إذا ورد عامّ وخاصّ وتردّد الأمر بین النسخ والتخصیص تعارض الأدلّة والأمارات / وجوه ورود العامّ والخاصّ
إذا عرفت ما ذکرنا ، فنقول : إذا ورد عامّ وخاصّ وتردّد الأمر بین النسخ والتخصیص فصوره کثیرة :
الاُولی : أن یعلم بتقدّم العامّ علی الخاصّ وورود الخاصّ بعد زمان العمل به فإنّه من المحتمل فی هذا القسم التخصیص أیضاً ، بناءً علی وجود مصلحة مقتضیة لتأخّر البیان عن وقت الحاجة ، کما التزم به الشیخ فی أخبار الأئمّة علیهم السلام .
الثانیة : أن یعلم بتقدّم الخاصّ علی العامّ ووروده بعد العمل به أیضاً .
الثالثة : أن یجهل تأریخهما ، فلا یعلم أنّ العامّ کان متقدّماً علی الخاصّ أو متأخّراً ، وأنّ المتأخّر منهما ورد بعد العمل بالمتقدّم أو قبله .
الرابعة : أن یعلم تقدّم العامّ ولا یعلم ورود الخاصّ بعد العمل به أو قبله .
الخامسة : عکس ذلک .
أمّا الصورة الاُولی : فنقول فیها : إنّ استمرار الحکم ، إمّا أن یقال : باستفادته
کتابمحاضرات فی الاصول (تشتمل علی تنبیهات الاستصحاب و التعادل و الترجیح و الاجتهاد و التقلید): تقریر الابحاث الامام الخمینی (س)صفحه 332
من الإطلاق المقامی فإنّ کون المتکلّم فی مقام التشریع والتقنین مع عدم ذکر غایة لحکمه موضوع لحکم العقلاء بالاستمرار ، إذ المقنّن باعتقاد نفسه قد لاحظ جمیع المقتضیات والموانع والخصوصیات والقیود فناسب مع ذلک وجود حکم وقانون کذائی . ولا ریب فی أنّ ما رآه مناسباً لیس هو وجود هذا الحکم فی سنة أو سنتین ، بل وجوده بنحو الإطلاق .
وبالجملة : فإمّا أن یستفاد الاستمرار من إطلاق مقام التقنین الذی هو فعل للمقنّن ، وإمّا أن یستفاد من إطلاق الحکم ؛ أعنی المنشأ أو من إطلاق موضوعه کما قیل وإن کان فاسداً .
وإمّا أن یقال : باستفادته من الأدلّة الخارجیة ، کقوله : «حلال محمّد صلی الله علیه و آله وسلم حلال أبداً إلی یوم القیامة» أو «حکمی علی الأوّلین حکمی علی الآخرین» .
وإمّا أن یقال : باستفادته من نفس القضایا الملقاة من الشارع بنحو القضایا الحقیقیة ، إذ قوله : «یا أَیُّهَا الَّذِینَ آمَنُوا أَوْفُوا بِالْعُقُودِ» مثلاً یکون خطاباً لکلّ من انطبق علیه عنوان الإیمان فیشمل بنفسه للأوّلین والآخرین ویکون حجّة علی من انطبق علیه هذا العنوان لکون کلّ واحد منهم مخاطباً بهذا الخطاب حین وجوده فی عمود الزمان .
فإن قلنا : باستفادته من الإطلاق المقامی والسکوت عن ذکر الغایة فی مقام
کتابمحاضرات فی الاصول (تشتمل علی تنبیهات الاستصحاب و التعادل و الترجیح و الاجتهاد و التقلید): تقریر الابحاث الامام الخمینی (س)صفحه 333
البیان فلا إشکال فی تقدّم النسخ علی التخصیص لعین ما مرّ فی وجه تقدّم التقیـید علی التخصیص ، وکذلک إذا قلنا باستفادته من إطلاق الحکم أو متعلّقه فإنّ الإطلاق استفید من السکوت وعدم ذکر الغایة والقید ، والاحتجاج بذلک مغیّی بعدم الذکر والبیان ولو فی المآل ، فإذا ذکر القید ولو فی المآل زال الاحتجاج بالسکوت .
وأمّا ما أفاده المحقّق النائینی من تقدّم التخصیص . بتقریب : أنّ النسخ یتوقّف علی ثبوت حکم العامِّ، وأصالة الظهور فی الخاصّ الحاکمة علی العامّ ترفع موضوع النسخ .
ففیه : أنّ ذلک إنّما هو فیما إذا لم یکن فی البین احتمال النسخ فدار الأمر بین تقدیم العامّ أو الخاصِّ، فحینئذٍ یقال : بأنّ أصالة الظهور فی الخاصّ حاکمة ، وأمّا إذا لم یتمحّض الدلیل الخاصّ فی التخصیص ، بل احتمل کونه ناسخاً فلیس لنا مخصّص مسلّم حتّی یقال بحکومة ظهوره علی العامِّ، بل یجب حینئذٍ أن یقال : بأنّ الاستمرار کان یستفاد من السکوت فی مقام البیان ، والدلیل الخاصّ الدالّ علی قطع الحکم یصلح للبیانیة وقطع السکوت فیرتفع موضوع الاحتجاج ؛ أعنی السکوت ، فتأمّل .
وإن قلنا : باستفادة الاستمرار من قوله : «حلال محمّد صلی الله علیه و آله وسلم حلال أبداً إلی یوم القیامة» مثلاً وإن کان هذا القول ضعیفاً فیمکن أن یقال : بتقدّم النسخ أیضاً ، إذ دلالة هذه الجملة علی استمرار کلّ حکم لیس إلاّ بإطلاقه فیدور الأمر بین تقیـید کلمة «حلال محمّد صلی الله علیه و آله وسلم» وبین تخصیص العموم .
