سورة الفاتحة

المسألة الاُولیٰ : حول استحقاق النعمة

المسألة الاُولیٰ

‏ ‏

حول استحقاق النعمة

‏ ‏

‏مقتضیٰ إسناد الـنعمـة إلـیـه تعالیٰ بقولـه: ‏‏«‏أَنْعَمْتَ عَلَیْهِمْ‏»‏‏ أنّ فاعل‏‎ ‎‏الـنعمـة هو اللّٰه تعالیٰ، ومقتضیٰ ما عرفت فیما سبق: أنّ الـمراد من هذه‏‎ ‎‏الـنعمـة، ما یقابل الـنعم الـتی یشترک فیـه الـمغضوب علیهم والـضالّون،‏‎ ‎‏فتلک الـنعمـة هی الـتی یستحقّ الـعبد بها الـجنّـة ویُنجّیٰ بها من الـنار،‏‎ ‎‏فیکون بسط هذه الـنعمـة من رحمتـه، وقبضها عن الـمغضوب علیهم‏‎ ‎‏والـضالّین أیضاً من ناحیتـه الـمقدّسـة.‏

وعند ذلک یلزم الإشکال العقلی وهو :‏ أنّ الاُمور فی هذه الـنشأة وغیرها‏‎ ‎‏باختیاره تعالیٰ إعطاءً ومنعاً، فما معنیٰ استحقاقهم الـجنّـة والـنار؟‏

‏وبعبارة اُخریٰ: الـمُنعَم علیهم بإنعامـه تعالیٰ صاروا مهتدین وناجین،‏‎ ‎‏وسائر الـطوائف بعدم إنعامـه علیهم صاروا فی الـضلالـة والـغضب، وکلّ ذلک‏

کتابتفسیر القران الکریم: مفتاح أحسن الخزائن الالهیة (ج. 2)صفحه 205
‏لقولـه تعالیٰ: ‏‏«‏أَنْعَمْتَ عَلَیْهِمْ‏»‏‏.‏

‏ویمکن تقریب الإشکال بشکل آخر وهو : أنّ ظاهر الآیـة أنّها فی مقام‏‎ ‎‏إفادة أنّ هذه الـنعمـة ـ الـتی أنعمها اللّٰه تعالیٰ علیهم ـ لـیس من الـواجب‏‎ ‎‏علیـه، بل هو إنعام من غیر استحقاق حتّیٰ یصحّ أن یذکر، وإلاّ فلو کان عن‏‎ ‎‏استحقاق فلا یصحّ الـتذکیر بـه، وإذا کان لا عن استحقاق، فیکون لـمجرّد میل‏‎ ‎‏الـمولیٰ وانعطاف الـنظر، فإذن یصعب الأمر جدّاً، ویکون الإشکال الـمزبور‏‎ ‎‏أقویٰ وأغمض؛ ضرورة إمکان حلّ الإشکال علیٰ الـتقریب الأوّل؛ باستحقاقهم‏‎ ‎‏الإنعام دون الـکفّار والـضالّین، ولا یمکن حلّـه علیٰ الـتقریب الأخیر‏‎ ‎‏الـمبتنی علیٰ عدم استحقاقهم شیئاً.‏

أقول: أوّلا:‏ نمنع ظهور الآیـة فی أنّ الابتداء بالنعمـة الـمقصودة فی هذه‏‎ ‎‏الآیـة، لـم یکن عن استحقاق؛ بمعنیٰ وجود الـقابلیّـة لـنزول تلک الـنعمـة؛‏‎ ‎‏ضرورة أنّ الاستحقاق بمعنیٰ کون الـعبد ذا حقّ علیـه تعالیٰ، ویکون هو تعالیٰ‏‎ ‎‏مورد دَینـه وحقّـه حتّیٰ یجب علیـه أداء الـحقّ؛ بحیث یُعَدّ عند الـمخالفـة‏‎ ‎‏ظالماً وغاصباً، وأمّا بمعنیٰ ثبوت الـقابلیّـة والاستعداد الاکتسابی الـمقرون‏‎ ‎‏بالموهبـة، فهو ثابت ولازم فی اختصاص الـفیض وکمال الـوجود بطائفـة دون‏‎ ‎‏اُخریٰ وإلاّ یلزم الـترجیح بلا مرجّح والـتخصیص بلا مخصّص، وهو الـممتنع‏‎ ‎‏فی شریعـة الـعقل، ویلزم تعلّق الإرادة جُزافاً، ویلزم الـبخل أو الـجهل أو‏‎ ‎‏الـعجز بالنسبـة إلـیٰ غیر مورد الـفیض وإلـیٰ الـطائفـة الـثانیـة.‏

