سورة البقرة

البحث الثانی : حول نسبة الختم إلی اللّٰه تعالیٰ

البحث الثانی

‏ ‏

حول نسبة الختم إلی اللّٰه تعالیٰ

‏ ‏

‏قد اختلفت آراؤهم فی وجـه نسبـة الـختم الـمحسوس ـ بحسب‏‎ ‎‏الـمعنیٰ ـ الـیٰ اللّٰه تعالـیٰ والـیٰ الـقلب، بل والـیٰ الـسمع والـبصر، وفی‏

کتابتفسیر القران الکریم: مفتاح أحسن الخزائن الالهیة (ج. 3)صفحه 179
‏وجـه نسبـة «الـغشاوة» الـیٰ الـبصر؛ مع أنّـه لیس فیـه الـغشاوة الـحسیّـة‏‎ ‎‏والـتکوینیـة؛ علیٰ أقوال وآراء‏‎[1]‎‏.‏

وبالجملة:‏ هناک أسئلـة متداخلـة:‏

‏1 ـ وجـه نسبـة الـختم الـیـه تعالـیٰ.‏

‏2 ـ وجـه استعمال الـختم الـموضوع للمحسوس فی الاُمور الـمعقولـة.‏

‏3 ـ وجـه إسناد الـختم الـیٰ الـقلوب والأسماع مع أنّها لیست‏‎ ‎‏مختومـة.‏

‏4 ـ وجـه نسبـة الـغشاوة الـیٰ الأبصار مع أنّها لیست عمیاء، ولا علّـة‏‎ ‎‏فیها بوجـه.‏

‏ولا بأس بالإشارة الإجمالـیـة الـیٰ الأجوبـة الـمذکورة فی کتب‏‎ ‎‏الـمفسِّرین ـ علیٰ نهایـة الـتلخیص والاختصار ـ قضاءً لحقوقهم:‏

الأوّل:‏ أنّ الـختم والـتغشیـة علیٰ حقیقتهما الـلُّغویـة‏‎[2]‎‏؛ بناء علیٰ أنّ‏‎ ‎‏الألفاظ موضوعـة للمعانی الـعامّـة، کما ذکرناه فی بعض الـبحوث الـسابقة‏‎ ‎‏بتفصیل؛ مشفوعاً بالـبرهان ومؤیّداً بالـوجدان والـذوق الـعرفانی، وهذه‏‎ ‎‏الـمقالـة منسوبـة الـیٰ أرباب الـعرفان وأصحاب الإیقان، وقد فرغنا عن‏‎ ‎‏تزییف ذلک وتضعیفـه؛ بعدم جواز الـخلط بین الـبحوث الـلغویـة الـسوقیـة،‏‎ ‎‏وبین الـذوقیات الـخارجـة عن اُفُق الـخواصّ، فضلاً عن الـعوامّ.‏


کتابتفسیر القران الکریم: مفتاح أحسن الخزائن الالهیة (ج. 3)صفحه 180
الثانی:‏ أنّ هذه الاُمور محسوسـة، وقد روی عن مجاهد أنّـه قال: «إذا‏‎ ‎‏أذنب الـعبد ضُمّ من الـقلب هکذا ـ وضمّ الـخِنْصِر ـ ثمّ إذا أذنب ضُمّ هکذا،‏‎ ‎‏وضمّ الـبِنْصِر، وهکذا الـیٰ الإبهام، ثمّ قال: وهذا هو الـختم والـطبع والـرَّیْن».‏

‏وهو عندی غیر معقول، ولا یخفیٰ ما فیـه من الـسخافـة‏‎[3]‎‏.‏

الثالث:‏ ما ذهب الـیـه الـمحقّقون، وهو أنّ الـختم استُعیر من ضرب‏‎ ‎‏الـخاتم علیٰ نحو الأوانی؛ لإحداث هیئـة فی الـقلب والـسمع مانعـة من نفوذ‏‎ ‎‏الـحقّ الـیهما، کما یمنع نقش الـخاتم تلک الـظروف من نفوذ ما هو بصدد‏‎ ‎‏الانصباب فیها، فیکون استعارة محسوس لمعقول بجامع عقلیّ، وهو الاشتمال‏‎ ‎‏علیٰ منع الـقابل عمّا من شأنـه أن یقبل، ثمّ اشتقّ من الـختم ختم، ففیـه‏‎ ‎‏استعارة تصریحیـة تبعیـة.‏

‏وأمّا الـغشاوة فقد استُعیرت من معناها الأصلی لحالـة فی أبصارهم‏‎ ‎‏تقتضیها؛ لعدم اجتلائها بالآیات، والـجامع ما ذکر، فهناک استعارة تصریحیـة‏‎ ‎‏أصلیـة أو تبعیـة؛ إذا اُوِّلت الـغشاوة بمشتقّ، أو جُعلت اسم آلـة علیٰ ما قیل‏‎[4]‎‏.‏

