سورة الفاتحة

النکتة الخامسة : تحصیل العدالة بقراءة السورة

النکتة الخامسة

‏ ‏

تحصیل العدالة بقراءة السورة

‏ ‏

‏اعلم أنّ الـعدالـة من اُمّهات الـفضائل الأخلاقیّـة، وهی الـحدّ الـوسط‏‎ ‎‏بین الإفراط والـتفریط، بل الـعدالـة تمام الـفضائل الـباطنیّـة والـظاهریّـة‏‎ ‎‏والـروحیّـة والـقلبیّـة والـنفسیّـة؛ وذلک لأنّ الـعدل الـمطلق هی الاستقامـة‏‎ ‎‏الـمطلقـة فی جمیع الـجهات والـجوانب؛ من غیر فرق بین مقام الـمظهریّـة‏‎ ‎‏لـلأسماء والـصفات، والـتحقّق بها الـذی هو الـمخصوص بالإنسان الـکامل،‏‎ ‎‏ویکون ربّـه ـ عندئذٍ ـ حضرة الاسم الأعظم «اللّٰه» الـذی هو علیٰ الـصراط‏‎ ‎‏الـمستقیم من الـحضرات الأسمائیّـة، وإلـیـه الإشارة إمکاناً بقولـه: ‏‏«‏مَا مِنْ‎ ‎دَابَّةٍ إِلاَّ هُوَ آخِذٌ بِنَاصِیَتِهَا إِنَّ رَبِّی عَلَیٰ صِرَاطٍ مُسْتَقِیمٍ‏»‏‎[1]‎‏.‏

‏وبین مقام الـتجلّی بالمعارف الإلهیّـة، فإنّ معنیٰ الـعدالـة فی هذه‏‎ ‎‏الـمرحلـة عدم الاحتجاب من الـحقّ بالخلق، فیتجلّیٰ الـعدالـة فی قلبـه من‏‎ ‎‏غیر احتجاب بالحقّ من الـخلق، فیریٰ الـوحدة فی الـکثرة والـکثرة فی‏

کتابتفسیر القران الکریم: مفتاح أحسن الخزائن الالهیة (ج. 2)صفحه 237
‏الـوحدة، ومعنیٰ الإفراط والـتفریط فی هذا الـمقام، هو الاحتجاب من الـخلق‏‎ ‎‏بالحقّ وبالعکس.‏

‏وبین مقام الـتخلّق بالأخلاق الـنفسانیّـة، فإنّ الـعدالـة هنا هو تعدیل‏‎ ‎‏الـقویٰ الـثلاثـة الـشهویّـة والـغضبیّـة والـشیطانیّـة، وهذه الـقویٰ الـثلاثـة‏‎ ‎‏اُمّهات الـرذائل والأخلاق الـفاسدة، فإنّ الـقوّة الـوهمیّـة الـشیطانیّـة هی‏‎ ‎‏الأهواء الـنفسانیّـة، والـقوّة الـغضبیّـة هی الـسبعیّـة الـحیوانیّـة، والـقوّة‏‎ ‎‏الـشهویّـة هی الـبهیمیّـة الـحیوانیّـة، وتلک الـقویٰ تشتدّ وتضعف حسب‏‎ ‎‏الـریاضات الـنفسانیّـة والـمعاصی والـتخلّف عن الـشرائع الإلهیّـة، وإذا‏‎ ‎‏کانت الـثلاثـة بین یدی الـعقل فی الـحدّ الـوسط، فهو الـکمال الـلازم فی‏‎ ‎‏هذه الـنشأة وأن لا یکون واحدة منها غالبـة علیٰ الاُخریٰ.‏

‏وربّما تغلب إحداها علیٰ الاُخریٰ، فعندئذٍ تحصل الاُصول الـممسوخـة‏‎ ‎‏الـملکوتیّـة الـبالغـة إلـیٰ الـسبعـة:‏

أحدها:‏ الـصورة الـبهیمیّـة، فإنّها إذا غلبت علیٰ الاُخریـین یصیر الباطن‏‎ ‎‏متصوّراً بصورتها، ویحشر حسب علم الـمعاد علیٰ إحدیٰ صور الـبهائم‏‎ ‎‏کالحمار ونحوه؛ وذلک لأنّ میزان الـصور فی الـنشأة الآخرة علیٰ الأخلاق‏‎ ‎‏والـباطن، کما ورد فی الأحادیث ما یُومی إلـیٰ هذه الـتجسّمات الأخلاقیـة.‏

