الحقّ ترکّب المشتقّ من الذات والتقیّد الحرفیّ
إذا تبیّن لک هذه الوجوه، وتبیّن امتناع بعضها، فاعلم : أنّ النسبة لا واقعیّة لها؛ بمعنی الوجود الرابط، علیٰ ما تقرّر منّا فی محلّه، فلو اُرید من «النسبة» فی هذه الوجوه ذلک الوجود ـ کما هو الظاهر ـ فیمتنع القول بالترکیب من النسبة وشیء آخر، وهکذا القول : بأنّ الموضوع له هی ذات النسبة فقط.
فیبقیٰ من الاحتمالات، احتمالُ کونه مرکّباً من الذات والمبدأ، ومرکّباً من الذات الملحوظ معها المبدأ، فیکون مفاد «ضارب» الفاعل والفعل، أو یکون مفاده
کتابتحریرات فی الاصول (ج. ۱)صفحه 400
فاعل الفعل، وأمّا نفس الفعل فهو خارج عن مدلول الهیئة.
والاحتمال الأوّل فاسد بالضرورة، وإلاّ یلزم تکرّر الدالّ؛ لأنّ المادّة تدلّ علی الفعل والحدث، ولو کان مفاد الهیئة أیضاً ذلک یلزم کون کلمة «ضارب» دالّةً علی الضرب مرّتین.
ومن هنا یعلم : أنّ القائل بترکیب المشتقّ من الذات والنسبة والحدث، خلط بین مفهوم المشتقّ ـ أی مفاد الهیئات الاشتقاقیّة ـ وبین مفهوم «ضارب» و«عالم» بإدخال مفاد المادّة فی مدلول المشتقّ، وهذا خلط واضح؛ ضرورة أنّ الجهة المبحوث عنها هی مفاد الهیئات، دون الموادّ المقارنة لها.
فتعیّن علیٰ هذا، کون الهیئة دالّةً علیٰ الذات بما أنّها مبدأ الحدث ومصدر الفعل وعلّة ذلک، أو موضوعه ومحلّه. وهذا هو موافق للذوق، وللتبادر، وللبرهان؛ وذلک لأنّ کلّ طبیعة إذا وجدت فی الخارج، فلابدّ وأن تلحقها خصوصیّات کثیرة؛ من الزمان والمکان والعلّة، وأمثال ذلک؛ کالکم والکیف، وکلّیة المقولات، وإذا لوحظ مثلاً الضرب، فإن لوحظ بنفسه فله لفظ یخصّه.
وإذا لوحظ أنّه صدر من الفاعل، فإن وضع اللفظ بحذاء صدوره من الفاعل، فیکون اللفظ موضوعاً للمبدأ بتلک الخصوصیّة، ویلزم کون الوضع المزبور وضعاً شخصیّاً.
وأمّا إذا رأی الواضع الحاجة إلی الوضع النوعیّ، فلابدّ من لحاظ الذات التی هی مصدر ذلک الضرب، فإذا وضع الهیئة لتلک الذات، لاحظاً صدور الفعل منها بنحو الإجمال فی الذات، وعلّیتها للفعل، یکون الوضع نوعیّاً، ویصیر مفاد المشتقّ هی الذات الملحوظة معها المادّة والحدث.
وبهذا التقریب یتمّ المطلوب فی الجوامد، کـ «الزوج، والحرّ، والعبد» فإنّ
کتابتحریرات فی الاصول (ج. ۱)صفحه 401
الاستدلال علیٰ أنّ مفاد الهیئة غیر المادّة ـ لأنّ المشتقّات الاصطلاحیّة ذات وضعین نوعیّین، فلابدّ من کون المدلول مرکّباً، ولایکون مفاد الهیئة وحدها المادّة، ولا أمراً آخر مع المادّة ـ غیر وافٍ فی ذاته، وغیر کافٍ لتمام المطلوب.
فتحصّل : أنّ المأخوذ فی الهیئة هی الذات المبهمة، فإن کانت هی الموضوع له بعنوانه، فیکون الموضوع له عامّاً ، وإن کانت الذات عنواناً مشیراً إلی الخارجیّات، یکون الموضوع له خاصّاً.
