المسألة الثانیة
حول استناد الشرور إلیه تعالیٰ
یستظهر من هذه الآیـة الـشریفـة أنّ الـکمالات الأوّلیّـة والـثانویّـة تستند إلـیـه تعالیٰ، والـشرور والـنواقص تستند إلـیٰ الـفواعل الاُخر الـمتوسّطـة، فما عن جماعـة من استناد الـخیرات إلـیها، وعن اُخریٰ من استناد الـشرور إلـیـه تعالیٰ، مدخول ومرفوض؛ ضرورة أنّ الـنعمـة ـ بأیّـة معنیً اُریدت ـ من الـکمالات؛ سواء اُرید منها نعمـة الـوجود، أو اُرید منها نعمـة کمال الـوجود دنیویّاً أو اُخرویّاً، مادّیّاً أو معنویّاً، اکتسابیّاً أو موهبیّاً، وقد استندت إلـیـه تعالیٰ بقولـه: «أَنْعَمْتَ عَلَیْهِمْ».
ولو کان الـمراد هنا الـنعمـة الـخاصّـة ـ کما هو الـمتعیّن قطعاً وسبق تقریره ولا تشمل نعمـة الـوجود وکمالاتـه الـوهمیّـة؛ لاشتراک الـکلّ فیها، کما یشترکون فی الاهتداء إلـیٰ الـصراط الـمستقیم بالحرکـة الـجِبِلِّیّـة الـطبیعیّـة إلـیٰ ربّهم؛ فإنّ ربّک علیٰ صراط مستقیم ـ ولکن من الالتفات الـمرعیّ فی الآیـة بعدم استناد الـغضب والـضلالـة إلـیـه تعالیٰ، یستکشف أنّ الـشرور مطلقاً مستندة إلـیٰ أنفسهم، والـمناسب علیٰ هذا ـ بحسب الـحدس ـ کون الـنعم ـ ولو کانت وهمیّـة ـ مستندة إلـیـه تعالیٰ.
ویؤیّده بعض الآیات الاُخر: «وَمَا بِکُمْ مِنْ نِعْمَةٍ فَمِنَ اللّٰهِ» بناءً علیٰ
کتابتفسیر القران الکریم: مفتاح أحسن الخزائن الالهیة (ج. 2)صفحه 208
کون الـمخاطب أعمّ من الـمؤمنین، «وَمَا أَصَابَکَ مِنْ حَسَنَةٍ فَمِنَ اللّٰهِ وَمَا أَصَابَکَ مِنْ سَیِّئَةٍ فَمِنْ نَفْسِکَ».
اللهمّ إلاّ أن یقال: إنّ هذه الآیـة تشهد علیٰ مقالـة الـمعتزلی کما سبق؛ لأجل أنّ ما یستند إلـیـه تعالیٰ هی الـنعم وکمالات الـوجود الـحقیقیّـة، دون الـوهمیّـة، فالکمالات الـوهمیّـة تستند إلـیٰ أنفسهم الـکافرة والـملحدة والـضالّـة، فلیتدبّر.
ولکن الـشرور الـتی رأسها الـضلالـة ـ الـتی تکون سبباً لـلغضب وتوغّل الـطبیعـة فی الـظلمات ـ مستندة إلـیٰ غیره تعالیٰ بالذات؛ لأنّ الـخیر الـمطلق لا یصدر منـه إلاّ الـخیر الـمطلق، وإنّما الـشرور من الـنسب الـملازمـة لـلمادّة ولواحقها، ولذلک لا تزاحم بین الـمجرّدات، کما تحرّر وبلغ نصاب الـتحقیق فی «قواعدنا الـحکَمیّـة».
وقال فی «الـفصوص» فی «فصّ الـحکمـة الـسُّبّوحیّـة فی کلمـة نُوحیّـة»: اعلم أنّ الـتنزیـه عند أهل الـحقائق فی الـجناب الإلهی عین الـتحدید والـتقیید.
