سورة البقرة

البحث الأوّل : حول الجبر والتفویض

البحث الأوّل

‏ ‏

حول الجبر والتفویض

‏ ‏

قیل:‏ فی هذه الآیـة أدلّ دلیل وأوضح سبـیل علیٰ أنّ اللّٰه سبحانـه،‏‎ ‎‏خالـق الـهُدیٰ والـضلال والـکفر والإیمان.‏

‏فاعتبروا أیّها الـسامعون وتعجّبوا أیّها الـمتفکّرون من عقول الـقدریـة‏‎ ‎‏الـقائلین بخلق إیمانهم وهداهم، فإنّ الـختم هو الـطبع، فمن أین لهم الإیمان‏‎ ‎‏ولو جهدوا وقد طُبع علیٰ قلوبهم وعلیٰ سمعهم وعلیٰ أبصارهم غشاوة؟! فمتیٰ‏‎ ‎‏یهتدون؟! أو من یهدیهم من بعد اللّٰه إذا أضلّهم وأصمّهم وأعمیٰ أبصارهم؟!‏‎ ‎‏«‏وَمَنْ یُضْلِلِ اللّٰهُ فَمَا لَهُ مِنْ هَادٍ‏»‏‏وکان فعل الله ذلک حقّاً وعدلاً لا ظلماً‏‎ ‎‏وجوراً، فإنّما نفعهم ما کان لـه أن یتفضّل بـه علیهم لا ما وجب لهم‏‎[1]‎‏.‏

‏أقول: یا أیّها الـعوامّ ویا أیّها الـمبتدئون الـعارفون بالـلغـة تعجّبوا‏

کتابتفسیر القران الکریم: مفتاح أحسن الخزائن الالهیة (ج. 3)صفحه 194
‏واضحکوا علیٰ عقول الـمجبِّرة، کیف ذهلوا وغفلوا عن هذه الآیـة الـشریفـة‏‎ ‎‏الـتی تکون فی حکم الـذیل للآیـة الـسابقـة: ‏‏«‏إِنَّ الَّذِینَ کَفَرُوا سَوَاءٌ عَلَیْهِمْ‎ ‎أَأَنْذَرْتَهُمْ أَمْ لَمْ تُنْذِرْهُمْ لاَ یُؤْمِنُونَ خَتَمَ اللّٰهُ‏»‏‏؟! فهم الـذین کفروا من غیر أن‏‎ ‎‏یخلق اللّٰه کفرهم بالـمعنیٰ الـذی توهّمـه الـجبابرة الأذلّون والـمجبِّرة‏‎ ‎‏الأجهلون.‏

‏إذا عرفت ذلک، وعلمت أیضاً: أنّ الـحقائق الـحَکَمیـة والـمعانی‏‎ ‎‏الـکلّیـة الـفلسفیـة، لا تُقتَنَص من الإطلاقات الـلُّغویـة والاستعمالات‏‎ ‎‏الـعامّـة؛ الأعمّ من الاستعارات والـمجازات والـحقائق؛ وإن کان تظافر‏‎ ‎‏الـنسب والـقضایا والـکلمات یوجب حسن الـظنّ بأحد طرفی الـمسألـة، إلاّ‏‎ ‎‏أنّ الـمحرّر فی محلّـه عدم إمکان الاتّکاء وعدم حصول الاعتقاد من هذه‏‎ ‎‏الـطرق إلاّ للمبتدئین من الـخلق والأراذل من الـناس، دون الـمفکّرین‏‎ ‎‏الـمتعمّقین.‏

‏وبالـجملـة: إذا تحصّل لک ذلک فاعلم: أنّ مسألـة الـجبر والـتفویض‏‎ ‎‏من الـمسائل الـغامضـة الـربوبیـة والـبحوث الـجلیلـة الإلهیـة، وقد سبقت‏‎ ‎‏مباحثها فی محالّها بما لا مزید علیها؛ من غیر اختصاصها بمسألـة الـمکلّفین‏‎ ‎‏وغیر الـمکلّفین؛ لأنّها بحث عامّ فی جمیع مراتب الـوجود والأعیان، وفی‏‎ ‎‏عموم سلسلـة الـعلل والـکائنات؛ حتّیٰ فی دخالـة مقدّمات الـقیاس‏‎ ‎‏بالـنسبـة الـیٰ الـعلم بالـنتیجـة، کما مرّ مراراً فی الـکتاب، وأشرنا کراراً فی‏‎ ‎‏ذیل الآیات الـیٰ بعض ما یتعلّق بـه؛ حتّیٰ یکون الـقارئ الـکریم علیٰ ذُکْر من‏‎ ‎‏ذلک الـیٰ أنّ تصل الـنوبـة الـیٰ الـبحث عنها بمقدّماتها فی ذیل بعض الآیات‏‎ ‎‏الـشریفـة وعند بعض الـحکایات والـقصص، کحکایـة موسیٰ ‏‏علیه السلام‏

کتابتفسیر القران الکریم: مفتاح أحسن الخزائن الالهیة (ج. 3)صفحه 195
‏والـخضر ‏‏علیه السلام‏‏ إن شاء اللّٰه تعالـیٰ.‏

