تفصیل وتحقیق
وربّما فرّق بعض بین منقطع الأوّل والوسط ، فحکم بجریان الاستصحاب فی الثانی دون الأوّل ، ووجهه : بأنّ العموم قد عمل به فی الثانی فی الجملة فیمکن رفع الید عنه بخلاف الأوّل فإنّ الأخذ بالاستصحاب یوجب عدم العمل بحکم العامّ بالنسبة إلی هذا الفرد أصلاً .
وفیه : أنّ هذا لیس فارقاً ، ولو سلّم الفرق بینهما فالعکس أولی فإنّ منقطع الأوّل یدور أمره بین التخصیص والتقیـید ، إذ الزمان الأوّل خارج قطعاً فلو فرض خروج بعده أیضاً کان قوله : «أَوْفُوا بِالْعُقُودِ» مثلاً مخصّصاً بالنسبة إلی هذا الفرد ولو اقتصر فی الخروج بالزمان الأوّل کان العامّ باقیاً بحاله ، وإنّما وقع التصرّف فی الإطلاق فقط فیدور الأمر بین التصرّف فی أحد الأمرین من العموم الثابت فی المرتبة السابقة والإطلاق الثابت فی المرتبة اللاحقة . فلأحدٍ أن یقول : بعدم الترجیح لأحدهما فیتمسّک بالاستصحاب ، وأمّا منقطع الوسط فإن کان حکم ما قبل هذا الزمان الخارج مشکوکاً کان حکمه حکم منقطع الأوّل أیضاً ، وأمّا إذا کان الزمان الذی قبله محکوماً بحکم العامِّ، فیعلم من ذلک أنّ إخراج الزمان الوسط من التقیـید لا من التخصیص ، فیقتصر فیه علی القدر المتیقّن ویعمل فیما بعده بالإطلاق .
هذا ، ولکن فی منقطع الأوّل أیضاً لا مجال للاستصحاب ، بل یعمل بالإطلاق ، ویمکن أن یقرّب ذلک بوجهین :
کتابمحاضرات فی الاصول (تشتمل علی تنبیهات الاستصحاب و التعادل و الترجیح و الاجتهاد و التقلید): تقریر الابحاث الامام الخمینی (س)صفحه 130
الأوّل : أنّ العموم الأفرادی فی رتبة الموضوع للإطلاق بحسب الزمان ـ کما عرفت ـ فینعقد ظهوره فی رتبة سابقة ، وبعد انعقاد ظهوره إن بقی مجال للأخذ بالإطلاق فهو وإلاّ لتصرّفنا فیه ، فلا محالة یعود التصرّف فیما نحن فیه إلی حیثیة الإطلاق لا العموم ، ونظیر ذلک ما قیل فی صورة دوران أمر المکلّف بین القعود فی الرکعة الثانیة والقیام فی الاُولی أو بالعکس : أنّ الواجب صرف القیام علی الرکعة الاُولی لعدم مزاحمة المتأخّر للمتقدّم .
فإن قلت : لیس هذا من جهة التقدّم والتأخّر ، بل من جهة أنّ القعود موقوف علی تحقّق موضوعه خارجاً وهو العجز ولم یحصل بعد فی الرکعة الاُولی .
قلت : إن کان ذلک کما ذکرت کان اللازم عدم ملاحظة الثانیة وإن کانت أهمّ مع أنّ العقل ینفی ذلک .
الثانی : أنّ الأمر وإن کان دائراً بین التقیـید والتخصیص ولیس أحدهما أرجح من الآخر لاقتضاء کلّ منهما تصرّفاً فی دلیل غیر ما یقتضی الآخر تصرّفاً فیه ، ولکنّ العرف یری التخصیص مع کونه تصرّفاً واحداً تصرّفات وإخراجات ، إذ مرجع التقیـید إلی إخراج یوم الجمعة مثلاً من حکم العامِّ، ومرجع التخصیص إلی إخراج جمیع الأیّام ، فیری العرف ذلک من باب الأقلّ والأکثر ، ولا حجّة للعبد إلاّ علی خروج الأقلّ فیجب علیه ترتیب حکم العامّ فی الباقی ، وبالجملة فلا حجّة له فی رفع الید عن غیر المتیقّن خروجه .
ثمّ اعلم : أنّ المولی إذا قال : «أَوْفُوا بِالْعُقُودِ» فی «جمیع الأیّام» أو «دائماً» أو «فی یوم الجمعة» مثلاً فالظرف وإن احتمل بحسب مقام الثبوت أن یکون قیداً للوجوب أو الوفاء أو العقد أو ظرفاً للنسبة ، ولکنّ الأظهر هو الأخیر بحسب
کتابمحاضرات فی الاصول (تشتمل علی تنبیهات الاستصحاب و التعادل و الترجیح و الاجتهاد و التقلید): تقریر الابحاث الامام الخمینی (س)صفحه 131
مقام الإثبات ، فبذلک یظهر الخلل فیما ذکر المحقّق النائینی قدس سره من رجوع الظرف إمّا إلی الحکم أو المتعلّق .
ثمّ إنّ ما ذکره أیضاً : من أنّ الاستمرار إذا کان قیداً للحکم فلا یثبت حال الحکم من الاستمرار وغیره لکونه بمنزلة الحکم له والحکم لا یثبت حال موضوعه ، فاسد جدّاً ، لکونه خلطاً بین الموضوع التکوینی وبین الموضوع الذی تکوینه بجعل الشارع وله أن یحکم باستمراره أو عدم استمراره ، ولازم کلامه قدس سرهأنّه لو أردنا الحکم باستمراره بسبب ما قال : «أنّه مستمرّ» لوجب أن نثبت استمراره أوّلاً ، ثمّ نحکم علیه ثانیاً بالاستمرار ، فافهم وتأمّل جیّداً .
وإن شئت قلت فی ردّ المحقّق النائینی قدس سره : أنّ الموضوع فی قولنا : «الحکم مستمرّ» لیس عبارة عن الحکم بقید الاستمرار ، بل مهملة الحکم فإنّها التی یحکم علیها بالاستمرار ویکون من أحکامها وعوارضها .
وعلی هذا فما هو الموضوع فی القضیّة ؛ أعنی المهملة لا یثبت بالحکم وما یثبت به ؛ أعنی الاستمرار لیس دخیلاً فی الموضوع ، فافهم .
کتابمحاضرات فی الاصول (تشتمل علی تنبیهات الاستصحاب و التعادل و الترجیح و الاجتهاد و التقلید): تقریر الابحاث الامام الخمینی (س)صفحه 132