معنی اتّصال زمان الشکّ بالیقین
فنقول : إنّ المعتبر فی الاستصحاب أن یکون الشکّ فی بقاء ما ثبت ، وذلک لا یتصوّر إلاّ إذا کان الشاکّ فی حال شکّه بحیث إذا جعل مدّة المتیقّن من حال ثبوته إلی حال الشکّ فی مدّ نظره ، ولاحظ مجموع هذه المدّة فی حال شکّه ، رأی حینئذٍ أنّ هذا الشیء فی قسمة من هذه المدّة متیقّن
کتابمحاضرات فی الاصول (تشتمل علی تنبیهات الاستصحاب و التعادل و الترجیح و الاجتهاد و التقلید): تقریر الابحاث الامام الخمینی (س)صفحه 114
الثبوت ، وفی قسمة اُخری منها متّصلة بالقسمة الاُولی مشکوک الثبوت ، فلو کان فی أوّل الصبح متطهّراً ، ثمّ شکّ فی أوّل الظهر فی بقاء طهارته ، فإذا لاحظ الشاکّ حین الظهر المدّة الفاصلة بین الصبح والظهر رآها منقسمة إلی قسمین لا غیر ، بخلاف ما إذا کان متطهّراً فی أوّل الصبح ثمّ أحدث فی ساعة بعده ، ثمّ شکّ فی الطهارة بعد ذلک فإنّه لا یمکن حینئذٍ استصحاب الطهارة لعدم کون الشکّ شکّاً فی البقاء ، لانفصال المشکوک عن المتیقّن حینئذٍ . ولو کان فی الصبح متیقّناً بالطهارة ، ثمّ تیقّن الحدث فی ساعة بعده ، ثمّ شکّ فی الظهر شکّاً ساریاً فی یقینه الثانی وشکّ فی بقاء الطهارة جری الاستصحاب أیضاً ، إذ الاعتبار بالیقین والشکّ فی حال الاستصحاب وهو یری فی الظهر المدّة منقسمة إلی قسمین لا غیر .
وبالجملة : فاعتبار اتّصال زمان المشکوک بزمان المتیقّن ممّا لا شکّ فیه ولکنّ الاعتبار بالیقین والشکّ الثابتین فی حال الاستصحاب ، ففی هذا الزمان یجب أن یلاحظ جمیع المدّة ، ویلاحظ الاتّصال والانفصال فیها .
وبالدقّة فیما ذکرنا : یظهر النظر فیما ذکره النائینی قدس سره فی مثال الإناء الشرقی والغربی ومثال الدمّ المتخلّف فی الذبیحة . وملخّص کلامه قدس سره هذا :
أنّه لو علم بنجاسة إناءین ، ثمّ علم بطهارة أحدهما بإصابة المطر مثلاً ، فإمّا أن یعلم بطهارة أحدهما إجمالاً ، وإمّا أن یعلم بطهارة خصوص الشرقی منهما ، وعلی الثانی فإمّا أن یکون الشرقی بمنظر منّی ممتازاً عن الغربی حین إصابة المطر ثمّ اشتبها ، وإمّا أن لا یکون بمنظر منّی واشتبها ، استصحاب النجاسة یجری فی الصورة الاُولی فی کلا الإناءین دون الثانیة والثالثة ، لا سیّما الثانیة
کتابمحاضرات فی الاصول (تشتمل علی تنبیهات الاستصحاب و التعادل و الترجیح و الاجتهاد و التقلید): تقریر الابحاث الامام الخمینی (س)صفحه 115
لعدم اتّصال زمان الشکّ بزمان الیقین ، إذ الشرقی قد علم بطهارته فی زمان ، وهذا العلم باقٍ فعلاً أیضاً ، فکلّ من الإناءین یحتمل فیه أن یکون هو الإناء الشرقی الذی تعلّق العلم بطهارته فلم یحرز الاتّصال فی واحد منهما ، وکذلک إذا قطر علی الثوب قطرة دمّ لم یعلم کونه من المتخلّف أو من غیره ، إذ المتخلّف وإن کان نجساً قبل خروجه ولکنّه علم بطهارته بخصوصه بعد الخروج ، فلا مجال لاستصحاب نجاسة القطرة ، انتهی .
