التنبیه السادس فی الأصل المثبت
مفاد قوله : «لا تنقض الیقین بالشکّ» هو إطالة عمر الیقین السابق تعبّداً کما احتملناه سابقاً أو وجوب ترتیب آثار الیقین السابق المترتّبة علیه بما أنّه طریق ، أو وجوب ترتیب آثار المتیقّن ، وعلی جمیع التقادیر لا یکفی نفس استصحاب الأمر السابق ، لترتّب أثر الأثر وإن کانت الواسطة أیضاً شرعیة .
وإن شئت توضیح المقام فعلیک بالمراجعة إلی حال نفس العلم حتّی یتّضح حال غیره بالمقایسة .
فنقول : لو علمنا بحیاة زید مثلاً ، فهذا العلم بطریقیتـه للحیاة لا یترتّب علیه إلاّ انکشاف الحیاة ، ثمّ بانکشافها یترتّب علیها آثارها الشرعیة المترتّبة علی ذاتها ، وأمّا إذا کان لنبات لحیة زید أثر شرعی ، فالعلم بالحیاة بما هو علم بالحیاة لا یقتضی ترتّب هذا الأثر لعدم کشف هذا العلم إلاّ عن متعلّقه وهو الحیاة ولا یکون کاشفاً عن نبات اللحیة .
کتابمحاضرات فی الاصول (تشتمل علی تنبیهات الاستصحاب و التعادل و الترجیح و الاجتهاد و التقلید): تقریر الابحاث الامام الخمینی (س)صفحه 94
نعم ، لمّا کانت الحیاة ونبات اللحیة متلازمتین خارجاً یتولّد من العلم بالحیاة علم آخر متعلّقاً بنبات اللحیة ، فالأثر المترتّب علی نبات اللحیة من آثار العلم الثانی لا العلم الأوّل .
ثمّ لو کان لبیاض اللحیة أیضاً أثر شرعی فالعلمان السابقان لا یکفیان لترتّبه ، بل یتولّد منهما علم آخر متعلّقاً بالبیاض وأثر البیاض أثر لهذا العلم الثالث الذی هو طریق إلی متعلّقه .
فتحصّل من ذلک : أنّ الیقین بشیء لا یترتّب علیه إلاّ أثر نفس هذا الشیء ، لا أثر أثره ، فإنّه أثر لیقین آخر معلول له فإذا کان هذا حال العلم الوجدانی فقس علیه حال الیقین التنزیلی فقوله : «لا تنقض الیقین بالشکّ» یدلّ علی وجوب ترتیب کلّ أثر کان مترتّباً علی الیقین السابق بما أنّه طریق إلی متعلّقه ، فإذا کان متعلّقاً بحیاة زید فیجب بمقتضی ذلک ترتیب الأثر المترتّب علی الحیاة ، فإنّه الذی یمکن أن یستند إلی الیقین المتعلّق بها ، وأمّا الأثر المترتّب علی نبات اللحیة فلیس أثراً للیقین بالحیاة کما عرفت ، والمفروض عدم تعبّد آخر بالنسبة إلی الیقین المتعلّق به فلا یترتّب هذا الأثر .
نعم ، لو کان الیقین بنبات اللحیة أیضاً مورداً للتعبّد ، بأن کان له أیضاً حالة سابقة لجری فیه استصحاب آخر ، وأمّا الاستصحاب الأوّل فلا یکفی لإثبات أثر نبات اللحیة ، فإنّه لیس تعبّداً بالنسبة إلی الیقین بالحیاة وهو لا یقتضی إلاّ ترتّب أثر الحیاة .
وما ذکرنا : هو السرّ فی عدم حجّیة الأصل المثبت ، ومعنی ذلک أنّ الأصل لا یمکن أن یثبت .
کتابمحاضرات فی الاصول (تشتمل علی تنبیهات الاستصحاب و التعادل و الترجیح و الاجتهاد و التقلید): تقریر الابحاث الامام الخمینی (س)صفحه 95
بقی فی المقام أمران :
الأوّل : أنّ مقتضی ذلک عدم ترتّب أثر الأثر وإن کان الواسطة أیضاً شرعیة .
الثانی : أنّ مقتضی ذلک أیضاً عدم حجّیة الأمارة المثبتة ؛ وکلاهما خلاف التحقیق .
أقول : أمّا ترتّب أثر الأثر فلیس ببرکة الاستصحاب حتّی یرد ما ذکرت . توضیح ذلک : إنّا لو استصحبنا طهارة الماء ، ثمّ غسلنا به الثوب النجس ، ثمّ صلّینا الظهر فی هذا الثوب ، ثمّ العصر المترتّب علیه ، فهناک آثار شرعیة مترتّبة ، فصحّة العصر مترتّبة علی صحّة الظهر وهی علی طهارة الثوب وهی علی طهارة الماء .
