المقصد الأوّل موضوع الاُصول وتعریفه مع نبذة من مباحث الألفاظ

توهّم دلالة «المجتهد» و«التامر» علی‏الأعمّ والجواب عنه

إعضال وانحلال : توهّم دلالة «المجتهد» و«التامر» علی الأعمّ والجواب عنه

‏ ‏

‏لاشبهة فی أنّ وضع الهیئات نوعیّ، ولا إشکال فی أنّ الجهة المبحوث عنها‏‎ ‎‏فیها؛ هو أنّ مفادها التصوّری هو التلبّس الفعلیّ، أو التلبّس الأعمّ منه.‏


کتابتحریرات فی الاصول (ج. ۱)صفحه 354
‏فعلیٰ هذا، قد یشکل الأمر فی طائفة من المشتقّات الظاهرة فی الأعمّ عند‏‎ ‎‏الکلّ وهی مثل «المجتهد» و «المهندس» فی أسماء الفاعل، ومثل «البقّال» و‏‎ ‎‏«العطّار» فی صیغة المبالغة، ومثل «المثمر» و «اللابن» بناءً علی إطلاقه علی‏‎ ‎‏الحیوان، ومثل «التامِر» و «اللابن» علیٰ من لا لبن له، ولا تمر له، فإنّ کلّ ذلک یشهد‏‎ ‎‏علی الأعمّی، فیتعیّن القول، ویسقط النزاع.‏

أقول :‏ ولعمری، إنّ هذه اللغات وهذه المشتقّات أوقعت جماعة ـ کما مضیٰ‏‎ ‎‏تفصیله‏‎[1]‎‏ـ فی الالتزام بخروج طائفة من المشتقّات عن محلّ النزاع، ومنها: أسماء‏‎ ‎‏الآلات، بل وطائفة من أسماء الأماکن کـ «المفتاح» و «المکنسة» بل و«الکنیسة»‏‎ ‎‏مثلها وحیث إنّ الالتزام بتعدّد الوضع غیر ممکن، فلابدّ من إخراجها، أو القول‏‎ ‎‏بالأعمّ مطلقاً.‏

‏وأمّا الأعلام ، فذهبوا إلیٰ أنّ الهیئة فی الکلّ، لاتدلّ إلاّ علیٰ ما دلّ علیه هیئة‏‎ ‎‏«الضارب» و «الضرّاب» وهیئة سائر الموادّ، إلاّ أنّ المبادئ والموادّ فی هذه الطوائف‏‎ ‎‏مختلفة‏‎[2]‎‏؛ ضرورة أنّ منها : ما یکون من قبیل أوصاف النفس، کـ «العدالة»‏‎ ‎‏و«الاجتهاد».‏

ومنها:‏ ما یکون من قبیل أوصاف النفس، مع الاشتغال الفعلیّ فی الجملة‏‎ ‎‏بالفعل الذی هو لازم ذلک المبدأ، کـ «العطّار».‏

ومنها :‏ ما یکون المبدأ فیه أمراً اقتضائیّاً، کـ «المفتاح» و «المکنسة» ومن هذا‏‎ ‎‏النسخ «الشمس مشرقة» و «النار محرقة» و «السقمونیا مسهل» و «السمّ قاتل».‏

ومنها :‏ ما یکون المبدأ فیه أمراً استعدادیّاً وتهیّئیاً، کـ «المثمرة» فی الشجرة،‏‎ ‎

کتابتحریرات فی الاصول (ج. ۱)صفحه 355
‏ولعلّه یرجع إلی الاقتضاء أیضاً.‏

‏فعلیٰ هذا، التلبّس والانقضاء المعتبران فی العنوان، بمعنی واحد مفهوماً،‏‎ ‎‏ومختلفان مصداقاً وخارجاً، فإذا زال الاجتهاد، وأعرض عن بیع العطر والبقل‏‎ ‎‏وهکذا، یأتی نزاع المشتقّات، وهکذا إذا زالت القوّة والاقتضاء والاستعداد، یأتی‏‎ ‎‏البحث المزبور. وظاهرهم الاتفاق علی الجواب المشار إلیه، معتقدین انحلال‏‎ ‎‏المعضلة به، کما لایخفیٰ ولایستر.‏

