الثانیة : فی حقیقة الطهارة والنجاسة الشرعیّتین

‏‏الثانیة : فی حقیقة الطهارة والنجاسة الشرعیّتین‏

‏‏ ‏

‏‏اختلفت کلمات الأعلام وآراء الأفاضل فی الـطهارة والـنجاسـة‏‎ ‎‏الـشرعیّتین، فالـمعروف عن الـشیخ الأعظم: أنّها من الـحقائق الـمکنونـة،‏‎ ‎‏کشف عنها الـشرع الأقدس‏‎[1]‎‏.‏

‏‏ولا أظنّ أن یرخّص أحد نسبـة ذلک إلـیٰ مثلـه، ولو کان منـه فهو‏‎ ‎‏الـخطأ الـواضح، کیف؟! وأنّ الـسنخیّـة معتبرة فی الـعالـم بین الأشیاء‏‎ ‎‏الـمرتبط بعضها ببعض، فلو کان الأمر کذلک، یلزم کون الارتداد علّـة لـتحقّق‏‎ ‎‏الـنجاسـة الـواقعیّـة، والإسلام علّةً للطهارة الـکذائیّة، وغسل الـمیّت سبباً‏‎ ‎‏لـزوال عین الـنجاسة الـواقعیّـة، وهکذا ممّا لا یمکن أن یُلتزم بـه. ومجرّد‏‎ ‎‏بعض الـتسویلات الـواهیـة لإثبات الـسنخیّـة، أو إیجاد احتمالـها، غیر کافٍ‏‎ ‎‏کما لا یخفیٰ.‏

‏‏والـمشهور عن جماعـة: أنّها من الاُمور الاعتباریّـة الـجعلیّـة‏‎[2]‎‏، إلاّ أنّ‏‎ ‎‏سبب الـجعل مختلف:‏

‏‏فتارة:‏‏ یجعل الـنجاسـة والـطهارة مستقلّتین.‏

‏‏واُخریٰ:‏‏ تبعاً للحکم، فتکونان منتزعتین من الأوامر والـنواهی الـواردة‏‎ ‎
‏‎

‎‏فی الـشریعـة الـمقدّسـة.‏

‏‏ولذلک تریٰ فی الـمآثیر والأخبار‏‎[3]‎‏ ـ بل والـکتاب ـ جعلها مستقلاًّ،‏‎ ‎‏وتبعاً، من غیر لـزوم إشکال؛ لـما تقرّر فی محلّـه: من إمکان ذلک بلحاظ الأثر‏‎ ‎‏الـمقصود‏‎[4]‎‏.‏

‏‏ففی مثل الأبوال والأرواث والـمنیّ مثلاً وغیرها، تکون مجعولـة‏‎ ‎‏بالـعرض، وفی مثل الـکلب والـخنزیر والـمرتدّ وغیرها، مجعولـة بالـذات.‏‎ ‎‏والـکلّ یرجع إلـیٰ أمر واحد؛ وهو جعلیّتهما کما لا یخفیٰ.‏

‏‏والـمسطور فی کتاب الـوالـد الـمحقّق هو الـتفصیل؛ بأنّ الـقذارات‏‎ ‎‏علیٰ قسمین:‏

‏‏طائفـة منها عرفیّـة لا تحتاج إلـی الـجعل، وهی ما یتنفّر منـه الـطبع.‏

‏‏وطائفـة منها ملتحقـة بها موضوعاً، کنجاسـة الـکفّار والـخمر والـکلب.‏

‏‏وربّما یستثنی الـشرع طائفـة من الـنجاسات الـعرفیّـة، کالـوذی‏‎ ‎‏والـمذی والـنخامـة موضوعاً، أو حکماً‏‎[5]‎‏.‏

‏‏هذا من غیر حاجـة إلـی الـتثبّت بالـجعل فی الاُولیٰ. مع أنّ مناشئ هذه‏‎ ‎‏الـمجعولات ـ بحسب الـسیاسـة ـ مختلفـة، کما هو الـظاهر.‏

‏
‏‎

‎‏أقول:‏‏ هذه الأقوال کلّها غیر قابلـة للتصدیق، وخالـیـة عن الـتحقیق؛‏‎ ‎‏ضرورة أنّ ما هو الـنجس فی الـشرع هو الـبول والـعذرة، سواء تنفّر عنـه‏‎ ‎‏الـطباع، أو رغبت فیها الـنفوس، کما فی الـعراق أحیاناً، فلیس الـتنفّر علّـة،‏‎ ‎‏بل هو ربّما کان نکتـة فی بدو الـتشریع.‏

‏‏ثمّ إنّ ما هو تحت إرادة الـشرع وسلطانـه، لـیس إلاّ الأمر والـنهی، ولو‏‎ ‎‏کان فی روایـة: «‏‏إنّ الشیء الکذائی نجس‏‏» فلا یرید منـه إلاّ انتقال الـناس‏‎ ‎‏منـه إلـیٰ ما هو حکم الـقذر عندهم؛ من الـتجنّب، فلا یجعل الـنجاسـة لا‏‎ ‎‏مستقلاًّ، ولا تبعاً، بل هذه الاستعمالات الـکثیرة، کلّها توسّعات لانتقال‏‎ ‎‏الـنفوس والاُمّـة الإسلامیّـة إلـیٰ ما هو الـمقصود الـجدّی؛ وهو الـتجنّب، من‏‎ ‎‏غیر الـتدخّل فی أمر خارج عن حکومتـه وسلطنتـه.‏

‏‏ومجرّد تنفّر الـطباع الـتابعـة للشریعـة الـمقدّسـة؛ بالـتلقینات‏‎ ‎‏الـکثیرة الـموروثـة عن الآباء والاُمّهات، لا یکفی لـکونها من الـجعل، وإلاّ‏‎ ‎‏یکون هو جعلاً تکوینیّاً، کما لـیس یخفیٰ.‏

