البحث الثانی
حول الهدایة التکوینیة والتشریعیة
إنّ الـهدایـة: إمّا تکوینیّـة أو تشریعیّـة، وعلیٰ الـتقدیر الأوّل: إمّا إلـیٰ أصل الـوجود أو إلـیٰ کمال الـوجود وجمالـه، وعلیٰ کلّ تقدیر یکون الـکلّ من الـهدایـة والـخروج عن الـضلالـة، ویشترک الـکلّ فی هذا الـمفهوم الـواسع، وإنّما الاختلاف فی مصادیقها وکیفیّاتها:
أمّا الـهدایـة الـتشریعیّـة: فهی الـهدایـة الـتی تجیء من قِبَل إنزال الـکتب وإرسـال الـرسـل والأنبـیاء، وتبلیـغ الـمبلّغین والـعلماء فی کـلّ عصـر ومصـر.
وأمّا الـهدایـة الـتکوینیّـة إلـیٰ أصل الـوجود: فهی الـهدایـة الـمطلوبـة بلسان الـذات، فإنّ الأعیان الـثابتـة والـماهیّات، یطلبون بلسان ذواتهم الـهدایـة من ضلالـة الـعدم ـ الـتی هی أشدّ الـضلالات ـ إلـیٰ دار الـوجود والـنور، ویریـدون منـه تعالیٰ الـخروج مـن الـظلمات الـذاتیّـة إلـیٰ الـنور.
کتابتفسیر القران الکریم: مفتاح أحسن الخزائن الالهیة (ج. 2)صفحه 107
وأمّا الـهدایـة الـتکوینیّـة إلـیٰ کمال الـوجود وجمالـه: فهی فی نظر حاصلـة لـکلّ أحد، وفی نظر حاصلـة لـطائفـة خاصّـة:
وأمّا الـنظر الأوّل: فهو أنّ کلّ موجود فی الـنظام الأتمّ الإلهی ـ بالقیاس إلـیٰ ذلک الـنظام ـ مهتدٍ إلـیٰ ما هو لازم الـنظام الـکلّی، فلا ضلالـة فی هذه الـمرحلـة وهذه الـنظرة.
وأمّا الـنظر الـثانی: فهو أنّ الأشیاء ـ بحسب الـحالات الـفردیّـة والـشخصیّـة ـ مختلفـة الاُفق ومتفاوتـة الـدرجات والـسبل، ومتشتّـتـة الـمسالک والـطرق، فمنها ما یصل إلـیٰ الـغایـة الـمقصودة، فهو الـمهتدی إلـیها، ومنها مالا یصل إلـیها، فهو الـضالّ عنها. وهذا أمر عمومیّ کلّیّ داخل فی عمومـه جمیع الـحقائق الـوجودیـة من قذّها إلـیٰ قذیذها ممّا یترقّب لـه الـکمال بعد الـنقص، دون الـموجودات الأمریّـة الـتی لا ترقّب لـها ولا ترقّی فیها، ولا خروج لـها من الـظلمات إلـیٰ الـنور.
فعلیٰ هذا فهل الـمطلوب فی قولنا: «إِهْدِنَا الصِّرَاطَ الْمُسْتَقِیمَ» هی الـهدایـة الـتشریعیّـة إلـیٰ الإسلام والإیمان بالإقرار باللسان مثلاً، أو هی الـهدایـة الـتکوینیّـة بالوصول إلـیٰ غایـة الـمأمول ونهایـة الـمسؤول، والـدخول فی دار اللّٰه الـموجب لـلبقاء ببقاء اللّٰه، الـمورث لـلالتذاذات الـروحانیّـة وللتکیّفات الـمعنویّـة الـتی لاتدرکـه الـعقول الـبشریّـة، أم هی جمیع أنحاء الـهدایات؛ حتّیٰ یکون الـصراط الـمستقیم بناءً علیٰ ذلک ـ أیضاً ـ مختلفاً بحسب الـمصادیق؛ ضرورة أنّ الـصراط الـمستقیم فی الـهدایـة الـتشریعیّـة غیره فی الـهدایـة الـتکوینیّـة.
إذا عرفت وأحطت إجمالاً بما فی هذه السطور تأتی الشبهة: وهی أنّ من
کتابتفسیر القران الکریم: مفتاح أحسن الخزائن الالهیة (ج. 2)صفحه 108
الـواجب الـدعاء بالنسبـة إلـیٰ ما یمکن تحقّقـه ویصحّ ترقّبـه، ومن الـبدیهی أنّ الـضلالـة الـتکوینیّـة؛ وعدم الـوصول إلـیٰ الـغایات الـطبیعیّـة فی هذه الـنشأة الـملکیّـة الـناسوتیّـة، من الأمر الـواضح الـلازم لـتلک الـطبیعـة، ولا یُعقل الـتفکیک؛ لأنّ دار الـطبیعـة ومنزل الـمادّة، دار الاصطدام والـمزاحمـة، ولو کان یمکن عقلاً هذا الـتفکیک لـکانت هذه الـنشأة من الـنشآت الإلهیّـة الـمجرّدة، فأخیرة الـتجلّیات ـ وهی الـتجلّی الـفعلی فی الـموادّ والـمادّیات تستـتبع هذه الـتبعات طبعاً وقهراً، فکیف یُعقل طلب الـهدایـة بمعناها الـواقعی والـحقیقی؟ فلابدّ وأن ینحصر الـطلب بالهدایـة الـتشریعیّـة.
