حول دلالة آیة ابتلاء الیتامیٰ علیٰ شرطیّة البلوغ
ثمّ إنّ قضیـة الـعمومات، عدم شرطیّـة شیء غیر ما هو الـدخیل فی وجود الـموضوع، والـبلوغ لیس منـه قطعاً.
وما هو الـدلیل علی الـتقیـید والـتخصیص - مضافاً إلـی ما مضیٰ - الآیةُ الـشریفـة فی سورة الـنساء: «وَابْتَلُواْ الْیَتَامیٰ حَتَّیٰ إِذَا بَلَغُواْ النِّکَاحَ فَإِنْ آنَسْتُمْ مِنْهُمْ رُشْدَاً فادْفَعُواْ إِلَیْهِمْ أَمْوَالَهُمْ».
فإنّها ظاهرة فی شرطیّـة الـبلوغ وزیادة؛ وهو الـرشد، سواء قلنا: بأنّ کلمـة «حَتَّیٰ» ابتدائیّـة، أو للغایـة.
والتحقیق: أنّها أجنبیّـة عن الـمسألـة؛ لأنّ الـبحث هنا حول عقد الـصبیّ؛ سواء کان یتیماً، أو لم یکن، والآیـة ناظرة إلـیٰ حفظ أموال الـیتامیٰ عن الـضیاع، وحفظِ الـیتامیٰ عن الـوقوع فی الـمهالـک؛ لأنّهم إذا کانوا غیر رشیدین، ولا بالـغین حدّ الـرجال، تکون أموالـهم مطمع أنظار الـسارقین والـخائنین، فلابدّ من بلوغهم إلـیٰ حدّ یمکنهم الـدفاع عن أنفسهم وأموالـهم، کسائر الـناس، فلا یجوز تسلیم مالـهم إلـیهم وتسلیطهم علیـه، ولیست ناظرة إلـیٰ تصرّفاتـه وعقوده وإیقاعاتـه.
ولعلّ الـمقصود من «بلوغ الـنکاح» لیس ما فهمـه الـجمهور، بل الـمقصود هو بلوغ الـزواج، وهو فی الـسنّ الأکثر من الـبلوغ الـشرعیّ. ویشهد لـه قولـه تعالـیٰ فی ذیلها: «وَلاَ تَأْکُلُوها إِسْرَافاً وَبِدَاراً أَنْ
کتابتحریرات فی الفقه: کتاب البیع (ج.۱)صفحه 276
یَکْبَرُواْ».
فإنّـه لا یطلق «الـکبیر» علی الـبالـغ تسعاً وخمسـة عشر. ویؤیّده أنّـه إذا تزوّجت أو تزوّج، فکأنّـه یخرج من الـیتم، ویتقوّیٰ بالـمصاهرة، فلا تخونـه ید الـخونـة.
هذا مع أنّ من الـمحتمل قویّاً، کونَ الـغایـة داخلـة فی الـمغیّا، وبذلک یدفـع توهّـم جواز دفع الـمال إلـی الـبالـغ غیر الـرشید، وتوهّم کون الـبلوغ قیداً وجزءً، فإنّ الـعقلاء لا یرون الـدخیل إلاّ الـرشد، فهذا سبب لظهور الآیـة فیما ذکرناه، فلا ینبغی الـغفلـة عن مناسبات الـحکم والـموضوع فی الـمقام جدّاً.
والـذی یؤیّد ذلک: أنّ جواب الأمر قولـه تعالـیٰ: «فَإِنْ آنَسْتُمْ» فتکون جملـة «حَتَّیٰ إِذَا بَلَغُوا» من تـتمّـة الـجملـة الاُولیٰ.
ولو سلّمنا ظهور الـغایـة فی خروجها عن الـمغیّا کما لا یبعد، فلا نسلّم کونـه دلیلاً علیٰ أنّـه جزء الـموضوع، بل الـظاهر - لأجل ما ذکرناه - کونـه أحد الـموضوعین، أو کونـه ملازماً للرشد نوعاً، فیکون الـرشد تمام الـموضوع أیضاً، إلاّ أنّـه قبل الـبلوغ لابدّ من الاختبار، وبعده لا حاجـة إلـیـه؛ لقیام الأمارة الـنوعیّـة علیـه، فلاحظ وتدبّر جیّداً.
وممّا یشهد علیٰ أنّ الآیـة أجنبیّـة عن بحث معاملـة الـصبیّ والـیتیم؛
کتابتحریرات فی الفقه: کتاب البیع (ج.۱)صفحه 277
أنّ الـظاهر منها کون إیناس الـرشد تمام الـموضوع لجواز الـدفع، مع أنّ ما هو الـشرط فی صحّـة الـمعاملـة نفس الـرشد، والالتزام بأنّـه جزء الـموضوع، یستلزم ضمان مَن عنده مال الـیتیم، مع أنّـه محسن، و«مَا عَلَی الْمُحْسِنِینَ مِنْ سَبِیلٍ».
ولعمری، إنّ الأمر بالابتلاء لیس إلاّ لاستئناس الـرشد، لا الـبلوغ، ولا هما معاً، والـمقصود من «الإیناس» لیس إلاّ أن یکون الـیتیم غیر مضیّع أموالـه مع أصدقائـه فی مصارف غیر صحیحـة، فهی أجنبیّـة عن الـمسألـة، خصوصاً بعد ملاحظـة أنّ أموال الـیتامیٰ، لیست موضوعـة للتجارة إلاّ ندرة، ودعویٰ أن الـمفروض فی الآیـة ذلک، غیر مسموعـة.
کتابتحریرات فی الفقه: کتاب البیع (ج.۱)صفحه 278