تتمّة : فی التفصیل بین الطهارة والحلّیة
نقل عن ظاهر بعض الأساطین : التفصیل بین الطهارة والحلّیة فی الحیوان المتولّد من حیوانین فحکم علیه بالطهارة وحرمة اللحم .
ولا وجه لهذا التفصیل فإنّ مقتضی أصالة عدم التذکیة ، النجاسة والحرمة ومقتضی أصالتی الطهارة والحلّیة ، الطهارة والحلّیة .
ونقل عن شارح «الروضة» فی وجهه ما حاصله : أنّ ما حلّ أکله من الحیوانات محصور معدود فی الکتاب والسنّة وکذلک النجاسات محصورة معدودة فیهما فالمشکوک إذا لم یدخل فی المحصور منهما کان الأصل فیه الطهارة وحرمة اللحم .
کتابمحاضرات فی الاصول (تشتمل علی تنبیهات الاستصحاب و التعادل و الترجیح و الاجتهاد و التقلید): تقریر الابحاث الامام الخمینی (س)صفحه 59
وفیه: أنّ المدّعی إن کان أنّ المستفاد من الأدلّة حصر المحلّل فی اُمور بحیث دلّت بمفهوم الحصر علی حرمة ما عداها ، وکذلک فی النجاسات فهو ممنوع .
نعم ، إنّما یشعر علیه بعض الروایات کروایة «تحف العقول» لکن لا یمکن إثبات هذا الحکم بمثله .
وإن کان المدّعی أنّ کون المحلّلات معدودة فی عدّة محصورة لازمه الحرمة فیما یشکِّ، مع عدم کونه من جملة تلک المعدودات ، فهو أیضاً ممنوع ؛ لأنّ تعدید المحلّل لا یدلّ علی تحریم غیره ، فأصالة الحلّیة کأصالة الطهارة ممّا لا مانع منها ، والظاهر أنّ مراده ما ذکرنا .
وأمّا بعض أعاظم العصر فوجّه قوله بما لا یخلو من غرابة ومناقشة ، قال ما حاصله : أنّ تعلیق الحکم علی أمر وجودی یقتضی إحرازه ، فمع الشکّ فی هذا الأمر یبنی ظاهراً علی عدم تحقّقه ، للملازمة العرفیة بین تعلیقه علیه وبین عدمه عند عدم إحرازه . وهذه الملازمة تستفاد من دلیل الحکم ، وهی ملازمة ظاهریة فی مقام العمل ویترتّب علی ذلک فروع مهمّة :
منها : البناء علی نجاسة الماء المشکوک الکرّیة عند ملاقاته للنجاسة مع عدم العلم بالحالة السابقة ، کمخلوق الساعة المجهول کرّیته ؛ فإنّ الحکم بالعاصمیة قد علّق علی کون الماء کرّاً ، کقوله : «إذا بلغ الماء قدر کرّ لم ینجّسه شیء» أو
کتابمحاضرات فی الاصول (تشتمل علی تنبیهات الاستصحاب و التعادل و الترجیح و الاجتهاد و التقلید): تقریر الابحاث الامام الخمینی (س)صفحه 60
«لم یحمل خبثاً» فلا یجوز ترتیب آثار الطهارة عند الشکّ فی الکرّیة مع ملاقاته للنجاسة ؛ لأنّه یستفاد من دلیل الحکم أنّ العاصمیة إنّما تکون عند إحراز الکرّیة لا من جهة أخذ العلم فی موضوع الحکم ، بل من جهة الملازمة العرفیة الظاهریة .
ومنها : أصالة الحرمة فی باب الدماء والأموال والفروج ، فإنّ الحکم بجواز الوط ء قد علّق علی الزوجة وملک الیمین ، والحکم بجواز التصرّف قد علّق علی کون المال ممّا قد أحلّه الله ، فلا یجوز الوط ء والتصرّف مع الشکّ فی الزوجیة وکون المال ممّا قد أحلّه الله .