ثانیها:‏ الـصورة الـسبعیّـة، فإنّها إذا استکملت الـنفس فی تلک الـقوّة،‏‎ ‎‏وتصوّرت بتلک الـصورة ویحشر علیها، فیکون بشکل إحدیٰ الـسباع فی‏‎ ‎‏الـسلوک وفی الـبرازخ، وأحیاناً إلـیٰ یوم الـقیامـة، فأعاذنا اللّٰه تعالیٰ من هذه‏‎ ‎‏الـتبِعات ووفقنا علیٰ هدم بنیانها فی هذه الـنشأة إن شاء اللّٰه تعالیٰ.‏

ثالثها:‏ الـصورة الـشیطانیّـة، فالنفس إذا استکملت فیها الـقوّة‏

کتابتفسیر القران الکریم: مفتاح أحسن الخزائن الالهیة (ج. 2)صفحه 238
‏الـوهمیّـة، وکانت أخیرة کمالاتها الـفعلیّـة الـتخلّق بهذه الـرذیلـة الـعجیبـة،‏‎ ‎‏تحشر یوم الـقیامـة فی صورة ملکوتیّـة شیطانیّـة، الـتی تحسُن عندها الـقِرَدة‏‎ ‎‏والـخنازیر، وهکذا فی الـبرازخ.‏

‏فهذه الـثلاثـة هی اُصول الـمسوخ الـملکوتیّـة الـبسیطـة، وربّما‏‎ ‎‏یحصل من الـنکاح بینها والازدواج الـمسوخُ الـملکوتیّـة الـمرکّبـة الـمتولّدة‏‎ ‎‏من تلک الـبسائط، وهی أربعـة صور: ثلاثـة منها ثنائیّـة؛ لأنّها تـتکوّن من‏‎ ‎‏الـشیطانیّـة والـغضبیّـة تارة، ومن الـشیطانیّـة والـبهیمیّـة اُخریٰ، ومن‏‎ ‎‏الـبهیمیّـة والـغضبیّـة ثالثـة، فیحشر یوم الـقیامـة علیٰ شکل مزدوج من‏‎ ‎‏الـثلاثـة، ویکون خارق الـعادة وغیر مأنوس حتّیٰ لأهل الـعذاب، والـرابعـة‏‎ ‎‏منها هی الـمرکّبـة من الـثلاثـة ویصیر «اشتر گاو پلنگ» کما فی الـلغـة‏‎ ‎‏الـفارسیـة، وتحسن عندها سائر الـصور، فضلاً عن الـقردة والـخنازیر.‏

‏وهذه الـمسوخات الـملکوتیّـة موافقـة لـلبراهین الـعلمیّـة‏‎ ‎‏وللمکاشفات الـقطعیّـة، ولا یختصّ الـتصوّر بهذه الـصور مجال الـمفارقـة‏‎ ‎‏والانتقال من هذه الـنشأة، بل الآن کاتب هذه الـسطور فی باطنـه الـرذائل‏‎ ‎‏الـجمّـة؛ بحیث یتمکّن أرباب الـکشف والـشهود وأصحاب الاُنس والـقلوب‏‎ ‎‏من مشاهدتها. ‏فیا ربِّ یا اَللّٰه‏! نعوذ بک من الـشیطان الـرجیم، الـذی هو أُسّ‏‎ ‎‏هذه الانحرافات والـضلالات من الـعدالـة والاعتدال إلـیٰ الإفراط والـتفریط؛‏‎ ‎‏لـذلک یترنّم الـقارئ أوّلاً بالاستعاذة لـرجوع جمیع الـخبائث إلـیـه، ثمّ یقرأ‏‎ ‎‏الآیات الـسبع من الـفاتحـة، فیکون کلّ واحد منها بإزاء واحدة منها، ولیتحرز‏‎ ‎‏من مجموع تلک الـرذائل الـسبعـة بتلک الـسبعـة الـفاضلـة، ولیتجنّب من‏‎ ‎‏الـصور الـباطلـة الـملکوتیّـة الـممسوخـة بحصول الـصور الـسبع‏

کتابتفسیر القران الکریم: مفتاح أحسن الخزائن الالهیة (ج. 2)صفحه 239
‏الـملکوتیـة الـروحانیّـة، فإنّ الـنفس مادّة قابلـة لـما یرد علیها من‏‎ ‎‏الـمحاسن والـمفاسد، فإذا قاوم الإنسان الـملتفت والـمتوجّـه هذه الـصور‏‎ ‎‏بإیراد مضادّاتها، وأدمن فی ذلک، فربّما تشملـه الـعنایـة الـربّانیّـة وحکمتـه‏‎ ‎‏الإلهیّـة، فیخرج من الـمهالک والـظلمات إلـیٰ الـمُنجیات والأنوار. واللّٰه ولیّ‏‎ ‎‏الـتوفیق، وعلیـه الـتکلان.‏

‏ ‏

‎ ‎

کتابتفسیر القران الکریم: مفتاح أحسن الخزائن الالهیة (ج. 2)صفحه 240

  • )) هود (11): 56 .