التنبیه الأوّل فی اعتبار فعلیة الیقین والشکّ فی الاستصحاب
قال فی «الکفایة» فی التنبیه الأوّل من تنبیهات الاستصحاب : أنّه یشترط فی الاستصحاب کون کلّ من الیقین والشکّ فعلیاً . وفی التنبیه الثانی ما حاصله : أنّ استصحاب الأحکام المحرزة بالأمارات ، لا بالقطع والیقین ، لا محذور فیه . بتقریب : أنّ مقتضی قوله : «لا تنقض» جعل الملازمة بین ثبوت الشیء وبقائه ودلیل حجّیة الأمارة دلیل علی أحد المتلازمین ؛ أعنی الثبوت والدلیل علی أحد المتلازمین دلیل علی الآخر ، انتهی .
أقول : الظاهر أنّ بین هذین التنبیهین تهافتاً ، فإنّ مقتضی الثانی أنّ الیقین فی قوله : «لا تنقض» طریقی محض والشکّ أیضاً قد ذکر مورداً لا موضوعاً ،
کتابمحاضرات فی الاصول (تشتمل علی تنبیهات الاستصحاب و التعادل و الترجیح و الاجتهاد و التقلید): تقریر الابحاث الامام الخمینی (س)صفحه 13
کما فی الأمارات فیکون مفاد «لا تنقض» أنّ ما ثبت واقعاً یدوم ، ومقتضی التنبیه الأوّل أنّ کلاًّ من الیقین والشکّ لهما دخالة فی موضوع الاستصحاب ، إمّا لکونهما تمام الموضوع أو لکونهما جزءاً منه ، إذ لو لم یکن لهما دخالة فیه أصلاً ، بل کان مفاد أدلّة الاستصحاب الملازمة بین ثبوت المتیقّن وبقائه فقط لم یکن وجه لاشتراط الفعلیة فیهما وکان مقتضی ذلک الملازمة بین الثبوت والبقاء ، سواء علم به المکلّف أو لم یعلم ، غفل عنه أو لم یغفل . غایة الأمر : أنّ ترتّب الأثر یدور مدار الإحراز بالعلم أو بإحدی الطرق الاُخری .
ثمّ إنّ الاحتمالات المتصوّرة فی مثل قوله : «لا تنقض الیقین بالشکّ» بحسب مقام الثبوت ثلاثة :
الاحتمال الأوّل : عدم دخالة الشکّ والیقین أصلاً فیکون مفاده أنّ ما ثبت یدوم ویکون ذکر الشکّ لکونه مورداً للتعبّد الشرعی ، کما فی الأمارات فالاستصحاب بناءً علی هذا یکون من الأمارات المجعولة شرعاً ، بل لم تکن لنا فی الشرع أمارة مجعولة تأسیساً ، إلاّ الاستصحاب ، إذ جمیع الأمارات ما سواه ممّا استقرّ علی العمل بها سیرة العقلاء والشارع فی ذلک کأحدهم ، وأمّا الاستصحاب فلیس العمل به من مرتکزات العقلاء وإن توهّم ، بداهة أنّ عملهم بالحالة السابقة إنّما یکون للوثوق ببقائها أو للغفلة عن زوالها أو للرجاء والاحتیاط ، وفی سوی ذلک لا یرتّبون أثر البقاء فی صورة الشکّ فضلاً عن الظنّ بالخلاف .
کتابمحاضرات فی الاصول (تشتمل علی تنبیهات الاستصحاب و التعادل و الترجیح و الاجتهاد و التقلید): تقریر الابحاث الامام الخمینی (س)صفحه 14
وبذلک یدفع ما یتوهّم من أنّ التعلیل فی صحیحتی زرارة إنّما یکون بأمر ارتکازی عقلائی وأنّ الاستدلال بظهورهما وعمومهما لجمیع الموارد من الشکّ فی المقتضی والرافع والموضوعات والأحکام لا یصحّ إلاّ إذا کان ثابتاً بهذا العموم عند العقلاء . وجه الدفع : أنّ العمل والاعتماد علی صرف الحالة السابقة لیس من مرتکزات العقلاء کما عرفت .