وثانیاً:‏ لـو سلّمنا أنّ هذه الآیات باُسلوبها تدلّ علیٰ أنّ الإنعام الـمزبور‏‎ ‎‏یصدر عن استحقاق، ولکن ذلک یؤیّد عموم قدرتـه ونفوذ إرادتـه ورحمتـه‏‎ ‎‏ووسعـة آلائـه، والـذی یصیر محروماً من هذا الـفیض الـعامّ، ولا یتناول من‏

کتابتفسیر القران الکریم: مفتاح أحسن الخزائن الالهیة (ج. 2)صفحه 206
‏تلک الـنعمـة الـوازعـة والـرحمـة الـواسعـة، وتلک الآلاء الـجمیلـة‏‎ ‎‏والـنعماء الـمبسوطـة، فهو لأجل الانحراف عن جادّة الاعتدال وعن الـصراط‏‎ ‎‏الـمستقیم، فالفطرة الـمخمورة الـمفطورة بالاستعدادات الـذاتیّـة والـقویٰ‏‎ ‎‏والإمکانات الاستعدادیّـة ـ للسیر فی جمیع الـکمالات الـمادّیّـة والـمعنویّـة ‏‎ ‎‏إذا لـم تکن محجوبـة بالذنوب والـمعاصی، ولم تصِرْ مغطّاة بغطاء الـظلمـة‏‎ ‎‏وحجاب الـمادّة، تنالها تلک الـرحمات الإلهیّـة والـعنایات الـربّانیّـة.‏

‏ولأجل الإشارة إلـیٰ تلک الـبارقـة الـملکوتیّـة، وهذه الـمائدة‏‎ ‎‏الإلهیـة، قال فی الـمقام الأوّل: ‏‏«‏أَنْعَمْتَ عَلَیْهِمْ‏»‏‏ بإسناده الـنعمـة إلـیـه‏‎ ‎‏تعالیٰ، وفی الـمقام الـثانی والـثالث لـم یسند إلـیـه تعالیٰ وجیء بـه بشکل‏‎ ‎‏آخر وهو : «الـمغضوب علیهم» و«الـضالّین» حتّیٰ یَعلم ویتوجّـه الـفَطِنُ‏‎ ‎‏الـعارف إلـیٰ أنّ الـضلالـة تنشأ من أعمال الـعبد الـمنحرف، والـفاسق‏‎ ‎‏الـکافر والـملحد الـمنکر، وأنّ الـمغضوبیّـة تکون من قِبَل غیر اللّٰه تعالیٰ،‏‎ ‎‏فإنّـه لا یغضب علیٰ أحد ظُلماً وعُدواناً، فهم الـمغضوب علیهم بأیدیهم، ‏‏«‏مَا‎ ‎ظَلَمَهُمُ اللّٰهُ وَلَـٰکِنْ أَنْفُسَهُمْ یَظْلِمُونَ‏»‏‎[1]‎‏ فهم الـضالّون الـمتحیّرون لـدم‏‎ ‎‏الاعتناء بشأن الاهتداء، وهم الـمغضوب علیهم لـتوغّلهم فی أحکام الـمادّة،‏‎ ‎‏وانغمارهم فی الـشهوات الـنفسانیّـة، فلا حدّ فی ذاتـه تعالیٰ، ولا فی صفتـه،‏‎ ‎‏ولا فی فعل من أفعالـه. والـحمد للّٰه أوّلاً وآخراً وظاهراً وباطناً.‏

‎ ‎

کتابتفسیر القران الکریم: مفتاح أحسن الخزائن الالهیة (ج. 2)صفحه 207

  • )) آل عمران (3) : 117 .