تنبیهات الاستصحاب

التنبیه الأوّل فی اعتبار فعلیة الیقین والشکّ فی الاستصحاب

‏ ‏

‏ ‏

‏ ‏

‏ ‏

‏ ‏

‏ ‏

‏ ‏

‏ ‏

التنبیه الأوّل فی اعتبار فعلیة الیقین والشکّ فی الاستصحاب

‏ ‏

‏قال فی «الکفایة» فی التنبیه الأوّل من تنبیهات الاستصحاب‏‏  ‏‏: أنّه یشترط فی‏‎ ‎‏الاستصحاب کون کلّ من الیقین والشکّ فعلیاً‏‏  .‏‎[1]‎‏ وفی التنبیه الثانی ما حاصله‏‏  ‏‏:‏‎ ‎‏أنّ استصحاب الأحکام المحرزة بالأمارات‏‏  ‏‏، لا بالقطع والیقین‏‏  ‏‏، لا محذور فیه‏‏  ‏‏.‏‎ ‎‏بتقریب‏‏  ‏‏: أنّ مقتضی قوله‏‏  ‏‏: ‏«لا تنقض»‎[2]‎‏ جعل الملازمة بین ثبوت الشیء وبقائه‏‎ ‎‏ودلیل حجّیة الأمارة دلیل علی أحد المتلازمین‏‏  ‏‏؛ أعنی الثبوت والدلیل علی أحد‏‎ ‎‏المتلازمین دلیل علی الآخر‏‏  ،‏‎[3]‎‏ انتهی‏‏  .‏

أقول‏  :‏‏ الظاهر أنّ بین هذین التنبیهین تهافتاً‏‏  ‏‏، فإنّ مقتضی الثانی أنّ الیقین‏‎ ‎‏فی قوله‏‏  ‏‏: ‏«لا تنقض»‏ طریقی محض والشکّ أیضاً قد ذکر مورداً لا موضوعاً‏‏  ‏‏،‏‎ ‎


کتابمحاضرات فی الاصول (تشتمل علی تنبیهات الاستصحاب و التعادل و الترجیح و الاجتهاد و التقلید): تقریر الابحاث الامام الخمینی (س)صفحه 13
‏کما فی الأمارات فیکون مفاد ‏«لا تنقض»‏ أنّ ما ثبت واقعاً یدوم‏‏  ‏‏، ومقتضی‏‎ ‎‏التنبیه الأوّل أنّ کلاًّ من الیقین والشکّ لهما دخالة فی موضوع الاستصحاب‏‏  ‏‏،‏‎ ‎‏إمّا لکونهما تمام الموضوع أو لکونهما جزءاً منه‏‏  ‏‏، إذ لو لم یکن لهما دخالة‏‎ ‎‏فیه أصلاً‏‏  ‏‏، بل کان مفاد أدلّة الاستصحاب الملازمة بین ثبوت المتیقّن وبقائه‏‎ ‎‏فقط لم یکن وجه لاشتراط الفعلیة فیهما وکان مقتضی ذلک الملازمة بین‏‎ ‎‏الثبوت والبقاء‏‏  ‏‏، سواء علم به المکلّف أو لم یعلم‏‏  ‏‏، غفل عنه أو لم یغفل‏‏  ‏‏.‏‎ ‎‏غایة الأمر‏‏  ‏‏: أنّ ترتّب الأثر یدور مدار الإحراز بالعلم أو بإحدی الطرق‏‎ ‎‏الاُخری‏‏  .‏

‏ثمّ إنّ الاحتمالات المتصوّرة فی مثل قوله‏‏  ‏‏: ‏«لا تنقض الیقین بالشکّ»‏ بحسب‏‎ ‎‏مقام الثبوت ثلاثة‏‏  :‏

الاحتمال الأوّل‏  :‏‏ عدم دخالة الشکّ والیقین أصلاً فیکون مفاده أنّ ما ثبت‏‎ ‎‏یدوم ویکون ذکر الشکّ لکونه مورداً للتعبّد الشرعی‏‏  ‏‏، کما فی الأمارات‏‎ ‎‏فالاستصحاب بناءً علی هذا یکون من الأمارات المجعولة شرعاً‏‏  ‏‏، بل لم تکن لنا‏‎ ‎‏فی الشرع أمارة مجعولة تأسیساً‏‏  ‏‏، إلاّ الاستصحاب‏‏  ‏‏، إذ جمیع الأمارات ما سواه‏‎ ‎‏ممّا استقرّ علی العمل بها سیرة العقلاء والشارع فی ذلک کأحدهم‏‏  ‏‏، وأمّا‏‎ ‎‏الاستصحاب فلیس العمل به من مرتکزات العقلاء وإن توهّم‏‏  ‏‏، بداهة أنّ عملهم‏‎ ‎‏بالحالة السابقة إنّما یکون للوثوق ببقائها أو للغفلة عن زوالها أو للرجاء‏‎ ‎‏والاحتیاط‏‏  ‏‏، وفی سوی ذلک لا یرتّبون أثر البقاء فی صورة الشکّ فضلاً عن الظنّ‏‎ ‎‏بالخلاف‏‏  .‏