ولعمری، إنّ المسألة بناءً علیٰ ما شرحناها، تصیر بدیهیّة، ولا تحتاج إلی البراهین، ولا تنافیها البراهین التی نشیر إلیٰ بعضها إن شاء الله تعالیٰ. وتصیر نتیجة ما حصّلناه: أنّ مفاد الهیئة ومفاد کلمة «الزوج» الذات بما أنّها علّة ومحلّ لتلک المادّة، فإن کانت المادّة من الأفعال المتعدّیة، فتصیر الذات علّة، وإذا کانت من الأفعال اللاّزمة، تصیر الذات موضوعاً ومحلاًّ، وما هو الموضوع له هو الذات المبهمة بجامعیّة العلّة والمحلّ.
أو یقال : بتعدّد الوضع فی الهیئة، کما اختاره فی الماضی والمضارع الوالد المحقّق ـ مدّ ظلّه ؛ لعدم معقولیّة الجامع الصحیح العرفیّ، کما لایخفیٰ، فلیتأمّل.
إن قلت : هل الموضوع له مرکّب أو بسیط؟ وما مرّ یرجع إلی البساطة؛ لأنّ القضیّة حینیّة، وقد مرّ بطلانها.
قلت : ماهو الموضوع له مرکّب من المعنی الاسمیّ ـ وهی الذات ـ والتقیّد الحرفیّ، مع خروج ذات القید عن الموضوع له.
إن قلت : قد مرّ أنّ النسبة لا واقعیّة لها، ولا نفسیّة لوجودها فی الأعیان، والمعانی الحرفیّة معانٍ نسبیّة.
کتابتحریرات فی الاصول (ج. ۱)صفحه 402
قلت : ما منعناه هو الوجود الرابط، غیر الوجود النفسیّ والرابطیّ، وأمّا المعانی الحرفیّة والنسب، فکلّها إن کانت ترجع إلی الرابطیّ ـ کما هو الحقّ عندنا ـ فهو، وإلاّ فلا سبیل إلیها، ففیما نحن فیه لاننکر أنّ المشتقّ مرکّب من الذات والمعنی الحرفیّ، وهو الحاکی عن وجود البیاض، وأمّا نفس «البیاض» فی کلمة «أبیض» فهو مفاد المادّة، وهو مفهوم الحدث مثلاً، ولا شیء آخر وراء مفهوم الذات، والتقیّدِ الحاکی عن وجود العرض فی موضوعه.
إن قیل : فلایبطل بعض الاحتمالات الاُخر؛ لإمکان اختیارهم ذلک، أی یکون مرامهم فی النسبة أنّها الوجود الرابطیّ، لا الرابط الذی لا أساس له.
قلنا : نعم، ولکن بطلان تلک الاحتمالات ، لایحتاج إلیٰ إقامة برهان؛ فإنّ احتمال کون مفاد الهیئة هی النسبة فقط، واحتمالَ کونه المبدأ المنتسب، فی غایة الوهن، ولذلک لایذهب إلی الأوّل أحد. وذهاب مثل صاحب «المقالات» إلی الثانی، لایخرجه عن الوهن؛ بعد شهادة الوجدان علیٰ خلافه.
مع أنّه لو کان یصحّ ما أفاده، فیلزم تکرار النسبة فی الجملة التصدیقیّة؛ فإنّ قوله: «زید ضارب» مشتمل علی النسبة التصدیقیّة، فیصیر معناه «زید ثابت له الضرب المنتسب» أی الضرب الثابت له؛ فإنّ کلمة «ثابت له» مفاد النسبة التصدیقیّة. هذا مع أنّه یأبیٰ عن الحمل؛ ضرورة أنّ المبدأ الملحوظ قبال الذات لایحمل علیها، بخلاف الذات المقیّدة بأمر، فإنّها تحمل.
فهذا القول ـ وهوترکّب المشتقّ من الذات المبهمة محضاً، ومن المعنی الحرفیّ؛ وهو تقیّده بموضوعیّته للمبدأ والحدث، أو علّیته له ـ ممّا لا محیص عنه، فلاتغفل.
کتابتحریرات فی الاصول (ج. ۱)صفحه 403