أقول: الـهدایـة الـتشریعیّـة فی نظر تشریعیّ، ولکن الاهتداء بتلک الـهدایـة تکوینیّ؛ لأنّـه لـیس مجرّد الاعتبار والـتخیّل کالاُمور الاعتباریّـة، فعلیٰ هذا یلزم سقوط الـدعاء بالنسبـة إلـیها. وغیر خفیّ أنّ هذا الـدعاء غیر الـدعاء بالنسبـة إلـیٰ حاجـة من الـحوائج الاُخر؛ کإعطاء درهم لـسدّ الـجوع؛ ضرورة أنّ الـنظر من الـهدایـة هو استطراق طریق الـوصول إلـیٰ غایـة الـطبیعـة ومقتضیاتها؛ أی استدعاء الـشجرة هو الـبلوغ إلـیٰ أن تثمر ثمراتها الـممکنـة لـها طبعاً، واستدعاء الـحیوان هو الـوصول إلـیٰ الـکمال الـمترقّب الـحیوانی، وهکذا الإنسان، وحیث إنّ فطرة الإنسان فطرة الـتوحید وفطرة الـعشق لـلکمال الـمطلق، فهدایتـه هو إبلاغـه إلـیٰ ذلک الـعشق، وهذا غیر ممکن بالإمکان الاستعدادی لا الـذاتی والـوقوعی، بل وغیر ممکن بالإمکان الـوقوعی؛ لـلزوم الـخلف، وهو کون هذه الـنشأة مادّیّـة غیر مزاحمـة، فتدبّر.
فعلیٰ ما تقرّر وتحرّر: یُشکل طلب الـهدایـة بمعناها الـواسع الـتکوینی
کتابتفسیر القران الکریم: مفتاح أحسن الخزائن الالهیة (ج. 2)صفحه 109
الـمطلق، فلابدّ من أن یقال: إنّ الـنظر فی هذا الـطلب إلـیٰ الـهدایـة الـتکوینیّـة الـنسبیّـة؛ بتحصیل الـمُعِدّات والـمقدّمات الإعدادیّـة الـلازمـة؛ حتیٰ ینال الـحقائق ویصل إلـیٰ الـمرتبـة الاُخریٰ؛ لـما فیـه من کمال الـوجود؛ ضرورة أنّ الـوصول إلـیٰ أصل الـوجود ومنبع الـغیب والـشهود، یحتاج إلـیٰ الاُمّهات الـشامخـة والأصلاب الـمطهّرة، وأمّا الـوصول إلـیٰ غایـة طبیعـة الإنسان وسیره الـعلمی والـعملی، الـبالغ إلـیـه الـنبیّ الأعظم صلی الله علیه و آله وسلموالـولیِّ الـمعظّم، فهو من الآمال، ولا یخرج منها.
دست ما کوتاه و خرما بر نخیل
پای ما لنگ است منزل بس دراز
وغیر خفیّ: أنّ الـترنّم بهذا الـدعاء، واستدعاء ذلک لـکلّ أحد ـ مع قطع الـنظر عن الآخر ـ بإظهار الاشتیاق الـشدید إلـیٰ تلک الـمنزلـة، وإبراز الـحبّ الأکید لـلوصول إلـیٰ تلک الـغایـة، یستلزم انفتاح أبواب الـخیرات، وربّـما یتّـفق ـ لـحصول نار الـعشق فی وجوده ـ الإعدادُ والاستعداد لـلخیرات الإلهیّـة الإطلاقیّـة، وللحرکـة الـطبیعیّـة الـشوقیّـة إلـیٰ دار الـجنّـة والـمنزل الأرفع.
فما ذکرناه فهو بالقیاس إلـیٰ کلّیّ ما فی الـنظام الـکیانی الـتابع لـلنظام الـربّانی والإلهی، وقد أشرنا إلـیٰ أنّ ذلک لا یستـتبع امتناع الـوصول ذاتاً؛ وإن کنّا نعلم إجمالاً بأنّ الـطریق مسدود، والأبواب بالنظر إلـیٰ حالات الأشخاص مسدودة بالانسداد الـجائی من قِبَلهم.
وإن شئت قلت: الـهدایـة الـتشریعیّـة أمر یحصل من إنزال الـکتب وإرسال الأنبیاء والـرسل، وبالإقرار بذلک اهتدیٰ الـرجل.
ولکنّ الـهدایـة الـتکوینیّـة لـیست من الاُمور الـجائیـة من الـغیب
کتابتفسیر القران الکریم: مفتاح أحسن الخزائن الالهیة (ج. 2)صفحه 110
دفعـة وفی مائدة حتّیٰ نبتلعها، بل هی تحصل من الـجدّ والاجتهاد ومن سلوک الـطرق الـصعبـة جدّاً، الـمعضلـة والـمشکلـة واقعاً، وهذا ممّا لا یحصل بدواً وابتداعاً، بل لابدّ وأن یکون من قِبَل الـمعشوق علیٰ الإطلاق نظر واستدعاء.
تا که از جانب معشوق نباشد کششی
کوشش عاشق بیچاره بجایی نرسد
کتابتفسیر القران الکریم: مفتاح أحسن الخزائن الالهیة (ج. 2)صفحه 111