اختلاف الأنظار فی وجود النسبة فی القضیة السالبة
وقد اختلفت الکلمات فی باب القضیّة السالبة وأنّها هل تشتمل علی نسبة سلبیة أو لا تتضمّن النسبة أصلاً ؛ وتفصیل ذلک هو أنّ قولنا : «زید لیس بقائم» یحتمل فیه بالنظر البدوی اُمور ثلاثة :
الأوّل : أن یکون المقصود إثبات اتّصاف زید بسلب القیام بحیث یعتبر بین زید وهذا السلب نسبة ثبوتیة ویکون السلب جزءاً من المحمول وحینئذٍ یخرج
کتابمحاضرات فی الاصول (تشتمل علی تنبیهات الاستصحاب و التعادل و الترجیح و الاجتهاد و التقلید): تقریر الابحاث الامام الخمینی (س)صفحه 25
القضیّة عن کونها سالبة فتکون موجبة معدولة المحمول .
الثانی : أن لا یجعل السلب جزءاً من المحمول ولکن یکون المقصود إثبات اتّصاف زید بأنّه مسلوب عنه القیام ، وهذا الاعتبار أیضاً یخرج القضیّة عن کونها سالبة ، بل تصیر موجبة سالبة المحمول .
الثالث : أن لا یجعل السلب جزءاً من المحمول ولا یعتبر أیضاً اتّصاف الموضوع بشیء ، بل یکون المقصود رفع نسبة القیام إلی زید وقطعها فی قبال الموجبة التی یکون مفادها إثبات النسبة وهذا هو مفاد القضیّة السالبة المحصّلة وفی هذا الفرض اختلفت کلمات القدماء والمتأخّرین ، فذهب بعض المتأخّرین إلی أنّ القضیّة السالبة تشتمل علی نسبة سلبیة وعدم رابط ، فکما أنّ القضیّة الموجبة مرکّبة من الموضوع والمحمول ونسبة ثبوتیة فکذلک القضیّة السالبة مرکّبة من الطرفین ونسبة هی بنفسها أمر عدمی .
وبعبارة اُخری : کما أنّ ارتباط زید والقیام فی القضیّة الموجبة إنّما هو بثبوت القیام لزید وحصوله له الذی یعبّر عنه بالنظر إلی الخارج ، بـ «الکون الرابط» وبالنظر إلی القضیّة بـ «النسبة الثبوتیة» ویکون الثانی حاکیاً عن الأوّل فکذلک ارتباطهما فی القضیّة السالبة إنّما هو بسلب القیام عن زید وانفصاله عنه ویعبّر عنه باعتبار الخارج بـ «العدم الرابط» وبالنظر إلی القضیّة ، بـ «النسبة السلبیة» ویکون الثانی حاکیاً عن الأوّل .
وبعبارة ثالثة : کما أنّ الوصل بین الشیئین نحو إضافة وانتساب بینهما فکذلک
کتابمحاضرات فی الاصول (تشتمل علی تنبیهات الاستصحاب و التعادل و الترجیح و الاجتهاد و التقلید): تقریر الابحاث الامام الخمینی (س)صفحه 26
الفصل بینهما فالسلب فی القضیّة السالبة یتوجّه إلی نفس المحمول ویکون بنفسه رابطاً بین الطرفین .
وذهب القدماء إلی أنّ القضیّة السالبة لا تشتمل علی النسبة ، بل یکون مفادها سلب النسبة وقطعها . لا بأن یعتبر أوّلاً بین الطرفین نسبة ثبوتیة ثمّ ترفع ، بل السلب یتوجّه أوّلاً إلی المحمول ولکن معنی سلب المحمول عن الموضوع هو رفع الانتساب بینهما ، کما أنّ القضیّة الموجبة لا یعتبر فیها أوّلاً نسبة ثبوتیة ثمّ تثبت للموضوع ، بل الإثبات یتوجّه أوّلاً إلی المحمول فیثبت للموضوع ومع ذلک یقال : إنّ فیها نسبة ثبوتیة .
والسرّ فی ذلک : أنّ النسبة معنی حرفی آلی فلا یتعلّق بها اللحاظ استقلالاً ، بل الذی یتوجّه إلیه الذهن فی القضیّة إنّما هو إثبات شیء لشیء أو سلب شیء عن شیء ثمّ بالنظر الثانوی یری أنّ الموجبة تشتمل علی نسبة وارتباط بین الموضوع والمحمول والسالبة لا تشتمل إلاّ علی سلب النسبة والارتباط لا علی ارتباط یکون بنفسه أمراً عدمیاً .
