تبصرة :
ثمّ إنّ الشیخ قدس سره استثنی من عدم حجّیة الأصل المثبت ما إذا کانت الواسطة خفیّة . وتبعه المحقّق الخراسانی قدس سره وألحق بها الواسطة الجلیة التی یلازم عادة تنزیلها لتنزیله .
وقال المحقّق النائینی قدس سره ما حاصله : أنّه لا أثر لخفاء الواسطة فضلاً عن جلائها من جهة أنّه لا عبرة بالمسامحات العرفیة فی شیء من الموارد ، فإنّ نظر العرف إنّما یکون متّبعاً فی المفاهیم لا فی تطبیقها علی المصادیق ، فإنّهم قد یتسامحون فیطلقون أسماء المقادیر علی ما ینقص عنها أو یزید .
وبالجملة : فلا أثر لمسامحاتهم ، وحینئذٍ فلو کان الأثر أثراً للواسطة حقیقة فلا یفید الاستصحاب لترتّبه وإن لم یکن أثراً لها ، بل لذیها فیترتّب ، انتهی .
أقول : ما ذکره من عدم الاعتبار بالمسامحات العرفیة مسلم ، ولکنّه لا یستلزم ذلک عدم اتّباع نظرهم فی تطبیق المفاهیم علی المصادیق فإنّ العرف
کتابمحاضرات فی الاصول (تشتمل علی تنبیهات الاستصحاب و التعادل و الترجیح و الاجتهاد و التقلید): تقریر الابحاث الامام الخمینی (س)صفحه 100
ربّما یسامح فی إطلاق مفهوم علی شیء أو فی نفیه فلا یتّبع ، کما فی المقادیر ، وربّما لا یسامح بل یعمل دقّته ، ولکن مع ذلک یکون نظره خطأً عند العقل ، فحینئذٍ یکون المتّبع نظر العرف لا العقل . ألاتری : أنّ لون الدمّ إذا بقی فی اللباس یحکمون بطهارته ، مع أنّه بنظر العقل مصداق للدم من جهة حکمه باستحالة انتقال العرض . والسرّ فی ذلک : أنّ العرف ـ بنظرهم الدقّی لا المسامحی ـ یحکم بعدم کونه دماً .
وبالجملة : ففی تطبیق المفاهیم علی المصادیق أیضاً یتّبع نظر العرف بلا ریب ، ولکن نظرهم الدقّی لا المسامحی الذی یکون بنظرهم أیضاً مسامحیاً .
إذا عرفت هذا ، فنقول : فیما نحن فیه إن کان الأثر أثراً لذی الواسطة عند العرف بنظرهم الدقّی کان المقام مصداقاً لقوله : «لا تنقض» وإن کان بنظر العقل أثراً للواسطة ، وإن کان بنظرهم الدقّی أیضاً أثراً للواسطة وإن کان بنظرهم المسامحی أثراً لذیها فلا یشمله دلیل الاستصحاب . ألا تری : أنّ الشارع إذا حکم بحرمة الخمر ، ثمّ شکّ فی بقاء خمریة ما کان خمراً أجرینا الاستصحاب من جهة کون الخمر هو الموضوع فی لسان الدلیل بحسب نظر العرف بعد الدقّة ، مع أنّ الدقّة العقلیة تقتضی خلاف ذلک ، فإن حکم الشارع بحرمته إنّما یکون بجهة إسکاره ، والحیثیة التعلیلیة فی الأحکام مرجعها إلی الحیثیة التقیـیدیة بنظر العقل فاستصحاب الخمریة مثبت بنظر العقل لکون الموضوع بنظره هو حیثیة المسکریة ، ولکنّ العرف بعد الدقّة أیضاً لا یحکم إلاّ بحرمة نفس الخمر . غایة الأمر : یحکم بکون الإسکار واسطة فی ثبوتها .
فإن قلت : سلّمنا رجوع الحیثیات التعلیلیة إلی الحیثیات التقیـیدیة ولکن
کتابمحاضرات فی الاصول (تشتمل علی تنبیهات الاستصحاب و التعادل و الترجیح و الاجتهاد و التقلید): تقریر الابحاث الامام الخمینی (س)صفحه 101
لا فی مطلق الأحکام ، بل فی الأحکام العقلیة ، فإنّ الأحکام الشرعیة نفس أمریّتها وحقیقتها إنّما هی بالجعل فما وقع تحت الجعل یکون هو الموضوع حقیقة حتّی بنظر العقل .
قلت : الواقع تحت الجعل وإن کان هو الخمر ولکنّ العقل یحکم بأنّ حیثیة إسکاره هو الموضوع وإلاّ لزم الجزاف ، فإنّ المفسدة إنّما تکون فی هذه الحیثیة دون سائر الحیثیات المتّحدة معه .