إذا عرفت ذلک ، فنقول : إنّ قوله : «لا تنقض» بعد تطبیقه علی المقام لا یثبت به إلاّ طهارة الماء تعبّداً ، فإذا ثبت طهارته انطبق علیه الکبری الحاکمة بأنّ ما غسل بالماء الطاهر یصیر طاهراً ، وبذلک یثبت طهارة الثوب ، فإذا ثبت طهارته انطبق علیه الکبری الحاکمة بصحّة الصلاة فی الثوب الطاهر وهکذا ، فاستصحاب طهارة الماء فی المثال لا یثبت صحّة العصر وإنّما یثبت نفس متعلّقه فقط ، وأمّا غیره فیثبت بانطباق الکبریات المعلومة علی صغریاتها التی ثبت أوّلها فقط ببرکة الاستصحاب ، فتدبّر کیلا تقول : إنّ الکبریات یجب أن تنطبق علی صغریات وجدانیة ، وأمّا انطباقها علی الصغریات التعبّدیة فیحتاج إلی دلیل معمّم . فإنّا نقول : إنّ المعمّم هو قوله : «لا تنقض» الحاکم علی سائر الأدلّة .
وأمّا مثبتات الأمارات فهی أیضاً حجّة .
والوجه فی ذلک : أنّ حجّیة الأمارات لیست بجعل شرعی ، بل هی اُمور
کتابمحاضرات فی الاصول (تشتمل علی تنبیهات الاستصحاب و التعادل و الترجیح و الاجتهاد و التقلید): تقریر الابحاث الامام الخمینی (س)صفحه 96
کانت یعتمد علیها العقلاء فی إحراز الواقعیات فی عرض العلم لا بتنزیلها منزلته ، والشارع أیضاً عمل بها کأحدهم ، فللعقلاء لإحراز الواقعیات وکشفها کواشف متعدّدة ، منها : خبر الواحد ـ مثلاً ـ فإذا قام علی حیاة زید ـ مثلاً ـ انکشف لهم بسببه الحیاة ، ثمّ بانکشاف الحیاة ینکشف نبات اللحیة ، ثمّ بانکشافه ینکشف بیاضها ، فهنا انکشافات مترتّبة تولّد کلّ منها عمّا قبله علی قیاس ما عرفت فی العلم ، فإذا کان الأمر کذلک فیترتّب علی کلّ انکشاف أثره ولیس جمیع الآثار مترتّبة علی الانکشاف الأوّل حتّی یرد الإشکال .
والسرّ فی ذلک : أنّه لیس لهم فی باب الأمارات تعبّد أصلاً ، وإنّما تکون بنظرهم وسائط لکشف الواقعیات کالعلم ، لا أنّ کلّ واحد منهم ینزل الأمارة أوّلاً منزلة العلم ، ثمّ یعمل بها .
هذا ، وأمّا لو قیل : بأنّه ثبت فی الأمارات جعل وإن کان المجعول هو الوسطیة فی الإثبات والمحرزیة والطریقیة ، کما فی بعض الکلمات فالاعتماد علی مثبتاتها مشکل ، بل لا یجوز ، إذ الأمارة لا یزید عن العلم .
وقد عرفت : أنّ کلّ علم فإنّما یحکی عن متعلّقه فقط فکلّ أمارة لا یحکی إلاّ عن متعلّقه وبهذا الکشف الناقص وإن کان یتولّد کشف ناقص آخر متعلّق بلازم المکشوف الأوّل ولکنّ الجاعل إنّما تمّم الکشف الأوّل دون غیره ، فإنّه قد تمّم
کتابمحاضرات فی الاصول (تشتمل علی تنبیهات الاستصحاب و التعادل و الترجیح و الاجتهاد و التقلید): تقریر الابحاث الامام الخمینی (س)صفحه 97
الکشف الثابت بنفس الأمارة لا سائر الانکشافات المترتّبة المتولّدة عن الکشف الأوّل .
فالقول بأنّ المجعول فی الأمارات تتمیم الکشف أو الوسطیة فی الإثبات أو الطریقیة ، وذلک یقتضی حجّیة مثبتاتها ، فاسد .
بل الحقّ ما ذکرناه : من أنّ حجّیتها مبنیّة علی کون الانکشافات الثابتة بها فی عرض العلم غیر محتاجة إلی التنزیل ، إذ لو فرض تنزیلها منزلة العلم أیضاً فلا تزید عن العلم .
وأفسد من هذا القول ما قیل : من أنّ حجّیة الأمارة المثبتة من جهة إطلاق دلیلها .
وجه الفساد : أنّه لا جعل فی الأمارات أصلاً والآیات والأخبار لیست ناظرة إلی جعلها ، فتدبّر .
کتابمحاضرات فی الاصول (تشتمل علی تنبیهات الاستصحاب و التعادل و الترجیح و الاجتهاد و التقلید): تقریر الابحاث الامام الخمینی (س)صفحه 98