أقول : الإناء الشرقی وإن تعلّق العلم بطهارته فی الساعة الثانیة وهذا العلم باقٍ فی الساعة الثالثة أیضاً متعلّقاً بعنوان الشرقی ، ولکن کلاًّ من الإناءین فی الساعة الثالثة یکون مشکوکاً فی نجاسته بعنوان هذا الإناء الحاضر بحیث لو قسّم الشاکّ فی هذه الساعة مجموع المدّة یراها منقسمة إلی قسمین بالنسبة إلی هذا العنوان ؛ أعنی بعنوان هذا الإناء الحاضر ولا إشکال فی کون شیء بعنوان معلوماً وبعنوان آخر مشکوکاً ، فما نحن فیه نظیر الشکّ الساری وإن لم یکن عینه ، وقد عرفت جریان الاستصحاب فیه .
وبعبارة اُخری : ما یضرّ بالاستصحاب هو عدم کون الشکّ حین ثبوته شکّاً فی البقاء ، وأمّا إذا شکّ فی البقاء وتیقّن بعنوان آخر یحتمل کونه منطبقاً علی المستصحب فلا یخرج المورد عن أخبار الاستصحاب ولا یکون من موارد نقض الیقین بالیقین .
وبالجملة : فما یضرّ بصدق نقض الیقین بالشکّ تخلّل الیقین الفعلی المتعلّق بنفس المشکوک لا الیقین المتعلّق بعنوان یحتمل کونه منطبقاً علی
کتابمحاضرات فی الاصول (تشتمل علی تنبیهات الاستصحاب و التعادل و الترجیح و الاجتهاد و التقلید): تقریر الابحاث الامام الخمینی (س)صفحه 116
المشکوک ، فما ذکره قدس سره خلط بین الیقین والمتیقّن ، ومثل ذلک مثال الدمّ المتخلّف ، بل الأمثلة لذلک کثیرة :
منها : ما لو کانت هنا امرأة مردّدة بین بنته وبین أجنبیّة ، فأراد أن ینظر إلیها فیجوز أن یستصحب جواز النظر إلیها یقیناً الثابت حال صغرها وإن علم أنّ الأجنبیّة قد بلغت وحرم النظر إلیها .
ومنها : ما لو علم بتذکیة أحد الحیوانین وعدم تذکیة الآخر ، ثمّ اشتبها فیجری أصالة عدم التذکیة فی کلّ منهما .
وغیر ذلک من الأمثلة التی لا تخفی علی المتـتبّع .
ثمّ لو فرض کون احتمال انطباق المتیقّن علی خلاف الحالة السابقة علی المشکوک مضرّاً بالاستصحاب لما صحّ استصحاب النجاسة فی الصورة الاُولی ممّا ذکره قدس سره ؛ أعنی صورة العلم الإجمالی أیضاً والالتزام بذلک مشکل ، لما عرفت من جواز کون شیء واحداً معلوماً من جهة ومجهولاً من جهة اُخری ، وهذا المقدار یکفی فی الاستصحاب .
اللهمّ إلاّ أن یقال : إنّ بناء الاستصحاب لیس علی هذه المداقّات العقلیة ، فکون شیء واحد متعلّقاً لکلّ من العلم والشکّ وإن کان ممکناً بعنوانین من جهة تعلّق العلم بالصورة الذهنیة لا الخارج بحسب الدقّة العقلیة ، ولکنّ العرف یری المتعلّق نفس الموجود الخارجی بتمام هویّته ، ففی الأمثلة المتقدّمة لم یحرز اتّصال زمان الشکّ بزمان الیقین بعد اعتبار تعلّق الیقین بنفس هذا الشیء لا بالعنوان الذی هو أمر ذهنی ، وعلی هذا ففی أطراف العلم الإجمالی أیضاً یشکل الاستصحاب من هذه الجهة .