قلت :‏ فیما أفادوه نظر واضح؛ وذلک لأنّ الهیئة فی الکلّ بمعنی واحد،‏‎ ‎‏فلایکون اختلاف المبادئ مستنداً إلیها، فیبقیٰ کونه مستنداً إلی الموادّ، فتکون‏‎ ‎‏«التجارة والنجارة والاجتهاد والبقل والثمرة والقتل والإشراق والإحراق والإسهال»‏‎ ‎‏وغیر ذلک، دالّة علی الحرفة والصناعة والملکة والقوّة والاستعداد.‏

وأنت خبیر :‏ بخلوّها من تلک الدلالة التصوّریة قطعاً؛ ضرورة أنّ «القتل» فی‏‎ ‎‏جملة «السمّ قاتل» و «زید قاتل» بمعنی واحد، و «التجارة» فی جملة «زید‏‎ ‎‏تاجر» و«عمرو اتجر» بمعنی واحد، و«البقل» فی جملة «عندی بقل» وفی «زید‏‎ ‎‏بقّال» بمعنی واحد، ومثله «الاجتهاد» و «الطبابة» وغیر ذلک، فلا دلالة فی شیء‏‎ ‎‏منها إلاّ علیٰ نفس الفعل؛ لو کان ممّا یدلّ علی الفعل مقابل الوصف، أو علی‏‎ ‎‏الوصف کـ «الشجاعة والعدالة والشرافة والبخل» فلایدلّ إلاّ علیٰ أوصاف النفس‏‎ ‎‏مقابل الأفعال.‏

‏فمجرّد تفسیر کلمة «التلبّس والانقضاء» غیر کافٍ فی حلّ ذلک الإعضال،‏‎ ‎‏فلا اختلاف قطعاً بین المبادئ؛ بالمعنی الذیقرّره الأعلام ـ رضوان الله تعالیٰ علیهم ـ .‏

‏نعم، کما اُشیر إلیه آنفاً، تختلف المبادئ حسب اختلاف موضوعاتها؛ فمنها:‏‎ ‎‏ما هی من قبیل أوصاف النفس، ومنها: ما هی من قبیل أفعال البدن.‏

‏ولو کانت الموادّ المذکورة دالّةً علیٰ ما أفاده القوم، کان مجرّد اتخاذ السفر‏‎ ‎

کتابتحریرات فی الاصول (ج. ۱)صفحه 356
‏شغلاً ـ کـ «المکاری» و «الجمّال» ـ کافیاً فی تعیّن التمام مع أنّ الأعلام ‏‏رحمهم الله‏‎ ‎‏التزموا بلزوم السفرة الواحدة الطویلة، أو السفرتین القصیرتین؛ فی انقلاب حکم‏‎ ‎‏القصر إلی التمام‏‎[3]‎‏.‏

‏ومن العجیب توهّم: أنّ کلمة «الاجتهاد» تدلّ علی الملکة!!‏‎[4]‎‏ مع أنّه‏‎ ‎‏اصطلاح حادث غیر راجع إلی اللغة. وفیما ذکروه فی المقام مواضع المناقشة کثیرة،‏‎ ‎‏إلاّ أنّه لا حاجة إلی إیضاحها بعدما تبیّن: أنّ المشکلة والغائلة لاترتفع بذلک.‏

‏والذی یخطر بالبال : أنّ هذه الهیئات بمبادئها التصوّریة، لاتدلّ إلاّ علی ما‏‎ ‎‏تدلّ علیه الاُخریٰ، فإن قلنا بالأعمّ فهی مثلها، وإن قلنا بالأخصّ فهکذا، ولایجوز‏‎ ‎‏للأعمّی التمسّک بالجمل التصدیقیّة لإثبات دعواه؛ لما مضیٰ أنّ الاستظهار من‏‎ ‎‏الجمل، ربّما یکون مستنداً إلیٰ غیر ما هو المقصود؛ وهو هیئة المشتقّ‏‎[5]‎‏.‏

‏وأمّا الأمر فی هذه الجمل الظاهرة فی معنی آخر غیر ما تقتضیه الهیئة‏‎ ‎‏ومادّتها، فهو ذو وجوه واحتمالات: من المجاز، ومن الحقیقة الثانویّة بکثرة‏‎ ‎‏الاستعمال؛ وصیرورتها من قبیل الجوامد وضعاً، ومن کون إجراء تلک المشتقّات‏‎ ‎‏علی الذوات، بلحاظ حال التلبّس.‏

