌ فَأَصَابَهُ وَابِلٌ فَتَرَکَهُ صَلْداً لاَ یَقْدِرُونَ عَلَیٰ شَیْءٍ مِمَّا کَسَبُوا وَالله ُ لاَ یَهْدِی الْقَوْمَ الکَافِرِینَ».
بل ربّما یمکن دعویٰ: أنّ الـمقصود إنفاق الـکفّار، لا الـمؤمن الـمرائی کما لایخفیٰ.
اللهمّ إلاّ أن یقال: إنّ الـریاء متقوّم بأن یکون صورة الـعمل أوجدها للّٰـه تعالیٰ؛ بمعنیٰ أنّـه لا یکون الـعمل الـمحرّم - الـمعلوم عند الـکلّ حرمتـه - قابلاً للـریاء فیـه، فهو یتقوّم بالعمل الـذی یمکن أن یؤتیٰ بـه للّٰـه تعالیٰ،
کتابتحریرات فی الفقه: الواجبات فی الصلاةصفحه 179
وذلک بلا فرق بین حصول الإرادة الـجدّیّـة الـمستلزمـة لصحّـة الـعمل الـریائیّ، وبین ما لا یقصد بـه إلاّ رئاء الـناس، فافهم وتأمّل جیّداً.
کتابتحریرات فی الفقه: الواجبات فی الصلاةصفحه 180