‏‏فهذا الـمجعول الـتکوینیّ معلول تلک الـمجاعیل الاعتباریّـة؛ من الأمر‏‎ ‎‏والـنهی، وقد تقرّر منّا: أنّ الاُمور الاعتباریّـة فی کلّ آنٍ وحین، منشأ للمقاصد‏‎ ‎‏الـواقعیّـة الـتکوینیّـة‏‎[6]‎‏، فلا تخلط.‏

‏‏فعلیٰ ما تقرّر، الـنجاسـة والـطهارة مخصوصتان بالـعرف واللّغـة، ولا‏‎ ‎‏یوصفان بالـشرع رأساً، حتّیٰ یقع الـنزاع فی معناهما بعد تسلّم الـتوصیف، بل‏‎ ‎

‏
‏‎

‎‏الـتوصیف علی الـتوسّع والـمجاز بالـوجـه الـمحرّر فی مقرّه‏‎[7]‎‏.‏

‏‏فعلیٰ هذا یقال:‏‏ إنّ ما اشتهر «من أنّ الـنجاسات ـ مثلاً ـ عشرة» معناه أنّ‏‎ ‎‏ما یجب الاجتناب عنـه فی مواقف معلومـة عند الـشرع عشرة، ویکون‏‎ ‎‏الـتوصیف للانتقال إلـی الأحکام الـعقلائیّـة الـمشترکـة مع بعض الأحکام‏‎ ‎‏الـشرعیّـة فی بعض الـنجاسات، کما فی الـمجازات، فقولهم: «الـکافر نجس»‏‎ ‎‏کقولنا: «زید أسد» ولا یکاد ینقضی تعجّبی من غفلـة الـمدقّقین عن هذه‏‎ ‎‏الـمسألـة، فوقعوا فیما لا یعنی!! وإن کان ذلک منهم لـیس بعجیب.‏

‏‏فبالجملة:‏‏ بعد ما عرفت أنّ الـطهارة والـنجاسـة الـعرفیّتین لـیستا‏‎ ‎‏اعتباریّتین محضاً، فهما فی الـشرع لـیستا من الانتزاعیّتین؛ للزوم الاقتصار‏‎ ‎‏علیٰ حال الـتنفّر، وهو واضح الـمنع، ولا من الاعتباریّـة؛ لأنّ الاعتباریّـة بید‏‎ ‎‏الـمعتبرین والآمِر، دون الـشرع؛ فإنّـه خارج عن سلطانـه.‏

‏‏نعم، بعد الأمر والـنهی، ربّما یحصل الـتنفّر الـتکوینیّ، وهو خارج عن‏‎ ‎‏الاعتبار.‏

‏‏ومن هنا یظهر مواقف الاشتباه ـ صدراً وذیلاً ـ فی کلمات الأعلام ‏‏قدس سرهم‏‏.‏

‏‏ومن ذلک الـبیان الـذی علّمناکم، ظهر أنّ مناشئ الأحکام الـسلبیّـة‏‎ ‎‏الـمخصوصـة بالـنجاسات، مختلفـة، إلاّ أنّها نکت، لا علل؛ فالـقاذورات‏‎ ‎‏الـعرفیّـة والـمنفورات الـطبعیّـة، تکون فیها علّـة الاجتناب واضحـة أکلاً‏‎ ‎‏وشرباً، لا علّـة الاجتناب عنها فی الـصلاة والـطواف، ولا عن ملاقیها حتّیٰ فی‏‎ ‎‏الـشرب والأکل؛ علیٰ وجـه لا یکون مع الـجزء الـملاقی جزء منها. وفی‏‎ ‎

‏
‏‎

‎‏الـخمر والـکافر والـمشرک والـمرتدّ وعرق الـجنب عن حرام ـ بناءً علیٰ‏‎ ‎‏نجاسـة الـکلّ ـ تکون علّتها سیاسیّـة، وهکذا الـدم.‏

‏‏وربّما لا یمکن الاطلاع علیٰ جهتها، کما فی الـدم والـمیتـة، وأمثالـهما‏‎ ‎‏ممّا لا یساعد علیـه الـعرف. وربّما تکون الـمضرّات الـنفسانیّـة أو الـمزاجیّـة‏‎ ‎‏والـروحیّـة، مورثـة لـذلک، فلا یتمکّن عقل الإنسان من الاطلاع علی الأحکام‏‎ ‎‏الـصادرة عن بیوت الـوحی والـتنزیل، الـراجعـة إلـی الـربّ الـجلیل.‏

‏‏ ‏

‏‎ ‎

‏‎

‎

• )) فوائد الاُصول 4 : 401 ، منتهی الاُصول 2 : 403 ، مصباح الاُصول 3 : 84 .
• )) فوائد الاُصول 4 : 401 ، الطهارة ، الإمام الخمینی قدس سره 3 : 7 ، مصباح الاُصول 3 : 85 .
• )) وسائل الشیعة 3: 404 ـ 405، کتاب الطهارة، أبواب النجاسات، الباب 8 ، الحدیث 1 و2 و3، و415 ـ 416، الباب 12، الحدیث 2 و6، وسائل الشیعة 18: 443، کتاب الصلح، أبواب الصلح، الباب 3.
• )) تحریرات فی الاُصول 8 : 429 ـ 432 .
• )) الطهارة، الإمام الخمینی قدس سره 3 : 3.
• )) تحریرات فی الاُصول 1 : 275 ـ 276 .
• )) تحریرات فی الاُصول 1 : 144 ـ 146 .