کتابمحاضرات فی الاصول (تشتمل علی تنبیهات الاستصحاب و التعادل و الترجیح و الاجتهاد و التقلید): تقریر الابحاث الامام الخمینی (س)صفحه 14
‏وبذلک یدفع ما یتوهّم‏‎[4]‎‏ من أنّ التعلیل فی صحیحتی زرارة‏‎[5]‎‏ إنّما یکون بأمر‏‎ ‎‏ارتکازی عقلائی وأنّ الاستدلال بظهورهما وعمومهما لجمیع الموارد من الشکّ‏‎ ‎‏فی المقتضی والرافع والموضوعات والأحکام لا یصحّ إلاّ إذا کان ثابتاً بهذا‏‎ ‎‏العموم عند العقلاء‏‏  ‏‏. وجه الدفع‏‏  ‏‏: أنّ العمل والاعتماد علی صرف الحالة السابقة‏‎ ‎‏لیس من مرتکزات العقلاء کما عرفت‏‏  .‏

‏ویشهد لذلک مورد الصحیحة الاُولی فإنّ استصحاب الوضوء مع ظهور‏‎ ‎‏أمارات النوم من حرکة الشیء فی جنبه وهو لا یعلم‏‏  ‏‏، ممّا لا یبنی علیه العقلاء‏‎ ‎‏لولا تعبّد الشارع بذلک‏‏  .‏

‏اللهمّ إلاّ أن یقال‏‏  ‏‏: ثبوت الفرق بین مقام إثبات الواقعیات وإحرازها وبین مقام‏‎ ‎‏الاحتجاج بین الموالی والعبید فإنّ خبر الواحد أیضاً لیس ممّا یعتمد علیه‏‎ ‎‏العقلاء دائماً‏‏  ‏‏، ولکن یکتفی به فی مقام الاحتجاج واللجاج‏‏  ‏‏، فافهم‏‏  .‏

‏وکیف کان‏‏  ‏‏: فلو کان مفاد هذه الأخبار‏‏  ‏‏، أنّ ما ثبت یدوم بحکم الشارع کان‏‎ ‎‏مقتضاه جعل الثبوت والکون فی الزمان السابق أمارة لبقائه‏‏  ‏‏، إذ له کاشفیة ناقصة‏‎ ‎‏فیتمّها الشارع بجعله تأسیساً‏‏  ‏‏، وعلی هذا یکون الیقین فی هذه الأخبار طریقاً‏‎ ‎‏محضاً فیکون مفاد قوله‏‏  ‏‏: ‏«لا تنقض الیقین»‏  ‏‏، لا تنقض الثابت‏‏  ‏‏، ویکون مقتضی‏‎ ‎


کتابمحاضرات فی الاصول (تشتمل علی تنبیهات الاستصحاب و التعادل و الترجیح و الاجتهاد و التقلید): تقریر الابحاث الامام الخمینی (س)صفحه 15
‏جعله‏‏  ‏‏، إطالة عمر ما ثبت تعبّداً والشکّ قد ذکر من جهة کونه مورداً للتعبّد لا‏‎ ‎‏موضوعاً فیکون المجعول أمارة‏‏  .‏

الاحتمال الثانی‏  :‏‏ أن یکون الیقین طریقاً محضاً ولکن یکون الشکّ مأخوذاً‏‎ ‎‏موضوعاً فحینئذٍ یکون الاستصحاب من الاُصول ولازم کلا الاحتمالین جریان‏‎ ‎‏الاستصحاب فی الأحکام والموضوعات الثابتة بالأمارات‏‏  ‏‏، إذ الفرض عدم‏‎ ‎‏دخالة الیقین أصلاً‏‏  ‏‏، وإنّما ذکر آلة لملاحظة الثابت والمتیقّن والأمارات أوساط‏‎ ‎‏فی الإثبات بجعل الشارع‏‏  ‏‏، ویفترق الاحتمالان بوجهین‏‏  :‏