کتابمحاضرات فی الاصول (تشتمل علی تنبیهات الاستصحاب و التعادل و الترجیح و الاجتهاد و التقلید): تقریر الابحاث الامام الخمینی (س)صفحه 117
إذا عرفت ما ذکرنا ، فنقول : إنّ المحتملات فی مقصود صاحب «الکفایة» قدس سره فی المقام ثلاثة :
الأوّل : أن یکون مراده أنّه إذا شکّ فی تقدّم زید علی عمرو أو تأخّره وکان الأثر مترتّباً علی عدم زید فی زمان عمرو فهنا ثلاث ساعات :
الساعة الاُولی : ساعة العلم بعدم کلیهما . الساعة الثانیة : ساعة العلم بحدوث أحدهما إجمالاً . الساعة الثالثة : ساعة العلم بحدوث الآخر أیضاً . وظرف الاستصحاب هو الساعة الثالثة ، إذ لا شکّ فی التقدّم والتأخّر إلاّ فی هذه الساعة فإنّ المتقدّم والمتأخّر بما هما کذلک متضائفان ولا تضایف بین الموجود والمعدوم ولأنّ الأثر للعدم الثابت فی زمان الآخر فما لم یحرز الآخر لم یثبت ظرف الأثر فلا مجال للاستصحاب قبله ، فإذا کان ظرف الاستصحاب والشکّ هو الساعة الثالثة ، فقد تخلّل بینها وبین الساعة الاُولی الساعة الثانیة التی لیست ظرفاً لا للشکّ ولا للیقین ، فلم یتّصل الزمانان .
نعم ، لو کان الأثر لنفس عدم أحدهما جری استصحاب عدم کلّ منهما فی حدّ نفسه فی الساعة الثانیة ، ولکنّ المفروض لحاظ العدم بالنسبة إلی زمان وجود الآخر فتخلّل بین ساعة الیقین وساعة الشکّ ساعة لا شکّ فیها ولا یقین .
والجواب عن ذلک : أنّ اللازم فی الاستصحاب هو الیقین بالثبوت والشکّ فی البقاء وفیما نحن فیه یوجد کلاهما .
الثانی : أن یکون مراده أنّ الساعة الثالثة ظرف الاستصحاب والشکِّ، لما ذکرنا من المضائفة ، وفی هذا الظرف نعلم إجمالاً بوجود أحدهما فی الساعة الثانیة ، ویحتمل أن یکون هو نفس ما نرید استصحاب عدمه فی الساعة الثالثة
کتابمحاضرات فی الاصول (تشتمل علی تنبیهات الاستصحاب و التعادل و الترجیح و الاجتهاد و التقلید): تقریر الابحاث الامام الخمینی (س)صفحه 118
فلم یحرز الاتّصال لاحتمال تخلّل المعلوم بالإجمال بین زمان العدم المتیقّن وزمان العدم المشکوک .
وجوابه ، قد ظهر ممّا ذکرنا سابقاً من خلط العلم بالمعلوم فإنّ احتمال تخلّل نفس وجود ما یستصحب عدمه لا یضرّ بالاستصحاب وإن کان طرفاً للعلم وإلاّ لم یجر الاستصحاب فی أطراف المعلوم بالإجمال أصلاً .
الثالث : أن یکون المراد أنّ الأثر لمّا کان مترتّباً علی عدم زید فی زمان عمرو ، والمفروض فیما نحن فیه الشکّ فی التقدّم والتأخّر فلا محالة یجب أن یستصحب عدم زید إلی الزمان الواقعی لعمرو المردّد بین الزمانین ، وحیث إنّه من المحتمل کون الزمان الواقعی لعمرو هو الزمان الثانی فیحتمل وجود زید فی الزمان الأوّل فاستصحاب عدمه إلی زمان عمرو یوجب تخلّل وجود زید بین العدم المتیقّن السابق وبین العدم المشکوک فلم یحرز اتّصال زمان الشکّ بالیقین للعلم بوجود أحدهما فی الزمان الأوّل واحتمال کونه نفس ما یستصحب عدمه ، هذا .
والجواب عنه یظهر أیضاً ممّا عرفت من الخلط بین العلم و بین احتمال انطباق المعلوم وما یضرّ بالاستصحاب تخلّله هو الأوّل .
کتابمحاضرات فی الاصول (تشتمل علی تنبیهات الاستصحاب و التعادل و الترجیح و الاجتهاد و التقلید): تقریر الابحاث الامام الخمینی (س)صفحه 119