وقد تخیّل شارح «الروضة» : أنّ باب النجاسات واللحوم من صغریات تلک الکبری . بتقریب : أنّ النجاسات معدودة فی عناوین خاصّة ، کالدم والمیتة وغیر ذلک ، وقد علّق وجوب الاجتناب علی تلک العناوین الوجودیة ، فلابدّ فی الحکم بالنجاسة من إحراز تلک العناوین ، ومع الشکّ فی تحقّقها یبنی علی الطهارة ، وکذا جواز الأکل قد علّق علی عنوان الطیّب ، کما قال تعالی : «أُحِلَّ لَکُمُ الطَّیِّبَاتُ» وهو أمر وجودی عبارة عمّا تستلذّه النفس ویأنس به الطبع والحیوان المتولّد من حیوانین لم یعلم کونه من الطیّب ، فلا یحکم علیه بالحلّیة ، بل یبنی علی حرمته ظاهراً ما لم یحرز کونه من الطیّب ، هذا غایة ما یمکن أن یوجّه به کلامه .
کتابمحاضرات فی الاصول (تشتمل علی تنبیهات الاستصحاب و التعادل و الترجیح و الاجتهاد و التقلید): تقریر الابحاث الامام الخمینی (س)صفحه 61
ولکن یرد علیه ، أوّلاً : أنّ الکبری وهی أنّ تعلیق الحکم علی أمر وجودی یقتضی إحرازه وإن کانت من المسلّمات ، إلاّ أنّ ذلک فی خصوص ما علّق فیه الحکم الترخیصی الإباحی علی عنوان وجودی ، لا الحکم العزیمتی التحریمی ؛ فإنّ الملازمة العرفیة بین الأمرین إنّما هی فیما إذا کان الحکم لأجل التسهیل والامتنان لا فی مثل وجوب الاجتناب عن النجاسة وإلاّ لم یبق موضوع لقوله : «کلّ شیء طاهر حتّی تعلم أنّه قذر» فإدراج باب النجاسات فی تلک الکبری لیس فی محلّه .
نعم ، إدراج الحکم بحلّ الطیّبات فیها فی محلّه لو سلّم عمّا سیأتی .
وثانیاً : منع کون الطیّب أمراً وجودیاً ، بل هو عبارة عمّا لا تستقذره النفس ولا یستنفر منه الطبع فی مقابل الخبیث الذی هو عبارة عمّا یستنفر منه الطبع .
وثالثاً : سلّمنا کون الطیّب أمراً وجودیاً ، ولکنّ الخبیث الذی علّق علیه الحرمة أیضاً أمر وجودی ، والکبری المذکورة إنّما هی فی مورد لم یعلّق نقیض الحکم علی أمر وجودی آخر وإلاّ فالمرجع عند الشکّ فی تحقّق أحد الأمرین الوجودیین اللذین علّق علیهما الحکمان المتضادّان علیهما إلی الاُصول العملیة ، وهی فی المورد البحث لیست إلاّ أصالة الحلِّ. ولا یجری استصحاب الحرمة الثابتة للحیوان فی حال حیاته ؛ فإنّ للحیاة دخلاً عرفاً فی موضوع الحرمة ، ولا أقلّ من الشکّ فلا مجال للاستصحاب والطهارة ، فالأقوی ثبوت الملازمة بین
کتابمحاضرات فی الاصول (تشتمل علی تنبیهات الاستصحاب و التعادل و الترجیح و الاجتهاد و التقلید): تقریر الابحاث الامام الخمینی (س)صفحه 62
الحلّ والطهارة فی جمیع فروض المسألة ، انتهی کلامه بطوله .
وفیه : أوّلاً : أنّ تلک الملازمة العرفیة ممنوعة لا دلیل علیها ، وإنّما هی دعوی مجرّدة عن البیّنة، وهذه نظیر قاعدة المقتضی والمانع، بل عینها ممّا لا أساس لها.
وبالجملة : لا أری وجهاً للدعوی المذکورة ، وعدّ تلک الکبری من المسلّمات لا یخلو من غرابة ومجازفة ، وأمّا الفروع التی رتّبها علیها فمنظور فیها ، أمّا الحکم بنجاسة الماء المشکوک کرّیته عند ملاقاته للنجاسة فممنوع .