هذه خلاصة ما ذکره القدماء والمتأخّرون فی هذا المقام والحقّ مع القدماء ویشهد لذلک أمران :
الأوّل : أنّ المراد بالعدم الرابط إن کان صورته الذهنیة المتحقّقة فی القضیّة الذهنیة ، ففیه : أنّها لیست عدماً بالحمل الشائع ، بل هو أمر متحقّق فی الذهن وإن کـان المراد به ما به یرتبط الموضوع والمحمول فی الخارج نظیر الکون الرابط فی الموجبات .
کتابمحاضرات فی الاصول (تشتمل علی تنبیهات الاستصحاب و التعادل و الترجیح و الاجتهاد و التقلید): تقریر الابحاث الامام الخمینی (س)صفحه 27
ففیه : أنّ مقتضی ذلک هو أن یتحقّق فی الخارج أمر یکون حقیقة ذاته العدم والبطلان ، ومع ذلک یکون رابطاً بین الموضوع والمحمول وهذا واضح الفساد ، مع أنّه من الممکن أن لا یکون شیء من الطرفین موجوداً فی الخارج ، کما فی القضیّة السالبة بانتفاء الموضوع فیلزم أن یتحقّق فی الخارج عدم رابط بین عدمین وفساد هذا أوضح من السابق .
الثانی : أنّ الارتباط الثبوتی بین الموضوع والمحمول یوجب اتّصاف الموضوع بثبوت المحمول له واتّصاف المحمول بثبوته للموضوع فإنّ هذا المعنی لازم ثبوت الارتباط بینهما ، وعلی هذا فلو فرض بینهما ارتباط سلبی یکون مقتضی ذلک اتّصاف الموضوع بکون المحمول مسلوباً عنه واتّصاف المحمول بکونه مسلوباً عن الموضوع ولازم ذلک رجوع القضیّة السالبة إلی الموجبة السالبة المحمول ، وهـذا خلف لأنّا قد فرضناها قضیّة فی قبالها بحیث لم یلحظ فیها حیثیة الاتّصاف أصلاً .
وبعبارة واضحة : معنی قولنا : «زید قائم» باعتبار اشتماله علی النسبة الثبوتیة هو أنّ زیداً متّصف بالقیام وحینئذٍ فلو فرض نسبة سلبیة فی قولنا : «زید لیس بقائم» یصیر مفاده أنّ زیداً متّصف بسلب القیام عنه وهذا المعنی یخرج القضیّة السالبة عن کونها سالبة فبهذین الوجهین اتّضح بطلان کلام المتأخّرین .
فإن قلت : مقتضی ما ذکرت هو أن لا تکون القضیّة السالبة مشتملة علی نسبة مع أنّ لزوم اعتبار نسبة مّا بین الموضوع والمحمول فی صیرورتهما موضوعاً و محمولاً لقضیّة من أبده البدیهیات .
قلت : لا نسلّم توقّف تحقّق القضیّة مطلقاً علی النسبة ، بل هی أمر یتقوّم
کتابمحاضرات فی الاصول (تشتمل علی تنبیهات الاستصحاب و التعادل و الترجیح و الاجتهاد و التقلید): تقریر الابحاث الامام الخمینی (س)صفحه 28
ویتحقّق ، إمّا بثبوت النسبة أو بسلبها فمفاد الموجبة تحقّق الارتباط بین الموضوع والمحمول ، ومفاد السالبة عدم تحقّقه بینهما .
فإن قلت : إذا لم تکن القضایا السالبة مشتملة علی النسبة فإلی أیّ أمر ترجع الجهات فی السوالب مع أنّها لبیان کیفیات النسب ؟
قلت : لا نسلّم کونها مطلقاً لبیان کیفیات ثبوت النسب ، بل هی فی السوالب لبیان کیفیات سلبها .
ثمّ إنّه قد ظهر لک بما ذکرنا ، بطلان ما ذکره بعض الاُدباء من کون القضیّة صادقة إن کان لنسبته خارج تطابقه وکاذبة إن لم یکن کذلک .
وجه البطلان : أنّ صدق القضیّة لیس دائراً مدار تحقّق النسبة الخارجیة فإنّ النسبة الخارجیة لا تتحقّق إلاّ فی الموجبات من الهلیّات المرکّبة لما عرفت من أنّ لکلّ من أجزاء القضیّة فی الموجبة المرکّبة محکیّاً عنه فی الخارج ، وأمّا فی الموجبة البسیطة والسالبة بقسمیها فلیس فی الخارج نسبة أصلاً کما مرِّ.
کتابمحاضرات فی الاصول (تشتمل علی تنبیهات الاستصحاب و التعادل و الترجیح و الاجتهاد و التقلید): تقریر الابحاث الامام الخمینی (س)صفحه 29