ویشهد لذلک مورد الصحیحة الاُولی فإنّ استصحاب الوضوء مع ظهور أمارات النوم من حرکة الشیء فی جنبه وهو لا یعلم ، ممّا لا یبنی علیه العقلاء لولا تعبّد الشارع بذلک .
اللهمّ إلاّ أن یقال : ثبوت الفرق بین مقام إثبات الواقعیات وإحرازها وبین مقام الاحتجاج بین الموالی والعبید فإنّ خبر الواحد أیضاً لیس ممّا یعتمد علیه العقلاء دائماً ، ولکن یکتفی به فی مقام الاحتجاج واللجاج ، فافهم .
وکیف کان : فلو کان مفاد هذه الأخبار ، أنّ ما ثبت یدوم بحکم الشارع کان مقتضاه جعل الثبوت والکون فی الزمان السابق أمارة لبقائه ، إذ له کاشفیة ناقصة فیتمّها الشارع بجعله تأسیساً ، وعلی هذا یکون الیقین فی هذه الأخبار طریقاً محضاً فیکون مفاد قوله : «لا تنقض الیقین» ، لا تنقض الثابت ، ویکون مقتضی
کتابمحاضرات فی الاصول (تشتمل علی تنبیهات الاستصحاب و التعادل و الترجیح و الاجتهاد و التقلید): تقریر الابحاث الامام الخمینی (س)صفحه 15
جعله ، إطالة عمر ما ثبت تعبّداً والشکّ قد ذکر من جهة کونه مورداً للتعبّد لا موضوعاً فیکون المجعول أمارة .
الاحتمال الثانی : أن یکون الیقین طریقاً محضاً ولکن یکون الشکّ مأخوذاً موضوعاً فحینئذٍ یکون الاستصحاب من الاُصول ولازم کلا الاحتمالین جریان الاستصحاب فی الأحکام والموضوعات الثابتة بالأمارات ، إذ الفرض عدم دخالة الیقین أصلاً ، وإنّما ذکر آلة لملاحظة الثابت والمتیقّن والأمارات أوساط فی الإثبات بجعل الشارع ، ویفترق الاحتمالان بوجهین :
الأوّل: ما اُشیر إلیه من کون الاستصحاب أمارة علی الأوّل وأصلاً علی الثانی.
الثانی : أنّ الشکّ والیقین لا یشترط فیهما الفعلیة علی الأوّل لعدم أخذهما موضوعاً ، وأمّا علی الثانی فالیقین لا یشترط فیه الفعلیة أیضاً ، وأمّا الشکّ فیشترط فیه تلک ، إذ الظاهر من أخذ عنوان فی موضوع حکم ، کون الحکم ثابتاً له علی تقدیر فعلیته وتحقّقه کما لا یخفی .
الاحتمال الثالث : أن یکون الیقین أیضاً مأخوذاً موضوعاً وهو علی قسمین :
الأوّل : أن یکون تمام الموضوع .
الثانی : أن یکون جزؤه ویکون جزؤه الآخر هو الواقع والمتیقّن .
ولا یخفی : أنّ أخذه موضوعاً هنا إنّما یکون بما هو کاشف لا بما هو صفة نفسانیة للمکلّف فإنّ جعل الاستصحاب إنّما یکون بلحاظ الواقع ، وإن أخذ فی موضوعه الیقین ، ونظیر ذلک باب القضاء والشهادات ، فإنّ الیقین قد اُخذ فیها موضوعاً ولکن بلحاظ الواقع ، فالوصول إلی الواقع بمنزلة الحکمة لجعله ومقتضی الاحتمال الثالث بقسمیه کون الاستصحاب أصلاً .
کتابمحاضرات فی الاصول (تشتمل علی تنبیهات الاستصحاب و التعادل و الترجیح و الاجتهاد و التقلید): تقریر الابحاث الامام الخمینی (س)صفحه 16
فإن قلت : فلِم لا یجعل حینئذٍ أیضاً أمارة بأن یقال : إنّ مفاد أخباره إطالة عمر الیقین بعد کونه کاشفاً ناقصاً .