أمّا أوّلاً : فلأنّ المستفاد من الأدلّة أنّ الماء القلیل ینفعل ، والماء البالغ حدّ الکرّ لا ینفعل ، وأمّا أنّ الماء مقتضٍ للانفعال والکرّیة مانعة ، فلا یستفاد من شیء منها ، فأصالة الطهارة فی الماء المذکور محکّمة لا مانع من جریانها .
وأمّا ثانیاً : فلأنّه لو سلّم أنّ المعتصم هو وصف الکرّیة والماء مقتضٍ للانفعال لکنّ الحکم بالمقتضی مع إحراز المقتضی فقط والشکّ فی المانع ممنوع ، بل لابدّ من إحراز عدمه حتّی یحکم بوجوده . وأمّا أصالة الحرمة فی باب الفروج والأموال فلیست من جهة هذه الکبری ، فإنّه لو کانت من جهتها لم یختصّ الحکم بتلک الموارد ، بل لابدّ من إسرائه إلی کلّ مورد علّق الحکم علی أمر وجودی ، سواء کان فی الأموال والأعراض أو غیرهما مع أنّ الأمر لیس کذلک .
مضافاً إلی أنّ الحلّیة فی هذه الموارد تکون معلّقة علی أسباب حادثة تکون مسبوقة بالعدم ، ویستصحب عدم حدوثها کأصالة عدم حدوث العلاقة الزوجیة وأصالة عدم طیب نفس المالک إلی غیر ذلک .
وثانیاً : أنّ ما أفاد من تخیّل شارح «الروضة» : «أنّ باب النجاسات واللحوم
کتابمحاضرات فی الاصول (تشتمل علی تنبیهات الاستصحاب و التعادل و الترجیح و الاجتهاد و التقلید): تقریر الابحاث الامام الخمینی (س)صفحه 63
من صغریات تلک الکبری» فلا شاهد علیه ، بل الظاهر من کلامه المنقول ما احتملناه من تخیّله استفادة الحصر من الأدلّة ، فیدلّ الدلیل الاجتهادی علی حرمة ما عدا المحصور ، کما یشعر به بعض الروایات .
والشاهد علیه : أنّ المنقول من کلامه أنّ ما حلّ أکله من الحیوانات محصور معدود فی الکتاب والسنّة لا أنّ الحلّیة علّقت علی أمر وجودی مثل الطیّب . ولا یخفی : أنّ حمل کلامه علی ما ذکره بعید غایته . مع أنّ مثل هذا التعلیق ـ أی إثبات حکم لأمر وجودی ـ لا یکون مورداً لتوهّم الدخول فی الکبری المدّعاة .
نعم ، کلّ حکم تعلّق بموضوع وجودی أو عدمی لابدّ فی الحکم بثبوته من إحراز الموضوع فإذا ورد : «أکرم العلماء» ، لابدّ فی الحکم بوجوب إکرام الأشخاص الخارجیة أن یحرز کونهم مصادیق للعالم .
