المسألة الثالثة : فی طهارة بول ما یؤکل لحمه

‏‏المسألة الثالثة : فی طهارة بول ما یؤکل لحمه‏

‏‏ ‏

‏‏أبوال ما یؤکل لـحمـه طاهرة عند الأکثر من أصحابنا‏‎[1]‎‏.‏

‏‏وعن ابن الـجنید، والـشیخ فی «الـنهایـة»: الـقول بالـنجاسـة‏‎[2]‎‏،‏‎ ‎‏وإلـیـه مال الأردبیلیّ‏‎[3]‎‏، وتلمیذه صاحب «الـمدارک»‏‎[4]‎‏ وصاحبا «الـدلائل»‏‎ ‎‏و«الـمفاتیح» قالـوا بنجاستها‏‎[5]‎‏، وهکذا «الـحدائق»‏‎[6]‎‏.‏

‏‏ومن الـمخالـفین: أبو حنیفـة، والـشافعیّ، وأبو یوسف، وأبو ثور،‏‎ ‎
‏‎

‎‏وجماعـة آخرون، ذهبوا إلـی الـنجاسـة‏‎[7]‎‏.‏

‏‏ولعلّ هذا الاختلاف ناشئ من الـخلاف فی حرمـة اللّحم وحلّیتـه،‏‎ ‎‏فتصیر الـمسألـة تابعـة لـتلک الـمسألـة.‏

‏‏وبالجملة:‏‏ مذهب الـجمهور والـمعروف منهم نجاستها، فإذن یتمکّن‏‎ ‎‏الـفقیـه من الـحمل علی الـتقیّـة؛ إذا کانت فی أخبارنا روایـة تدلّ علیها،‏‎ ‎‏کما یأتی.‏

‏‏وعلیٰ کلّ حال تبیّن: أنّ الـمسألـة خلافیّـة، فلابدّ من الـنظر فی‏‎ ‎‏أخبارها. والـشهرة بین الـمعاصرین علی الـطهارة، أو الاتفاق منهم علیها، لا‏‎ ‎‏یورث شیئاً.‏

‏‏ثمّ إنّـه لا فرق علیٰ هذا، بین ما لـه الـنفس وغیره.‏

‏‏اعلم:‏‏ أنّ روایات هذه الـمسألـة علیٰ طائفتین:‏

‏‏الاُولیٰ:‏‏ تدلّ علی الـنجاسـة استظهاراً‏‎[8]‎‏.‏

‏‏والثانیة:‏‏ تدلّ علی الـطهارة صراحـة‏‎[9]‎‏.‏

‏‏وقضیّـة الـجمع الـعقلائیّ هو الأخذ بالـثانیـة، وحمل الأوامر علی‏‎ ‎‏الاستحباب؛ وأنّها لـیست نجسـة، ولکنّها یکره استعمالـها فیما یشترط فیـه‏‎ ‎‏الـطهارة.‏

‏
‏‎

‎‏هذا مع أنّ شهرة الأصحاب مع الـثانیـة، والاشتهارَ بین الـعامّـة مع‏‎ ‎‏الاُولیٰ، وکلّ واحد منهما یکفی لـترجیح الـثانیـة علی الاُولیٰ.‏

‏‏مع أنّـه قد ادعی الـوالـد الـمحقّق ـ مدّظلّـه ـ: «أنّ الـسیرة الـقطعیّـة،‏‎ ‎‏والـمراجعـة إلـیٰ کثرة الابتلاء، تعطی الـطهارة بلا شبهـة»‏‎[10]‎‏.‏

‏‏فأقوائیّـة إسناد الـطائفـة الاُولیٰ من الـثانیـة، لا تورث فی الـمسألـة‏‎ ‎‏شیئاً. فعلیٰ جمیع الـتقادیر، لاٰبدّ من الـمراجعـة إلـیٰ روایـة تحکی الـطهارة،‏‎ ‎‏کما لایخفیٰ.‏

‏‏إن قلت:‏‏ معتبر سَماعـة فی «الـوسائل» الـماضی آنفاً، الـناطق‏‎ ‎‏بالـتسویـة بین أبوال الـکلب والـسِنَّوْر والـحمار وأبوال الإنسان‏‎[11]‎‏، صریحـة‏‎ ‎‏فی الـنجاسـة حسب الـفهم الـعرفیّ، فلا جمع عقلائیّ بین الأخبار، فتکون‏‎ ‎‏الـمعارضـة بینها واضحـة.‏

‏‏قلت:‏‏ قد عرفت منّا معنیٰ هذه الـروایـة‏‎[12]‎‏، فلا یثبت ظهورها فی‏‎ ‎‏الـنجاسـة. ولو سلّمنا فقضیّـة الـمعارضـة هو الـترجیح أوّلاً، ثمّ الـسقوط،‏‎ ‎‏والـمرجّح مع الـثانیـة. ولو وصلت الـنوبـة إلـی الـسقوط، فالـمرجع قاعدة‏‎ ‎‏الـطهارة أیضاً.‏