فتلخّص ممّا ذکرنا : أنّ ما ذکروه من الأمثلة لخفاء الواسطة ممّا لا مجال لجریان الاستصحاب فیها ، فتدبّر .
ومن جملة الأمثلة التی ذکرها الشیخ قدس سره استصحاب عدم دخول هلال شوّال أو استصحاب بقاء رمضان حیث یثبت بهما عنوان آخریّة یوم الشکّ لرمضان وأوّلیة غده لشوّال ویترتّب آثارهما لخفاء الواسطة بنظر العرف .
وقال المحقّق النائینی قدس سره ما حاصله : إنّ الأوّل إن کان مفهوماً مرکّباً من کون شوّال وعدم مثله أو وجود ضدّه فی السابق جری الاستصحاب ، وثبت به أحد جزئی المرکّب وثبت الآخر بالوجدان فیثبت الأوّلیة ویترتّب آثارها ، ثمّ یترتّب علی الیوم الذی بعده أحکام الثانویة ، وهکذا یترتّب علی کلّ یوم آثاره الخاصّة به . وإن کان مفهوماً بسیطاً منتزعاً عن ذلک فلا یثبت بالاستصحاب ، فیشکل ترتیب الأثر بالنسبة إلی کلّ یوم من أیّام الشهر ، وحیث إنّ الظاهر صحّة الثانی فیشکل الأمر فی الأحکام الشرعیة المترتّبة علی أیّام الشهر ، هذا .
ولکن یمکن دفع الإشکال : بأنّ الظاهر کون المراد من أوّل الشهر فی موضوع
کتابمحاضرات فی الاصول (تشتمل علی تنبیهات الاستصحاب و التعادل و الترجیح و الاجتهاد و التقلید): تقریر الابحاث الامام الخمینی (س)صفحه 102
الأحکام هو یوم رؤیة الهلال والیوم الذی انقضی من الشهر الماضی ثلاثون یوماً ، فعند الشکّ لا یلزم تعطیل الأحکام ، وهذا لا ینافی کون أوّل الشهر موضوعاً للیوم الذی کان لیلته لیلة الهلال واقعاً ، سواء کان یوم الرؤیة أم لم یکن ، فإنّ المدّعی هو أنّ المراد من الیوم الأوّل الذی اُخذ موضوعاً للحکم هو یوم الرؤیة ، انتهی .
أقول : کون المثال من الاُصول المثبتة ممّا لا ریب فیه ولا یکفی الأصل لإحراز الأوّلیة وغیرها ، لأنّ الأوّلیة عبارة عن معنی بسیط ؛ أعنی به مبدئیة السلسلة ، سواء کانت مسبوقة بغیره أو بضدّه أم لا . ففی انتزاعها لا ینظر إلی الحالة السابقة . ولو سلّم کونها مفهوماً مرکّباً فإثبات الثانویة وغیرها بإثبات الأوّلیة بمدد الاستصحاب ، عمل بالأصل المثبت ، مع أنّ الالتزام بکونها معنی مرکّباً ممّا لا یمکن أیضاً .
وأمّا ما ذکره قدس سره أخیراً فی مقام دفع الإشکال ففاسد جدّاً ، لو کان مراده : «کون رؤیة الهلال أو مضیّ ثلاثین موضوعاً للحکم واقعاً» ، کما هو الظاهر من کلامه قدس سره ، إذ من البدیهی وجوب القضاء لمن أفطر یوم الشکّ من شعبان بالاستصحاب ، ثمّ انکشف کونه من رمضان ، وبطلان حجّ من وقف بعرفة فی الیوم العاشر من ذی الحجّة بزعم کونه الیوم التاسع ، إذا انکشف خلافه .
وبالجملة : فالالتزام بکون الموضوع واقعاً عبارة عن رؤیة الهلال التزام بأمرٍ بدیهی الفساد .
فالأقوی أن یقال : إنّ الموضوع للأحکام الشرعیة وإن کان عبارة عن الأوّل
کتابمحاضرات فی الاصول (تشتمل علی تنبیهات الاستصحاب و التعادل و الترجیح و الاجتهاد و التقلید): تقریر الابحاث الامام الخمینی (س)صفحه 103
الواقعی أو التاسع الواقعی ونحو ذلک ، إلاّ أنّ سیرة الأئمّة علیهم السلام والأصحاب ، بل والنبیّ صلی الله علیه و آله وسلم وأصحابه جرت علی ترتیب آثار الأوّلیة علی یوم الرؤیة وآثار الثانویة علی ما بعده إلی آخر الشهر ما لم ینکشف الخلاف ، فیستفاد من هذه السیرة القطعیة کون أیّام الشهر مخصوصة بجعل حکم ظاهری فیها ، فافهم وتأمّل .
کتابمحاضرات فی الاصول (تشتمل علی تنبیهات الاستصحاب و التعادل و الترجیح و الاجتهاد و التقلید): تقریر الابحاث الامام الخمینی (س)صفحه 104