وبالجملة : لابدّ من إحراز الصغری والکبری ، سواء کان الموضوع وجودیاً أو عدمیاً ، وهذا غیر ما یدّعی من الملازمة العرفیة فإنّ تلک الدعوی إنّما کانت فی مثل : «لا یحلّ مال امرء إلاّ بطیب نفسه» أو «لا یحلّ مال إلاّ من حیث أحلّه الله » ممّا سلب حکم بنحو کلّی ، وجعل سبب انقلابـه إلی ضدّه منحصراً فی أمر وجودی ، ففی مثل قوله : «لا یحلّ مال امرء إلاّ بطیب نفسه» جعل طریق الحلّیة منحصراً فی أمر وجودی هو طیب نفس صاحب المال ، فیدّعی أنّ العرف
کتابمحاضرات فی الاصول (تشتمل علی تنبیهات الاستصحاب و التعادل و الترجیح و الاجتهاد و التقلید): تقریر الابحاث الامام الخمینی (س)صفحه 64
لا یحکم بالحلّیة إلاّ إذا أحرز طیب نفسه، کما أنّ شیخنا العلاّمة ـ أعلی الله مقامه ـ أیضاً کان یدّعی ذلک ویقول : هل تری من نفسک أنّ مورد الشکّ فی تحقّق طیب نفس صاحب المال یتصرّف الإنسان فیه ، ویتعذّر بأنّه شبهة مصداقیة للعامّ لا یجوز التمسّک به ویجوز التصرّف تمسّکاً بقوله : «کلّ شیء لک حلال . . .» ؟
وما ادّعی قدس سره فی خصوص المثال وإن کان صحیحاً ، لکن لا من جهة الضابط الکلّی والقانون العامّ فی کلّ مورد استثنی حکم وجودی عن حکم کلّی بنحو الانحصار ، فإذا ورد : «لا تشرب مائعاً إلاّ الماء» وکان المائع مردّداً بین کونه ماءً أو غیره لا یمکن أن یدّعی أنّ نفس هذه القضیّة مانعة عن شربه ؛ لأنّه تمسّک بالعامّ فی الشبهة المصداقیة لنفسه لا لمخصّصه ؛ لأنّ الاستثناء المتّصل بالکلام یوجب عدم انعقاد الظهور للعامِّ، ففی المثال المذکور یتقیّد المائع بغیر الماء فکأنّه قال : «لا تشرب غیر الماء» ، ولا إشکال فی عدم جواز التمسّک بالعموم فی مثله . ودعوی الملازمة العرفیة ممنوعة . ولا یبعد أن یکون فی مثل الأموال لأجل الأهمّیة فی نظر العقلاء أو لأجل استصحاب عدم طیب النفس لأنّه أصل عقلائی فی الجملة .
وثالثاً : أنّ ما أفاده : «من أنّ الملازمة العرفیة إنّما هی فی خصوص ما علّق فیه الحکم الترخیصی الإباحی علی أمر وجودی ؛ فإنّها إنّما هی فیما إذا کان الحکم لأجل التسهیل والامتنان» غریب منه لخلوّ هذه الدعوی عن الشاهد ، بل
کتابمحاضرات فی الاصول (تشتمل علی تنبیهات الاستصحاب و التعادل و الترجیح و الاجتهاد و التقلید): تقریر الابحاث الامام الخمینی (س)صفحه 65
هی دعوی مجرّدة لا دلیل علیها من عقل ونقل وحکم عقلائی وإن کان أمثاله منه قدس سرهغیر عزیز .
مضافاً إلی أنّ التسهیل والامتنان یقتضیان التوسعة لا التضیـیق ، فإذا علّق حکم اعتصام الماء علی الکرّیة ـ امتناناً علی العباد ـ لا یقتضی ذلک أن یکون الأمر مضیّقاً علیهم بحیث لا یحکم بعدم الانفعال إلاّ مع إحراز الکرّیة .
ولعمری إنّ ما ذکره هاهنا لا یخلو من قصور وخلط ، فما هذا الحکم الترخیصی الامتنانی فی قوله : «لا یحلّ مال إلاّ من حیث أحلّه الله » أو «لا یحلّ مال امرء إلاّ بطیب نفسه» أو فیما علّق جواز الوط ء علی الزوجیة وملک الیمین؟ فإنّ جمیع ذلک من الأحکام التضیـیقیة لا التسهیلیة الامتنانیة .
ورابعاً : أنّ ما أفاد : «من أنّ الطیّب أمر عدمی هو ما لا یستقذره النفس ولا یستنفر منه الطبع» ، ممنوع أیضاً ؛ لأنّ حقیقة الطیّب لیست عبارة عن عدم الاستقذار والاستنفار ، بل هما من لوازم الطیّب فإنّه عبارة عن صفة وحالة وجودیة یکون الطبع غیر مستنفر منها ، فتدبّر .
کتابمحاضرات فی الاصول (تشتمل علی تنبیهات الاستصحاب و التعادل و الترجیح و الاجتهاد و التقلید): تقریر الابحاث الامام الخمینی (س)صفحه 66