‏‏ثمّ إنّ الـظاهر، أنّ ما یؤکل لـحمـه علیٰ طائفتین:‏

‏‏الاُولیٰ:‏‏ ما خلق لـلأکل، کالـشاة ونحوها.‏

‏
‏‎

‎‏والثانیة: ‏‏ما خلق للرکوب، ویکره أکلـه.‏

‏‏فما کان من الاُولیٰ، لا یکون بولـه مکروهاً بالـمعنی الـذی مرّ تفسیره.‏

‏‏وما کان من الـثانیـة، یکون مکروهاً.‏

‏‏ویدلّ علی الـتفصیل معتبر عبدالـرحمن بن أبی عبداللّٰـه قال: سألت‏‎ ‎‏أبا عبداللّٰـه ‏‏علیه السلام‏‏ عن رجل یمسّـه بعض أبوال الـبهائم، أیغسلـه، أم لا؟‏

‏‏قال: «‏‏یغسل بول الفرس والحمار والبغل، فأمّا الشاة وکلّ ما یؤکل‏‎ ‎‏لحمه، فلا بأس ببوله»‏‎[13]‎‏.‏

‏‏فإنّـه مع الـنظر إلـی الـروایـة الآتیـة، یظهر معناه؛ وهی ما رواها‏‎ ‎‏«الـوسائل» عن الـقاسم بن عروة ـ وهو عندی معتبر ـ عن بکیر بن أعین، عن‏‎ ‎‏زرارة، عن أحدهما: فی أبوال الـدوابّ تصیب الـثوب: فکرهـه.‏

‏‏فقلت: ألیس لـحومها حلالاً؟!‏

‏‏فقال: «‏‏بلیٰ، ولکن لیس ممّا جعله اللّٰه تعالیٰ للأکل»‏‎[14]‎‏.‏

‏‏فإنّـه بالـنظر إلـیٰ هاتین الـروایتین، یظهر حکم هذه الـمسألـة أیضاً؛‏‎ ‎‏من أنّها طاهرة، ولکن لـمکان أنّ لـحومها تکون مکروهـة، تکون أبوالـها‏‎ ‎‏مکروهـة، فکأنّ الأبوال هنا کالأسآر فی تلک الـمسألـة؛ فی کونها بحسب‏‎ ‎‏الـحکم تابعـة اللحم.‏

‏‏وبذلک قال بعض الـعامّـة، کما فی «الـبدایـة» لابن رشد، فإنّـه یحکی‏‎ ‎
‏‎

‎‏عن قوم قالـوا بتبعیّـة الأبوال للّحوم‏‎[15]‎‏، وبـه قال مالـک‏‎[16]‎‏.‏‏ ‏‏إلاّ أنّ الـتفصیل‏‎ ‎‏الـمشار إلـیـه لا یتراءیٰ منهم، بل هو من خصائص مذهبنا ظاهراً، واللّٰـه‏‎ ‎‏الـعالـم.‏

‏‏ثمّ إنّک قد أحطت خبراً فی الـمسألـة الاُولیٰ: بأنّ روایاتها مورد‏‎ ‎‏الـخدشـة فی دلالتها علیٰ نجاسـة أبوال ما لا یؤکل لـحمـه؛ لـظهورها فی أنّ‏‎ ‎‏الـمراد من «‏‏ما لا یؤکل لحمه‏‏» أعمّ من الـمحرّم، والـمطرود عادة، والـمکروه‏‎ ‎‏شرعاً؛ بشهادة ما مضیٰ، فیکون الـدلیل الـوحید الـسیرة الـقطعیّـة والإجماع‏‎ ‎‏الـمسلّم، واللّٰـه الأعلم.‏

‏‏ ‏

‏‎ ‎

‏‎

‎

• )) الخلاف 1: 485، تذکرة الفقهاء 1: 50، العروة الوثقیٰ 1: 55 فصل فی النجاسات، التنقیح فی شرح العروة الوثقیٰ1: 455.
• )) لاحظ مختلف الشیعة : 56 / السطر14، النهایة: 51.
• )) مجمع الفائدة والبرهان 1: 301.
• )) مدارک الأحکام 2: 302 ـ 303، مستمسک العروة الوثقیٰ 1 : 283.
• )) لاحظ مفتاح الکرامة 1: 153 / السطر15، مفاتیح الشرائع 1: 65.
• )) الحدائق الناضرة 5: 21.
• )) المجموع 2: 549 / السطر 1، المغنی، ابن قدامة 1: 732.
• )) وسائل الشیعة 3: 406 و 408 و 409، کتاب الطهارة، أبواب النجاسات، الباب 9، الحدیث1 و8 و11 و13 وذیل الحدیث 5.
• )) وسائل الشیعة 3: 407 ـ 410، کتاب الطهارة، أبواب النجاسات، الباب 9، الحدیث 4 و6 و10 و12 و17.
• )) الطهارة، الإمام الخمینی قدس سره 3: 20.
• )) تهذیب الأحکام 1: 422 / 1336، وسائل الشیعة 3: 406، کتاب الطهارة، أبواب النجاسات، الباب 8، الحدیث 7.
• )) تقدّم فی الصفحة 295 ـ 296 .
• )) تهذیب الأحکام 1: 247 / 711، وسائل الشیعة 3: 409، کتاب الطهارة، أبواب النجاسات، الباب 9، الحدیث 9.
• )) الکافی 3 : 57 / 4 ، وسائل الشیعة 3 : 408 ، کتاب الطهارة ، أبواب النجاسات ، الباب 9، الحدیث7.
• )) بدایة المجتهد 1 : 82 .
• )) نفس المصدر.