الرابع:‏ أنّ فی الـکلام استعارة تمثیلیـة؛ بأن یقال: شُبّهت حالُ قلوبهم‏‎ ‎‏وأسماعهم وأبصارهم ـ مع الـهیئـة الـحادثـة فیها الـمانعـة من الانتفاع بها ـ‏‎ ‎‏بحال أشیاء مُعَدّة للانتفاع بها فی مصالـح مهمّـة مع الـمنع من ذلک بالـختم‏‎ ‎‏والـتغطیـة، ثمّ یُستعار للمشبّـه الـلفظُ الـدالّ علیٰ الـمشبّـه بـه، فیکون کلّ‏‎ ‎‏واحد من طرفی الـتشبـیـه مرکّباً، والـجامع عدم الانتفاع، وهو أمر عقلیّ‏

کتابتفسیر القران الکریم: مفتاح أحسن الخزائن الالهیة (ج. 3)صفحه 181
‏منتزع من ذلک الـمرکّب‏‎[5]‎‏.‏

الخامس:‏ نسبـه الـیٰ الـسبب لمّا کان اللّٰه تعالـیٰ هو الـذی أقدر‏‎ ‎‏الـشیطان ومکّنـه، فأسند الـیـه الـختم‏‎[6]‎‏.‏

السادس:‏ أنّهم لمّا کانوا مقطوعاً بهم أنّهم لا یؤمنون طوعاً، ولا یمکن‏‎ ‎‏هدایتهم إلاّ بالـجاء وإکراه وقسر، عبّر عن ترکـه بالـختم‏‎[7]‎‏.‏

السابع:‏ أنّـه حکایـة تهکّمیـة عن قول الـکفّار، کقولهم: ‏‏«‏قُلُوبُنَا فِی‎ ‎أَکِنَّةٍ‏»‏‎[8]‎‏.‏

الثامن:‏ أنّ الـختم منـه تعالـیٰ هی الـشهادة منـه بأنّهم لا یؤمنون وهذا‏‎ ‎‏هو مختار «الـتبـیان»‏‎[9]‎‏.‏

التاسع:‏ أنّها فی قوم مخصوصین فُعل بهم ذلک فی الـدنیا عقاباً عاجلاً،‏‎ ‎‏کما عجّل لکثیر من الـکفّار‏‎[10]‎‏.‏

العاشر:‏ أن تکون عقوبـة غیر مانعـة عن قبولهم الإیمان‏‎[11]‎‏.‏

الحادی عشر:‏ أنّها حکایـة عن أحوالـهم فی الآخرة‏‎[12]‎‏.‏

الثانی عشر:‏ أنّ ذلک علامـة وسِمَـة یجعلها اللّٰه تعالـیٰ فی قلب الـکافر؛‏

کتابتفسیر القران الکریم: مفتاح أحسن الخزائن الالهیة (ج. 3)صفحه 182
‏تستدلّ بذلک الـملائکـة علیٰ أنّهم لا یؤمنون. وهذا هو مختار أبی علی‏‎ ‎‏الـجبائی والـقاضی تبعاً للحسن الـبصری‏‎[13]‎‏.‏

أقول:‏ الـخبـیر الـبصیر یعرف أنّ الـمستعملین الـبَدْویین لیسوا یعرفون‏‎ ‎‏هذه الـدقائق والـتخیّـلات، إلاّ فی بعض الأحیان ممّا یخطر ببالـهم حین‏‎ ‎‏الإطلاق والاستعمال، ولیس حقیقـة الأمر إلاّ استعمال هذه الألفاظ فی الـمعانی‏‎ ‎‏الـموضوعـة؛ مقروناً بالـقرائن الـتی بها یستدلّ الـمستمع علیٰ الآراء‏‎ ‎‏والـمقاصد الـحقیقیـة والـذاتیـة الـموجودة فی أنفسهم؛ من غیر ادّعاء أو‏‎ ‎‏تجوّز وتلاعب فی استعمال الـلفظ فی غیر الـموضوع لـه، بل للمستعمل نقل‏‎ ‎‏أذهان الـمخاطبـین والـقارئین الـیٰ مقاصده الـعالـیـة ـ الـخارجـة عن‏‎ ‎‏حدود الـلغات ـ بالـمفاهیم الـقریبـة من تلک الـمعانی الـرقیقـة لبعض‏‎ ‎‏الـمناسبات؛ من غیر إمکان الاطّلاع علیٰ تلک الـمناسبـة إذا کانت کثیرة.‏

‏ولا یجوز للباحث الـفاحص تعیـین تلک الـمناسبـة الـقریبـة الـیٰ‏‎ ‎‏ذهنـه؛ لأنّ الـقرب والـبعد لیسا میزاناً للخطور حین الاستعمال، مع أنّ الـقرب‏‎ ‎‏والـبعد عنده غیر الـقرب والـبعد عند الـشاعر والـناثر؛ حسب اختلاف‏‎ ‎‏الـمحیط ومنطقـة الاستعمال وحال الـمستعمل، وحیث إنّ الـکتاب الإلهی ـ‏‎ ‎‏فی هذه الـنشأة والـمرحلـة ـ لا یتجاوز عن سائر الـتآلیف الـعربیـة‏‎ ‎‏والـنسائج الـکلامیّـة فلا یمشی ممشاة أخصّائیـة، فلا یستعمل کلمات الـختم‏‎ ‎‏والـغشاوة، ولا کلمات الـقلوب والاسماع والأبصار ـ بناءً علیٰ کونها للآلات‏‎ ‎‏والـجوارح ـ إلاّ فی الـمعانی الـلُّغویـة الـموضوعـة لها ألفاظها، ولکن‏