‏الأوّل: ما اُشیر إلیه من کون الاستصحاب أمارة علی الأوّل وأصلاً علی الثانی.‏

‏الثانی‏‏  ‏‏: أنّ الشکّ والیقین لا یشترط فیهما الفعلیة علی الأوّل لعدم أخذهما‏‎ ‎‏موضوعاً‏‏  ‏‏، وأمّا علی الثانی فالیقین لا یشترط فیه الفعلیة أیضاً‏‏  ‏‏، وأمّا الشکّ‏‎ ‎‏فیشترط فیه تلک‏‏  ‏‏، إذ الظاهر من أخذ عنوان فی موضوع حکم‏‏  ‏‏، کون الحکم ثابتاً‏‎ ‎‏له علی تقدیر فعلیته وتحقّقه کما لا یخفی‏‏  .‏

الاحتمال الثالث‏  :‏‏ أن یکون الیقین أیضاً مأخوذاً موضوعاً وهو علی قسمین‏‏  :‏

‏الأوّل‏‏  ‏‏: أن یکون تمام الموضوع‏‏  .‏

‏الثانی‏‏  ‏‏: أن یکون جزؤه ویکون جزؤه الآخر هو الواقع والمتیقّن‏‏  .‏

‏ولا یخفی‏‏  ‏‏: أنّ أخذه موضوعاً هنا إنّما یکون بما هو کاشف لا بما هو صفة‏‎ ‎‏نفسانیة للمکلّف فإنّ جعل الاستصحاب إنّما یکون بلحاظ الواقع‏‏  ‏‏، وإن أخذ فی‏‎ ‎‏موضوعه الیقین‏‏  ‏‏، ونظیر ذلک باب القضاء والشهادات‏‏  ‏‏، فإنّ الیقین قد اُخذ فیها‏‎ ‎‏موضوعاً ولکن بلحاظ الواقع‏‏  ‏‏، فالوصول إلی الواقع بمنزلة الحکمة لجعله‏‎ ‎‏ومقتضی الاحتمال الثالث بقسمیه کون الاستصحاب أصلاً‏‏  .‏


کتابمحاضرات فی الاصول (تشتمل علی تنبیهات الاستصحاب و التعادل و الترجیح و الاجتهاد و التقلید): تقریر الابحاث الامام الخمینی (س)صفحه 16
‏فإن قلت‏‏  ‏‏: فلِم لا یجعل حینئذٍ أیضاً أمارة بأن یقال‏‏  ‏‏: إنّ مفاد أخباره إطالة‏‎ ‎‏عمر الیقین بعد کونه کاشفاً ناقصاً‏‏  .‏

‏قلت‏‏  ‏‏: الیقین بشیء أو بحالة لا کشف له عن غیر متعلّقه أصلاً وإنّما الذی‏‎ ‎‏یکشف عن بقاء الشیء بالکشف الناقص هو نفس ثبوته من جهة بقاء الثابت‏‎ ‎‏غالباً‏‏  ‏‏، فالیقین بالثبوت فی الحالة السابقة یکشف عن الثبوت‏‏  ‏‏، ثمّ یحکم المتیقِّن‏‎ ‎‏حکماً ظنّیاً بأنّه ثبت فیدوم‏‏  ‏‏، فافهم وتأمّل جیّداً‏‏  .‏

‏ثمّ إنّ جریان الاستصحاب بناءً علی الاحتمال الثالث فیما ثبت بالأمارات‏‎ ‎‏مشکل‏‏  ‏‏، اللهمّ إلاّ أن یجعل الیقین بما هو کاشف مطلق لا کاشف تامِّ، موضوعاً‏‎ ‎‏أو یلحق الأمارات بالیقین بإلغاء خصوصیة الیقین‏‏  .‏

‏وکیف کان‏‏  ‏‏: فیجب تأویل الأخبار بنحو یجری الاستصحاب فیما ثبت‏‎ ‎‏بالأمارات أیضاً وإلاّ لزم اختصاص حجّیة الاستصحاب بالموارد النادرة. ألا تری‏‎ ‎‏أنّ الإمام ‏‏علیه السلام‏‏ قال فی الصحیحة الثانیة‏‏  ‏‏: ‏«لأنّک کنت علی یقین من طهارتک»‎[6]‎‎ ‎‏مع أنّه من النوادر‏‏  ‏‏، بل من المحالات‏‏  ‏‏، العلم بالطهارة الواقعیة‏‏  ‏‏. ومن الشواهد علی‏‎ ‎‏إلحاق الأمارات بالیقین مع أخذه موضوعاً أیضاً ما تراه فی باب الشهادات فإنّه‏‎ ‎‏مع دلالة الأدلّة والأخبار الکثیرة علی اشتراط الیقین فی الشهادة‏‏  ،‏‎[7]‎‏ وقوله ‏‏علیه السلام‏‎ ‎‏فی بعضها‏‏  ‏‏: أنّه یجب أن یکون المشهود به‏‏  ‏‏، کالشمس فی السماء‏‏  ،‏‎[8]‎‏ قد وردت‏‎ ‎