ومجمل القول فی المقام:‏ أنّ فی نسبـة الـطبع الـیٰ اللّٰه تعالـیٰ دقیقـة‏‎ ‎‏لطیفـة، وتکون الـنسبـة علیٰ نعت الـحقیقـة دون الـتوسّع، وهو أنّ معنیٰ‏‎ ‎‏الـختم ـ کما عرفت ـ هو الـفراغ عن الـشیء، أو الـفراغ عنـه بجعل سِمَـة‏‎ ‎‏علیـه وعلامـة لـه، ولا شبهـة فی أنّ الـفراغ والـختم یتقوّم بالـمبادئ‏‎ ‎‏الـخاصّـة الـمعیّـنـة، فکما أنّ الـقویٰ الـعمّالـة تنتهی الـیٰ غایاتها، وتکون‏‎ ‎‏تلک الـغایات حاصلـة بعد سیر تلک الـقویٰ الـعمّالـة، ولا تکون تلک‏‎ ‎‏الـغایات مُفاضـة علیها إلاّ من الـمبادئ الإلهیـة الـغیـبـیـة، ولا تکون مُفیضـة‏‎ ‎‏علیها إلاّ بعد سیر تلک الـقویٰ والـمبادئ الـمادّیـة الـظاهریـة، کذلک الأمر‏‎ ‎‏فیما نحن فیـه، فإنّ طبع الـقلوب وجعل الـختم علیها، أو ختم الـقلوب بالفراغ‏‎ ‎‏عنها؛ وبجعل الـعلامـة علیها والـسِّمـة لها، بعد سیر أرباب الـقلوب والأسماع‏‎ ‎‏والأبصار، حسب اختیاراتهم فی الـمبادئ الـمادیّـة الإعدادیـة؛ باختیار الـکفر‏‎ ‎‏والـفسق والإثم والإصرار علیها؛ والـمداومـة والـمزاولـة لها حتّیٰ تصیر‏‎ ‎‏ملکـة راسخـة، ویصیر الـکفر وارداً فی حدّ وجوده وموجودیتـه وکمالاً ثانیاً‏‎ ‎‏وهمیّـاً لـه، یقتضی ویُهیّـیٔنزول الـصورة الـخاصّـة الـمتعصّیـة عن قبول أیّـة‏‎ ‎‏هدایـة کانت، ویوجب أن تنتهی هذه الـمادّة الـسیّـالـة الـیٰ مرتبـة من‏‎ ‎‏الـقساوة والـبعد والـشقاوة والانحراف، حتّیٰ تکون الـصورة الـمفاضـة من‏‎ ‎‏اللّٰه تعالـیٰ، مانعةً عن قبول جمیع أنحاء الاستضاءة والاستنارة والـسعادة‏‎ ‎‏والـهدایـة.‏

‏وهذا الأمر هی الـحقیقـة الـساریـة فی جمیع مراحل الـوجود‏‎ ‎‏الـمتحرّک من الـنقص الـیٰ الـکمال، وفی مجموع منازل الـفیض الـنازل‏

کتابتفسیر القران الکریم: مفتاح أحسن الخزائن الالهیة (ج. 3)صفحه 196
‏تدریجاً حسب الـقوابل والاستعدادات، وحسب الـکمالات الـموجودة‏‎ ‎‏حقیقیـة کانت أو وهمیـة.‏

وإن شئت قلت:‏ نسبـة الـختم الـیـه تعالـیٰ کنسبـة الإضلال لا یستلزم‏‎ ‎‏جبراً؛ لأنّ الـخَتْم من شُعب الـرحمـة الـرحمانیـة الـتی تختلف باختلاف‏‎ ‎‏الـقوابل، وهی نظیر شعاع الـشمس الـذی یبـیّـض ثوب الـقصّار ویسوّد‏‎ ‎‏وجهـه، ویُطیّـب ریح الـورد ویُنتن ریح الـعذرات.‏

‏ومن الـغریب ما فی الآلوسی: من أنّ ماهیات الـممکنات معلومـة لـه‏‎ ‎‏سبحانـه أزلاً، فهی متمیّـزة فی أنفسها تمیّـزاً ذاتیاً غیر مجعول، وأنّ لها‏‎ ‎‏استعدادات ذاتیـة غیر مجعولـة أیضاً مختلفـة الاقتضاءات‏‎[2]‎‏. انتهیٰ ما أردنا‏‎ ‎‏نقلـه.‏

‏وأنت تجد ما تخیّـلـه من هذه الـجمل: وهو أنّ الـجبر ثابت إلاّ أنّ‏‎ ‎‏الـجابر لیس هو اللّٰه تعالـیٰ، بل اللّٰه یختار ویرید ما تقتضیـه الـماهیّـات‏‎ ‎‏حسب ذاتیاتها.‏

‏وأیضاً تعلم فساد هذا الـمعنیٰ؛ ضرورة أنّ الـماهیّـات لیس لها شأن‏‎ ‎‏حتّیٰ تقتضی شیئاً، ولیست الاستعدادات من الـذاتیات الإیساغوجیـة‏‎ ‎‏بالـضرورة، ولا من الـذاتیات فی باب الـبرهان؛ أی الـمحمولات بالـضمیمـة‏‎ ‎‏وخوارج الـمحمول، فکن علیٰ بصیرة.‏

‏ ‏

‏ ‏

‎ ‎

کتابتفسیر القران الکریم: مفتاح أحسن الخزائن الالهیة (ج. 3)صفحه 197

  • )) اُنظر الجامع لأحکام القرآن 1 : 186 ـ 187 .
  • )) روح المعانی 1 : 124 .