‏ولا ظهور لمطلق القضیّة الحملیّة فی کون إجراء المحمول علی الموضوع؛‏‎ ‎‏بلحاظ تلبّسه الفعلیّ، بل المشتقّات مختلفة: ففی مثل «زید عالم» و «عمرو‏‎ ‎‏ضارب» وهکذا، یکون ظاهرها التلبّس الفعلیّ وإجراؤه بلحاظه، وفی مثل «زید‏‎ ‎‏تاجر ومجتهد وحمّال وجمّال» و «الشجرة مثمرة» و «السمّ قاتل» وهکذا، یکون‏‎ ‎‏ظاهرها إجراء المشتقّ بلحاظ زمن الاتصاف.‏


کتابتحریرات فی الاصول (ج. ۱)صفحه 357
‏ومن کونها محذوفة الجهة، وتکون القضیّة من الموجّهات؛ أی مثلاً «إنّ السمّ‏‎ ‎‏قاتل بالإمکان» و «الشمس مشرقة بالإمکان» من غیر النظر إلی إثبات الفعلیّة.‏‎ ‎‏ولذلک یلزم التفصیل فی القضایا فی النزاع المعروف بین الشیخ والفارابیّ: من اعتبار‏‎ ‎‏الفعلیّة فی أحد الأزمنة الثلاثة، أو اعتبار الإمکان، ولا تکون القضایا علیٰ نسق‏‎ ‎‏واحد؛ ومنهاج فارد‏‎[6]‎‏.‏

‏ومن الحقیقة الادعائیّة بدعویٰ : أنّ الفترات المتوسّطة، غیر مضرّة بعنوان‏‎ ‎‏«التاجر».‏

وغیر خفیّ :‏ أنّ هذه الوجوه لیس کلّ واحد منها، وافیاً بالجواب عن جمیع‏‎ ‎‏الأمثلة، ولکن فی الکلّ غنی وکفایة علیٰ سبیل منع الجمع.‏

فبالجملة :‏ لاربط للمسألة التی نحن فیها ـ وهی البحث عن المفاهیم‏‎ ‎‏التصوّریة ـ بباب القضایا، وما تجد من الاختلاف فی القضایا ظهوراً، فهو لایدلّ‏‎ ‎‏علی مقالة الأعمّی؛ لأنّ وجهة الاستعمال غیر واضحة، فافهم وتدبّر.‏

وبعبارة أوضح :‏ الأعمّی کان یرید إلجاء الأخصّی إلی القول بالأعمّ، مستدلاًّ:‏‎ ‎‏بأنّ تلک القضایا صادقة قطعاً حال عدم التلبّس، وحیث إنّ الوضع واحد فیکون‏‎ ‎‏الکلّ حقیقة فی الأعمّ.‏

‏ولکنّه غفلة عن أنّ ذلک غیر کافٍ؛ ضرورة أنّ الأخصّی وإن کان یقرّ بصدق‏‎ ‎‏تلک القضایا التصدیقیّة، ولکنّه لایذعن بأنّ المفهوم التصوّری من «التاجر»‏‎ ‎‏و«المثمر» هو الأعمّ، فلابدّ من اثبات الأمر الآخر حتّیٰ یتمّ مطلوب الأعمّی؛ وهو‏‎ ‎‏کون الظهور فی الجملة التصدیقیّة، مستنداً إلی الظهور التصوّری فی المشتقّ، وإلاّ‏‎ ‎‏فلو کان ذلک لأمر آخر فلایتمّ مقصوده. وکان الأولیٰ ذکر هذه المعضلة بعنوان‏‎ ‎‏الدلیل للأعمّی، وعلیٰ کلّ لا دلالة له ولا إعضال فیه بعدما عرفت.‏

‎ ‎

کتابتحریرات فی الاصول (ج. ۱)صفحه 358

  • )) تقدّم فی الصفحة 317 .
  • )) نهایة الدرایة 1: 183 ـ 187، نهایة الاُصول: 69، مناهج الوصول 1: 208، محاضرات فی اُصول الفقه 1: 227 ـ 240.
  • )) العروة الوثقی 2 : 131 ، فصل فی صلاة المسافر ، المسألة 44 .
  • )) محاضرات فی اُصول الفقه 1: 237.
  • )) تقدّم فی الصفحة 331 .
  • )) لاحظ الإشارات والتنبیهات 1: 160 ـ 162، الحکمة المتعالیة 1: 42، الهامش 1.