کتابمحاضرات فی الاصول (تشتمل علی تنبیهات الاستصحاب و التعادل و الترجیح و الاجتهاد و التقلید): تقریر الابحاث الامام الخمینی (س)صفحه 17
‏أخبار کثیرة علی جواز الشهادة علی طبق الید والاستصحاب وسائر الأمارات‏‎ ‎‏والحجج الشرعیة‏‎[9]‎‏ فیعلم من ذلک أنّ الیقین فی لسان الشرع أعمّ من الحجّة‏‎ ‎‏الذاتیة والمجعولة‏‏  .‏

‏هذا کلّه بحسب مقام الثبوت‏‏  .‏

وأمّا بحسب مقام الإثبات‏  ‏‏، فالظاهر من الأخبار کون الیقین فیها مأخوذاً‏‎ ‎‏موضوعاً بنحو تمام الموضوع فالاستصحاب ثابت لمن تیقّن بالواقع وشکّ فی‏‎ ‎‏بقائه‏‏  ‏‏، سواء کان هناک واقع أم لا‏‏  .‏

‏وربّما یقال‏‏  ‏‏: بأنّ أخذ عنوان فی لسان الدلیل وإن کان ظاهراً فی کونه‏‎ ‎‏موضوعاً لا عنواناً مشیراً‏‏  ‏‏، ولکن هذا فی غیر العناوین التی غلب فیها المرآتیة‏‎ ‎‏کالعلم والرؤیة والسماع ونحوها‏‏  ‏‏، فلو قیل‏‏  ‏‏: لو رأیت زیداً فقل له کذا‏‏  ‏‏، لا یفهم منه‏‎ ‎‏کون الرؤیة دخیلة فی الموضوع أصلاً‏‏  .‏

‏ولکن یدفع ذلک بأنّ جمیع روایات الباب مع تضافرها لها عنایة بذکر الیقین‏‎ ‎‏والشکِّ، فیستفاد منها الموضوعیة لأنّه کان ممکناً أن یقال فی الصحیحة الثانیة‏‎ ‎‏مثلاً‏‏  ‏‏: «لأنّک کنت متطهّراً» فشککت فالعدول عن ذلک بقوله‏‏  ‏‏: ‏«لأنّک کنت علی‎ ‎یقین»‏  ‏‏، یدلّ علی خصوصیة الیقین‏‏  ‏‏، هذا‏‏  ‏‏. مع أنّ لفظ النقض أیضاً یدلّ علی‏‎ ‎‏دخالة الیقین من جهة أنّه الأمر المبرم الذی یصحّ إسناد النقض إلیه‏‏  .‏

کتابمحاضرات فی الاصول (تشتمل علی تنبیهات الاستصحاب و التعادل و الترجیح و الاجتهاد و التقلید): تقریر الابحاث الامام الخمینی (س)صفحه 18

  • - کفایة الاُصول : 459 .
  • - تهذیب الأحکام 1 : 8 / 11 ؛ وسائل الشیعة 1 : 245 ، کتاب الطهارة ، أبواب نواقض الوضوء ، الباب 1 ، الحدیث 1 .
  • - کفایة الاُصول : 460 ـ 461 .
  • - درر الفوائد ، المحقّق الخراسانی : 303 ؛ نهایة الأفکار 4 : 35 .
  • - راجع للصحیحة الاُولی : تهذیب الأحکام 1 : 8 / 11 ؛ وسائل الشیعة 1 : 245 ، کتاب الطهارة ، أبواب نواقض الوضوء ، الباب 1 ، الحدیث 1 .     وللصحیحة الثانیة أیضاً : علل الشرائع : 361 / 1 ؛ تهذیب الأحکام 1 : 421 / 1335 ؛ وسائل الشیعة 3 : 402 ، کتاب الطهارة ، أبواب النجاسات ، الباب 7 ، الحدیث 2 والباب37 ، الحدیث 1 والباب 42 ، الحدیث 2 والباب 44 ، الحدیث 1 .
  • - تقدّمت تخریجها فی الصفحة 15 .
  • - راجع : وسائل الشیعة 27 : 341 ، کتاب الشهادات ، الباب 20 .
  • - راجع : وسائل الشیعة 27 : 342 ، کتاب الشهادات ، الباب 20 ، الحدیث 3 ؛ مستدرک الوسائل 17 : 422 ، کتاب الشهادات ، الباب 15 ، الحدیث 2 .
  • - راجع : وسائل الشیعة 27 : 336 ، کتاب الشهادات ، الباب 17 ؛ وأیضاً : 292 ، کتاب القضاء ، أبواب کیفیّة الحکم ، الباب 25 ، الحدیث 2 و3 .