المسألة الثانیة
حول کلمة «الناس»
الـناس یکون من الإنس ومن الـجنّ، لـکن غلب استعمالـه فی الإنس، وهو جمع إنس أصلـه اُناس جمع عزیز اُدخل علیـه «أل».
وقیل: الـناس اسم وضع لـلجمع کالـرهط والـقوم، واحده إنسان من غیر لفظـه، ویُصغّر «الـناس» علیٰ نویس.
والـناس یُذکَّر، قال الله تعالـیٰ: «ثُمَّ أَفِیضُوا مِنْ حَیْثُ أَفَاضَ النَّاسُ» و«یَوْمَئِذٍ یَصْدُرُ النَّاسُ أَشْتَاتاً».
وقیل: الـناس قد یذکّر ویراد بـه الـفضلاء، دون من یتناولـه اسم الـناس تجوُّزاً. وفیـه ما لایخفیٰ.
وقیل: إطلاقـه علیٰ الـجنّ ضَرْب من الـمجاز، وهو غیر واضح؛ لأنّ ما یقابل الـجنّ ـ حسب الاستعمال ـ هو الإنس کثیراً.
والذی هو التحقیق: أنّ الاستعمال أعمّ، ولایستفاد منـه شیء من الـحقیقـة، والـذی هو الـمتبادر منـه أنّـه منصرف عن الـجنّ، وهذا هو الـمطّرد، فما فی بعض کتب الـلغـة غیر ثابت جدّاً. وعن ابن خالـویـه: أنّ
کتابتفسیر القران الکریم: مفتاح أحسن الخزائن الالهیة (ج. 3)صفحه 233
الـعرب تقول ناس من الـجنّ، ولعلّـه اُرید منـه: أنّ طائفـة من الـناس تشبـه الـجنّ.
وبالجملة: حکی عن سیـبویـه والـفرّاء: أنّ مادّتـه همزة ونون وسین، وحذفت الـهمزة شذوذاً. وأصلـه اُناس لـقولـه تعالـیٰ: «یَوْمَ نَدْعُو کُلَّ أُنَاسٍ بِإِمَامِهِمْ» ووزنـه فُعال.
وعن الـکسائی: أنّ مادّتـه نون وواو وسین، ووزنـه فَعْل من الـنَّوْس، وهی الـحرکـة، یقال: ناس ینوس نَوْساً إذا تحرّک، والـنَّوْس تذبذب الـشیء فی الـهواء.
وحُکی عن جماعـة: أنّـه من «نسی»، وأصلـه نسی، ثمّ قُلب فصار نَیَس، ولتحرّک الـیاء وانفتاح ما قبلها قُلِبت ألفاً، فصار ناس، وهذا لـقولـه تعالـیٰ فی آدم علیه السلام: «فَنَسِیَ وَلَمْ نَجِدْ لَهُ عَزْماً»، وهذا مرویّ عن ابن عباس. وعلیٰ هذا یکون وزنـه «فلع»، کما کان الأوّل وزنـه فُعال.
وقیل: هو من «الـنسیّ» بمعنیٰ الـتأخیر مقلوباً، أو محذوف الـلام.
وقیل: هـو من أنس بمعنیٰ أبصر؛ وذلک لأنّـه ظاهر محسوس فی مقابل الـجنّ. وهذا من قولـه تعالـیٰ: «آنَسَ مِنْ جَانِبِ الطُّورِ نَاراً».
کتابتفسیر القران الکریم: مفتاح أحسن الخزائن الالهیة (ج. 3)صفحه 234
وحُکی عن ابن عاصم: أنّـه جزم بأنّ کُلاًّ من ناس واُناس مادّة مستقلّـة.
وقیل: إنّ الـناس اسم جنس من أسماء الـجموع، وواحده الإنسان والإنسانـة علیٰ غیر الـلفظ.
ویختصّ بـه عند الـصوفیـة غیر الأولیاء، فإذا اُطلق لایشملهم. ولا یخفیٰ ما فیـه. نعم ربّما یکون منصرفاً فی مورد عنهم لـقرائن خاصّـة.
أقول: والذی هو التحقیق: أنّ فی الـمشتقّات الـتزمنا بالـوضعین الـنوعیّـین: وضع لـلمادّة ووضع لـلهیئـة، وکان ذلک قضاء لـحقّ الـمشاهدة والـوجدان، وأمّا فی سائر الألفاظ فلا معنیٰ لإرجاع مادّة الـیٰ مادّة فی الـلغات، ولا وجـه لـلفحص عن الأصل والـفرع، بل الـکلّ صاحب الـوضع الـشخصی الـمخصوص بـه؛ من غیر صحّـة الـنزاع الـمذکور الـمتعارف فی الاشتقاقات الـصغیرة والـکبـیرة.
والإنسان والإنس والـناس والاُنس والـنسیان، کلّ وإن کان متقارب الـلفظ والـمادّة، أو متقارب الـمعنیٰ ومتناسب الـمفهوم أحیاناً، إلاّ أنّـه لابُرهان علیٰ الـتأصّل والـتفرّع، ولا مرجّح لـکون أحدها أصلاً والآخر فرعاً؛ حتّیٰ یصحّ أن یقال: إنّ الاُناس هو الـمزید من الـناس، أو یقال: إنّ الـناس هو
کتابتفسیر القران الکریم: مفتاح أحسن الخزائن الالهیة (ج. 3)صفحه 235
الـمحذوف الـهمزة من الاُناس، ولزوم کون الأسماء الـعربیـة تحت الـبرنامج والـمیزان الـصرفی الـعامّ، ممنوع بما یشهده الـوجدان کثیراً.
کتابتفسیر القران الکریم: مفتاح أحسن الخزائن الالهیة (ج. 3)صفحه 236