وقال الـشارح: اعلم أنّ الـتنزیـه: إمّا أن یکون من الـنقائص الإمکانیّـة فقط، أو منها ومن الـکمالات الإنسانیّـة أیضاً، وکلٌّ منهما ـ عند أهل الـکشف والـشهود ـ تحدید لـلجناب الإلهی وتقیید لـه؛ لأنّـه یمیّز الـحقّ عن جمیع الـموجودات، ویجعل ظهوره فی بعض مراتبـه، وهو ما یقتضی الـتنزیـه دون الـبعض، وهو ما یقتضی الـتشبیـه کالحیاة والـعلم والـقدرة والإرادة والـسمع
کتابتفسیر القران الکریم: مفتاح أحسن الخزائن الالهیة (ج. 2)صفحه 209
والـبصر وغیر ذلک، ولیس الأمر کذلک، فإنّ الـموجودات ـ بذواتهم ووجوداتهم وکمالاتهم ـ کلّها مظاهر لـلحقّ، وهو ظاهر فیهم ومتجلٍّ لـهم، وهو معهم أینما کانوا، فیـه ذواتهم ووجودهم وبقائهم وجمیع صفاتهم، بل هو الـذی ظهر بهذه الـصور کلّها، فهی لـلحق بالأصالـة، وللخلق بالتبعیّـة. انتهیٰ ما أردنا نقلـه.
وربّما یتوجّـه علیٰ أرباب هذه الـمقالات، وفیهم صاحب «الـحکمـة الـمتعالیـة»، وهو صریح الـوالـد الـعارف الـمحقّق ـ علیٰ ما ببالی فی حواشیـه علیٰ الـفصوص ـ : أنّ الـتسبیح إن کان بنحو الـقضیّـة الـمعدولـة فالحقّ کما اُفید، وأمّا إذا کانت بنحو الـسالبـة الـمحصّلـة، فلا یستلزم الـتحدید، ولا إخراج شیء عن حکومتـه وسلطانـه؛ لأنّ الـسالبـة الـمحصّلـة صادقـة عند انتفاء الـموضوع.
أقول: ربّما یستشعر من قولـه تعالیٰ: «قُلْ کُلٌ مِنْ عِنْدِ اللّٰهِ فَمَا لِهٰؤُلاَءِ الْقَوْمِ لاَ یَکَادُونَ یَفْقَهُونَ حَدِیثاً» أنّ الـحسنات مستندة بالذات والـسیّئات بالعرض؛ لأنّها أعدام، ولاشبهـة فی أنّها لـیست أعداماً مطلقـة، بل هی الأعدام الـمرسومـة من لـواحق الـوجودات.
وبعبارة اُخریٰ: لا یعتبر الـنقص إلاّ عند الـکمال، فإذا لـم یکن کمال فی الـعالم، فلا معنیٰ لأن یُحمل علیٰ شیء عنوان الـناقص ولو کان حملاً بالعرض، فإذا کان الـکمال مستنداً إلـیـه تعالیٰ، فلابدّ أن تحصل هذه الـنسبـة
کتابتفسیر القران الکریم: مفتاح أحسن الخزائن الالهیة (ج. 2)صفحه 210
الـعرضیّـة الـقهریّـة الـعقلیّـة أو الـوهمیّـة.
ولذلک تریٰ فی الـکتاب الإلهی من نسبـة الإضلال إلـیـه تعالیٰ، وهکذا سائر الأوصاف الـناقصـة کالإذلال ونحوه، مع أنّـه تعالیٰ منزَّه عن ذلک، کما أنّ الـنواقص لا تقبل الـجعل؛ لأنّها من الـعدمیّات الـلاحقـة قهراً بالوجود الـنازل فی مراتبـه. واللّٰه الـهادی إلـیٰ دار الـصواب وإلـیٰ جنّـة الـلقاء، وإلـیـه الـمشتکیٰ، ومنـه نرجو أن یوفّقنا لأن نتمّم ما أردناه بعنوان الـمفتاح لأحسن الـخزائن الإلهیّـة.
کتابتفسیر القران الکریم: مفتاح أحسن الخزائن الالهیة (ج. 2)صفحه 211