سورة الفاتحة

نقل مقال وتوضیح حال

نقل مقال وتوضیح حال

‏ ‏

‏زعم بعض الـمفسّرین تبعاً لآخر: أنّ الـعبادة ـ بحسب الـلغـة‏‎ ‎‏والاستعمال ـ موضوعـة لـلخضوع الـخاصّ، وقال: إنّ الـعبادة ما یرونـه‏‎ ‎‏مشعراً بالخضوع لـمن یتّخذه الـخاضع إلـهاً؛ لـیوفّیـه بذلک ما یراه لـه من حقّ‏‎ ‎‏الامتیاز بالإلهیّـة‏‎[1]‎‏. انتهیٰ.‏

‏ویقرب منـه قول الآخر: تدلّ الأسالیب الـصحیحـة والاستعمال الـعربی‏‎ ‎‏الـصُّراح، أنّ الـعبادة ضَرْب من الـخضوع بالغ حدّ الـنهایـة، ناشئ عن‏‎ ‎‏استشعار الـقلب عظمـة الـمعبود، لا یعرف منشأً لـها، واعتقاد بسلطـة لایدرک‏‎ ‎‏کنهها وماهیّتها، وقُصاریٰ ما یعرفـه منها أنّها محیطـة بـه، ولکنّها فوق‏‎ ‎‏إدراکـه‏‎[2]‎‏. انتهیٰ.‏

أقول:‏ ـ مضافاً إلـیٰ ما عرفت من صریح کلمات الـلُّغویّـین، مثل ما‏‎ ‎‏یقال: طریق معبَّد؛ أی مذلَّل، وفرس معبَّد؛ أی مذلَّل لـلرکوب ـ : إنّ الـکتاب‏‎ ‎‏الـعزیز قد استوعب استعمال هذه الـکلمـة فی الـموارد الـمختلفـة، فمنها:‏‎ ‎‏قولـه تعالیٰ: ‏‏«‏فَقَالُوا أَنُؤْمِنُ لِبَشَرَیْنِ مِثْلِنَا وَقَوْمُهُمَا لَنَا عَابِدُونَ‏»‏‎[3]‎‏، وقولـه‏‎ ‎‏تعالیٰ: ‏‏«‏وَجَعَلَ مِنْهُمُ الْقِرَدَةَ وَالْخَنَازِیرَ وَعَبَدَ الطَّاغُوتَ‏»‏‎[4]‎‏، وحملهما علیٰ‏‎ ‎

کتابتفسیر القران الکریم: مفتاح أحسن الخزائن الالهیة (ج. 2)صفحه 9
‏الـمجازیّـة خلاف الأصل.‏

‏نعم لا ننکر کثرة استعمالاتها فی الـتذلّل الـخاصّ والـخضوع‏‎ ‎‏والـخشوع بعنوان مخصوص؛ من غیر تمامیّـة الـقیود الـمزبورة فی کلماتهما،‏‎ ‎‏فإنّـه لا یعتبر فی تحقّق ماهیّـة الـعبادة، إلاّ الـخضوع بعنوان إظهار الـمبدئیّـة‏‎ ‎‏أو الـمدخلیّـة فی الاُمور الـخارجـة عن اختیار الـبشر عادة ومتعارفاً،‏‎ ‎‏کالاستشفاع ونحوه، ولکن لا یرجع ذلک إلـیٰ أنّـه من أصل الـلغـة، بل هذا من‏‎ ‎‏کثرة الاستعمال، فاغتنم.‏

وبالجملة:‏ ما عن الـجمهور من : أنّها بمعنیٰ مطلق الـخضوع، یمکن أن‏‎ ‎‏یجتمع مع ما عن بعضهم من : أنّها الـخضوع الـخاصّ وحصّـة من الـذلّـة‏‎ ‎‏والـخشوع، فإنّ الأوّل ناظر إلـیٰ أصل الـلغـة والـوضع الـتعیینی، والـثانی‏‎ ‎‏ناظر إلـیٰ الـوضع الـتعیّنی الـحاصل من کثرة الاستعمال، وبذلک نجمع بین‏‎ ‎‏الـمقالتین.‏

وغیر خفیّ:‏ أنّ جمیع مشتقّات الـعبادة لا یستعمل فی الـخضوع‏‎ ‎‏الـخاصّ، بل الـثلاثی الـمجرّد منـه یکون ظاهراً فیـه، کما أنّ ابن الـسکّیت‏‎ ‎‏قال: الـعبادة معناها الـتجرید‏‎[5]‎‏، وهو غیر راجع إلـیٰ محصل.‏

‏وأیضاً غیر خفیّ: أنّ تعدّیـه بالتشدید مغایر لـتعدّیـه بالتخفیف نحو‏‎ ‎‏عبَّدتُ الـرجلَ : ذلَّلتُـه، وعَبَدتُ اللّٰهَ : ذلَلتُ لـه.‏

‏وممّا یخطر بالبال: أنّ الـعبادة تـتعدّیٰ بنفسها، کقولـه تعالیٰ: ‏‏«‏إِیَّاکَ‎ ‎نَعْبُدُ‏»‏‏وغیر ذلک من الاستعمالات الـکثیرة، فلو کانت ـ بحسب الـمعنیٰ ـ هی‏

کتابتفسیر القران الکریم: مفتاح أحسن الخزائن الالهیة (ج. 2)صفحه 10
‏الـذلّـة والـخضوع والـخشوع، فلا معنیٰ لأن تـتعدّیٰ هذه الـموادّ بالحروف؛‏‎ ‎‏لأنّ الـلزوم والـتعدّی من طوارئ الـمعانی، لا الألفاظ بالضرورة، فیعلم من‏‎ ‎‏ذلک عدم الـترادف بینهما رأساً.‏

اللهمّ إلاّ أن یقال:‏ إنّ الـعبادة لـیست متعدّیـة؛ لـجواز أن یقال: عبدت‏‎ ‎‏لک. هذا، مع أنّ الـعبودیّـة لـیست فعلاً صادراً من الـفاعل، ومتجاوزاً عنـه،‏‎ ‎‏وقائماً بالغیر وبالمعبود، فتفسیر الـلُّغویّـین فی غیر محلّـه، فلیتدبّر جیّداً.‏

‎ ‎

کتابتفسیر القران الکریم: مفتاح أحسن الخزائن الالهیة (ج. 2)صفحه 11

  • )) آلاء الرحمن فی تفسیر القرآن 1 : 57 .
  • )) تفسیر المنار 1 : 56 ـ 57 .
  • )) المؤمنون (23) : 47 .
  • )) المائدة (5) : 60 .
  • )) البحر المحیط 1 : 23 .