کتابتفسیر القران الکریم: مفتاح أحسن الخزائن الالهیة (ج. 3)صفحه 183
‏الـمتکلّم یرید نقل الـمستمع الـیٰ مرامـه ومراده الـجدّی لأدنیٰ مناسبـة‏‎ ‎‏تقتضیـه، فتدبّر.‏

‏هذا هو الـحقّ الـصریح فی هذه الـمواقف من الـمجازات، ولا شبهـة‏‎ ‎‏عندنا تعتریـه، ولا شکّ لدینا فیـه.‏

‏إلاّ أنّ قضیّـة الـذوق الـسلیم والـفهم الـمستقیم ـ علیٰ تقدیر الـتنازل ـ‏‎ ‎‏هو غیر ما ذهب الـیـه هؤلاء الـتلامیذ؛ وذاک أن من کان یریٰ ویدّعی أنّ تمام‏‎ ‎‏حقیقـة الـقلب والـسمع والـبصر، هو الإدراک والـتصدیق الـصحیح والإیمان‏‎ ‎‏بالـغیب والاستماع وإبصار الـحقائق الـغیـبـیّـة وأسباب الـهدایـة، یصحّ لـه‏‎ ‎‏أن یریٰ فی هذه الـلحظـة ویدّعی أنّ الـقلب والـسمع والـبصر الـتی لیست‏‎ ‎‏کذلک؛ فإمّا لیست بقلب ولا سمع ولا بصر، کما إذا ادّعیٰ أنّ تمام حقیقـة‏‎ ‎‏الـرجولیـة هی الـبطولـة والـشجاعـة، وإذا لم تکن الـبطولـة فی الـرجل‏‎ ‎‏فلیس برجل، وینادی «یا أشباه الرجال، ولابرجال، وحلوم الأطفال»، أو یدّعی‏‎ ‎‏أنّها قلوب مختومـة وأبصار مَغشیّـة کسائر الأشیاء الـمختومـة والـمغشّاة.‏

‏وهذا لیس من الاستعارة، ولا من الـمجاز فی الـلفظ، بل هو تلاعب فی‏‎ ‎‏الـمعانی، وتوسعـة فی نطاق الـمعنیٰ الـموضوع لـه؛ مدّعیاً أنّ هذا من الـختم‏‎ ‎‏ومن الـغشاوة واقعاً وحقیقـة، ولأجل ذلک یسمّیٰ هذا بالـحقیقـة الـثانیـة،‏‎ ‎‏ولیست من الـحقیقـة الادّعائیـة الـکمالـیـة، فإنّها غیر هذه الـحقیقـة وبین‏‎ ‎‏الـمقالـتین فروق مذکورة فی کتاب «الـوقایـة» لعَلَم الـهُدیٰ والـعلاّمـة الـفذّ،‏‎ ‎‏الـشیخ محمّدرضا الأصفهانی ـ تغمّده اللّٰه تعالـیٰ بأغلفـة أنواره وبرکاتـه‏‎ ‎‏ورحمتـه ـ وسیظهر فی الـبحوث الآتیـة وجـه آخر لکون الـنسبـة الـیـه‏‎ ‎‏تعالـیٰ علیٰ وجـه الـحقیقـة الأوّلیـة أیضاً إن شاء اللّٰه تعالـیٰ.‏

‎ ‎

کتابتفسیر القران الکریم: مفتاح أحسن الخزائن الالهیة (ج. 3)صفحه 184

  • )) راجع التفسیر الکبیر 2 : 49 ـ 52 ، والبحر المحیط 1 : 48 ، وروح المعانی 1 : 123 ـ 125 .
  • )) روح المعانی 1 : 123 .
  • )) روح المعانی 1 : 123 ، تفسیر الطبری 1 : 112 .
  • )) روح المعانی 1 : 123 .
  • )) راجع روح المعانی 1 : 123 .
  • )) الکشّاف 1 : 52 ، روح المعانی 1 : 123 ـ 125.
  • )) راجع الکشّاف 1 : 52 .
  • )) نفس المصدر .
  • )) راجع تفسیر التبیان 1 : 64 ، والتفسیر الکبیر 2 : 50 .
  • )) راجع التفسیر الکبیر 2 : 51 .
  • )) التفسیر الکبیر 2 : 51 .
  • )) راجع نفس المصدر .
  • )) التفسیر الکبیر 2 : 51 ، وراجع فی جمیع هذه الأقوال إلی البحر المحیط 1 : 48 .