الأمر الخامس
فی سرّ تقدیم العبادة علیٰ الاستعانة
وقد ذکروا وجوهاً ربّما تزداد علیٰ الـعشرة، وتلک الـوجوه تکشف عن اشتیاق الـمفسّرین إلـیٰ تزیـین الـکتاب الـسماوی بأنواع الـتزیـین، وترمز إلـیٰ نهایـة عشقهم بأنّ الـکتاب الإلهی مشتمل علیٰ جمیع الـمخترعات الـوهمیّـة الـذوقیّـة:
کتابتفسیر القران الکریم: مفتاح أحسن الخزائن الالهیة (ج. 2)صفحه 25
1 ـ فمنها: أنّ الـعبادة هی الأمانـة الـمذکورة فی الآیـة الـشریفـة: «إِنَّا عَرَضْنَا الأَمَانَةَ»، فاهتمّ الـسالک بأدائها.
2 ـ ومنها: أنّ الـسالک لـمّا نسب الـعبادة إلـیٰ نفسـه، فکأنّـه توجّـه إلـیٰ أنانیّتـه، فأراد کسر تلک الأنانیّـة بذلّ الـسؤال عن الـعون والإعانـة.
3 ـ ومنها: أنّـه لـمّا نسبها إلـیٰ نفسـه أراد أن یشیر إلـیٰ کذب الـنسبـة؛ وأنّ الـقوّة والـحول من الـربّ الـقادر.
4 ـ أنّ نهایـة شوقـه إلـیٰ الـقُرب أوقعـه فی ذلک، فإنّ الـعبادة سبب تقرّبـه، والاستعانـة لـیست هکذا.
5 ـ أنّ فی الـعبادة خُلوصاً صِرفاً؛ لـما لا ینتظر الإجابـة، بخلاف الاستعانـة، فإنّـه ینتظر معها الاستجابـة، فکأنّـه دعاه تعالیٰ لأجل الأمر الآخر وراء ذاتـه تعالیٰ وتقدّس، فلابدّ وأن یتقدّم هذا وأن یتأخّر ذاک.
6 ـ وغیر ذلک ممّا یطلبـه الـفاحص عن الـکتب الـمفصّلـة.
ولو کان الـتنزیل بعکس ذلک، کان لـنا أن نخترع وجوهاً وأسراراً لـتقدیم الاستعانـة علیٰ الـعبادة:
1ـ فمنها: أنّ الـعروج من الـنقص إلـیٰ الـکمال یقتضی تقدیم الاستعانـة علیٰ الـعبادة؛ لأنّها الـغایـة الـقصویٰ.
2ـ ومنها: أنّ الـخوف من الـسقوط والـوقوع فی الـتهلکـة یوجب ذلک؛ ضرورة أنّ بدون إعانتـه الـواقعیّـة لا یتمکّن من الـعبادة.
3ـ ومنها: أنّ الـدنیا مزرعـة الآخرة، فلابدّ من الـتوجّـه إلـیٰ جمیع
کتابتفسیر القران الکریم: مفتاح أحسن الخزائن الالهیة (ج. 2)صفحه 26
الـنشآت، وإلـیٰ الأمر الـجامع، وهو طلب الاستعانـة والإعانـة.
4ـ ومنها: أنّ فی تأخیر الـعبادة ذکراً لـلخاصّ بعد الـعامّ، دون عکسـه، والأوّل صحیح، دون الـثانی، کما لا یخفیٰ.
فبالجملة: لـلإنسان الـمکّار الـحیّال اختراع الـوجوه لـجهات مختلفـة من الـکلام، فلا ینبغی الاقتصار علیٰ هذه الاُمور فی هذه الـمواقف.
والذی هو الأظهر: أنّ الـمشرکین کان من دأبهم أن یتشبّثوا بالأصنام ویتّخذونها وسائط ویعبدونها ویستمدون منها وکأنّهم یقفون حذاءها ویقولون: إیّاکِ نعبد وإیّاکِ نستعین، فجاء الإسلام ومنعهم عن ذلک ونهاهم، وأمرهم بأن یعبدوا اللّٰه الـواحد الـقهّار؛ من غیر حاجـة إلـیٰ تلک الـوسائط وهذه الـوسائل الـدنیویّـة الـضعیفـة فی الـوجود والـکمال، وأدّبهم بکیفیّـة الـعبادة، فقالوا: «إِیَّاکَ نَعْبُدُ وَإِیَّاکَ نَسْتَعِینُ».
وبعبارة اُخریٰ: یُعلم من الـفاتحـة ومن هذه الـسور ما کانوا یصنعون فی عهد الـجاهلیّـة من الأفعال الـسیّئـة، فهی نسخـة دوائهم، ونموذج یُشیر إلـیٰ دائهم الـذی ابتُلوا بـه فی تلک الأعصار.
وعلیٰ هذا لا نظر فی الـتقدیم والـتأخیر بعد ذلک، نعم اقتضاء اُسلوب الـکلام والـسجع هو تقدیم مادّة الـعبادة علیٰ مادّة الاستعانـة؛ لأنّ الـکتاب الـعزیز دقیق الـنظر فی هذا الـمیدان، ویلاحظ الـمحسّنات الـلفظیّـة أکثر من أن تُحصیٰ.
کتابتفسیر القران الکریم: مفتاح أحسن الخزائن الالهیة (ج. 2)صفحه 27