کتابمحاضرات فی الاصول (تشتمل علی تنبیهات الاستصحاب و التعادل و الترجیح و الاجتهاد و التقلید): تقریر الابحاث الامام الخمینی (س)صفحه 334
اللهمّ إلاّ أن یقال : بدلالة المفرد المضاف علی العموم وضعاً فیدور الأمر حینئذٍ بین تخصیصین ، ولا وجه لتقدیم أحدهما .
وإن قلنا : باستفادة الاستمرار من نفس قضایا الأحکام الظاهرة فی کونها قضایا حقیقیة ، فالظاهر تقدّم النسخ أیضاً ، إذ النسخ حینئذٍ یرجع إلی تخصیص العامّ بالنسبة إلی أفراده المتأخّرة عن ورود الخاصِّ، فالأمر فی الحقیقة یدور بین التخصیص من أوّل الأمر وبین التخصیص من زمن ورود الخاصّ والأوّل یستلزم کون الخارج أکثر ، فالثانی مقدّم لکون التخصیص فیه أقلِّ.
وأمّا الصورة الثانیة : فحکمها أیضاً حکم السابقة إلاّ فی ما ذکر أخیراً من دوران الأمر بین الأقلّ والأکثر فی التخصیص ، إذ مآل النسخ علی الفرض الأخیر وإن کان إلی التخصیص ولکنّ الأمر فی المقام یدور بین تخصیص العامّ للخاصّ بالنسبة إلی أفراده المتأخّرة عن ورود العامّ وبین تخصیص الخاصّ للعامّ ولا مرجّح لأحدهما .
ثمّ لا یخفی : أنّ ما ذکروه من شیوع التخصیص بالنسبة إلی النسخ لا یجری فی هاتین الصورتین ، إذ التخصیص بعد حضور وقت العمل نادر وإن أمکن علی ما وجّهه الشیخ ووجّهناه ، فإنّ المقصود فی التوجیه هو بیان صرف الإمکان ، وسیأتی أنّ أخبار الأئمّة علیهم السلام لیست من قبیل هاتین الصورتین .
کتابمحاضرات فی الاصول (تشتمل علی تنبیهات الاستصحاب و التعادل و الترجیح و الاجتهاد و التقلید): تقریر الابحاث الامام الخمینی (س)صفحه 335
وأمّا الصورة الثالثة : فالأمر فیها یدور بین أن یتمحّض الخاصّ للتخصیص أو یتردّد أمره بینه وبین النسخ ، إذ لو ورد قبل حضور وقت العمل بالعامّ أو ورد العامّ قبل حضور وقت العمل به لتعیّن التخصیص بلا ریب ؛ ففی هذه الصورة یمکن أن یقال : بتقدّم التخصیص علی النسخ لشیوعه وکثرته بحیث لا یعتنی العقلاء باحتمال خلافه کما لا یعتنون بالاحتمال الضعیف فی مثل الشبهة غیر المحصورة وفی باب أصالة الصحّة فی العقود ونحوها .
والسرّ فی ذلک : قلّة النسخ بحیث لا یعلم به إلاّ فی موارد قلیلة من أحکام الشریعة ، وأمّا التخصیص والتقیـید فکثیران جدّاً خصوصاً فی محیط التقنین وعلیهما مدار فقه الإسلام .
والظاهر أنّ أخبار الأئمّة علیهم السلام کلّها من قبیل الصورة الثالثة لما عرفت من أنّ المخصّصات والمقیّدات کانت مذکورة فی لسان النبیّ صلی الله علیه و آله وسلم متّصلة أو منفصلة ، فلا یعلم أنّها بأیّ وضع کانت ، وهل کانت مقدّمة أو مؤخّرة وبعد العمل بالعمومات والمطلقات أو قبله ؟ فلا یجعل الملاک تأریخ ورودها من الأئمّة علیهم السلام ، بل ما وردت فی ألسنتهم إنّما هی بیان لما کان مبیّناً فی عصر الرسول صلی الله علیه و آله وسلم ، وأمّا الصورتان الأخیرتان فیعلم حکمهما أیضاً ممّا ذکرنا .
فتحصّل ممّا ذکر : تقدّم التخصیص علی النسخ فی بعض الموارد وتقدّم النسخ فی موارد اُخر .
ولا یخفی : أنّ القوم استدلّوا لتقدیم التخصیص بشیوعه ولتقدیم النسخ بکونه تصرّفاً فی الإطلاق وهو أهون . والظاهر منهم جریان هذین الدلیلین فی مورد واحد فیتشبّث کلّ منهم بأحدهما ، ولکنّه ظهر بما ذکرنا : أنّ القول بشیوع
کتابمحاضرات فی الاصول (تشتمل علی تنبیهات الاستصحاب و التعادل و الترجیح و الاجتهاد و التقلید): تقریر الابحاث الامام الخمینی (س)صفحه 336
التخصیص إنّما یصحّ فی الصورة الثالثة دون الاُولیـین ، کما أنّ التمسّک بکون النسخ تصرّفاً فی الإطلاق مورده الصورتان الاُولیان .
کتابمحاضرات فی الاصول (تشتمل علی تنبیهات الاستصحاب و التعادل و الترجیح و الاجتهاد و التقلید): تقریر الابحاث الامام الخمینی (س)صفحه 337