النکتة السادسة
فی نظم هذه السورة
وهو علیٰ ما أفاده بعض أهل الـتحقیق ـ وإن کان فی وجهـه الـوجوه الـکثیرة ـ : أنّ لـلإنسان أیاماً ثلاثـة: الأمس، والـبحث عنـه یسمّیٰ بمعرفـة الـمبدأ. والـیوم الـحاضر، والـبحث عنـه یسمّیٰ بالوسیط، وبتعبیر منّا الـعلوم الـطبیعیـة. والـغد، والـبحث عنـه یسمّیٰ بعلم الـمعاد.
والـقرآن مشتمل علیٰ رعایـة هذه الـمراتب الـثلاث، وتعلیم هذه الـمعارف الـثلاثـة الـتی کمال الـنفس الإنسانیّـة منوط بمعرفتها، ونفس الأعمال الـبدنیّـة إنّما تراد لأجلها؛ لأنّ غایتها تصفیـة مرآة الـقلب من الـغواشی الـبدنیّـة والـظلمات الـدنیویّـة؛ لأن یستعد لـحصول هذه الأنوار الـعقلیّـة، وإلاّ فنفس هذه الأعمال الـحسنـة لـیست إلاّ من باب الـحرکات والـمتاعب، ونفس الـتصفیـة الـمترتّبـة علیها، لـیست إلاّ أمراً عدمیّاً لـو لـم
کتابتفسیر القران الکریم: مفتاح أحسن الخزائن الالهیة (ج. 2)صفحه 240
یکن معها استنارة صفحـة الـقلب بأنوار الـهدایـة، وتصوّرها بصورة الـمطالب الـحقّـة الإلهیّـة. والـقرآن متضمّن لـها، وهی الـعروة الـوثقیٰ فیـه لـما ذکرنا، ولمّا کانت هذه الـسورة مع وجازتها، متضمّنـة لـمعظم ما فی الـکتب الـسماویّـة من الـمسائل الـحقّـة، والـمقاصد الـیقینیّـة الـمتعلّقـة بتکمیل الإنسان وسیاقتـه إلـیٰ جوار الـرحمن، فلابدّ وأن یتحقّق فیها جمیع ما یحتاج الإنسان إلـیـه منها، فنقول: هی هکذا:
أمّا اشتمالها علیٰ علم الـمبدأ، فقولـه تعالیٰ بعد الـتشرّف بمقام الـذکر والـتسمیـة: «أَلْحَمْدُ لِلّٰهِ رَبِّ الْعَالَمِینَ»، فإنّـه یومی إلـیٰ الـعلم بوجود الـحقّ الأوّل، وأنّـه مبدأ سلسلـة الـوجودات، وموجد کلّ الـعوالـم والـمخلوقات، وقولـه: «أَلرَّحْمٰنِ الرَّحِیمِ»إلـیٰ الـعلم بصفاتـه الـجمالیّـة وأسمائـه الـحسنیٰ، وقولـه: «مَالِکِ یَوْمِ الدِّینِ» إلـیٰ إثبات أنّـه غایـة وسبب نهانیّ لـلمخلوقات، مع الإشارة إلـیٰ أسمائـه الـجلالیّـة. ویشیر إلـیٰ الـعلم الـوسط قولـه: «إِیَّاکَ نَعْبُدُ وَإِیَّاکَ نَسْتَعِینُ»وهو الـعلم بالأعمال والأحوال الـتی یجب معرفتها مادام فی هذه الـنشأة وهذه الـحیاة، وهی بدنیّـة وقلبیّـة:
فالبدنی: تهذیب الـمظاهر عن الأنجاس وتربیتـه بالصلاة والـصیام والـحجّ وغیرها.
والـقلبی: تهذیب الـباطن عن الـغشاوات وخبائث الـملکات.
وإلـیٰ هذه الأسرار یُشیر أیضاً قولـه: «إِهْدِنَا الصِّرَاطَ الْمُسْتَقِیمَ».
وأمّا اشتمالها علیٰ علم الـمعاد، وهو الـعلم بأحکام الـنفس بعد الـفراق وخصوصیّاتها، فلقولـه: «صِرَاطَ الَّذِینَ أَنعَمْتَ ...» إلـیٰ آخره، فإنّـه صراط
کتابتفسیر القران الکریم: مفتاح أحسن الخزائن الالهیة (ج. 2)صفحه 241
اللّٰه الـعزیز الـحمید، وباب اللّٰه الآتی منـه إلـیٰ الـحقّ، فإنّـه حقیقـة الـمُنعَم علیهم لا تصیر معلومـة إلاّ بمفارقـة جلباب الأبدان وصیاصی الأجسام.
کتابتفسیر القران الکریم: مفتاح أحسن الخزائن الالهیة (ج. 2)صفحه 242