قلت : الیقین بشیء أو بحالة لا کشف له عن غیر متعلّقه أصلاً وإنّما الذی یکشف عن بقاء الشیء بالکشف الناقص هو نفس ثبوته من جهة بقاء الثابت غالباً ، فالیقین بالثبوت فی الحالة السابقة یکشف عن الثبوت ، ثمّ یحکم المتیقِّن حکماً ظنّیاً بأنّه ثبت فیدوم ، فافهم وتأمّل جیّداً .
ثمّ إنّ جریان الاستصحاب بناءً علی الاحتمال الثالث فیما ثبت بالأمارات مشکل ، اللهمّ إلاّ أن یجعل الیقین بما هو کاشف مطلق لا کاشف تامِّ، موضوعاً أو یلحق الأمارات بالیقین بإلغاء خصوصیة الیقین .
وکیف کان : فیجب تأویل الأخبار بنحو یجری الاستصحاب فیما ثبت بالأمارات أیضاً وإلاّ لزم اختصاص حجّیة الاستصحاب بالموارد النادرة. ألا تری أنّ الإمام علیه السلام قال فی الصحیحة الثانیة : «لأنّک کنت علی یقین من طهارتک» مع أنّه من النوادر ، بل من المحالات ، العلم بالطهارة الواقعیة . ومن الشواهد علی إلحاق الأمارات بالیقین مع أخذه موضوعاً أیضاً ما تراه فی باب الشهادات فإنّه مع دلالة الأدلّة والأخبار الکثیرة علی اشتراط الیقین فی الشهادة ، وقوله علیه السلام فی بعضها : أنّه یجب أن یکون المشهود به ، کالشمس فی السماء ، قد وردت
کتابمحاضرات فی الاصول (تشتمل علی تنبیهات الاستصحاب و التعادل و الترجیح و الاجتهاد و التقلید): تقریر الابحاث الامام الخمینی (س)صفحه 17
أخبار کثیرة علی جواز الشهادة علی طبق الید والاستصحاب وسائر الأمارات والحجج الشرعیة فیعلم من ذلک أنّ الیقین فی لسان الشرع أعمّ من الحجّة الذاتیة والمجعولة .
هذا کلّه بحسب مقام الثبوت .
وأمّا بحسب مقام الإثبات ، فالظاهر من الأخبار کون الیقین فیها مأخوذاً موضوعاً بنحو تمام الموضوع فالاستصحاب ثابت لمن تیقّن بالواقع وشکّ فی بقائه ، سواء کان هناک واقع أم لا .
وربّما یقال : بأنّ أخذ عنوان فی لسان الدلیل وإن کان ظاهراً فی کونه موضوعاً لا عنواناً مشیراً ، ولکن هذا فی غیر العناوین التی غلب فیها المرآتیة کالعلم والرؤیة والسماع ونحوها ، فلو قیل : لو رأیت زیداً فقل له کذا ، لا یفهم منه کون الرؤیة دخیلة فی الموضوع أصلاً .
ولکن یدفع ذلک بأنّ جمیع روایات الباب مع تضافرها لها عنایة بذکر الیقین والشکِّ، فیستفاد منها الموضوعیة لأنّه کان ممکناً أن یقال فی الصحیحة الثانیة مثلاً : «لأنّک کنت متطهّراً» فشککت فالعدول عن ذلک بقوله : «لأنّک کنت علی یقین» ، یدلّ علی خصوصیة الیقین ، هذا . مع أنّ لفظ النقض أیضاً یدلّ علی دخالة الیقین من جهة أنّه الأمر المبرم الذی یصحّ إسناد النقض إلیه .
کتابمحاضرات فی الاصول (تشتمل علی تنبیهات الاستصحاب و التعادل و الترجیح و الاجتهاد و التقلید): تقریر الابحاث الامام الخمینی (س)صفحه 18