إعضال وانحلال : توهّم دلالة «المجتهد» و«التامر» علی الأعمّ والجواب عنه
لاشبهة فی أنّ وضع الهیئات نوعیّ، ولا إشکال فی أنّ الجهة المبحوث عنها فیها؛ هو أنّ مفادها التصوّری هو التلبّس الفعلیّ، أو التلبّس الأعمّ منه.
کتابتحریرات فی الاصول (ج. ۱)صفحه 354
فعلیٰ هذا، قد یشکل الأمر فی طائفة من المشتقّات الظاهرة فی الأعمّ عند الکلّ وهی مثل «المجتهد» و «المهندس» فی أسماء الفاعل، ومثل «البقّال» و «العطّار» فی صیغة المبالغة، ومثل «المثمر» و «اللابن» بناءً علی إطلاقه علی الحیوان، ومثل «التامِر» و «اللابن» علیٰ من لا لبن له، ولا تمر له، فإنّ کلّ ذلک یشهد علی الأعمّی، فیتعیّن القول، ویسقط النزاع.
أقول : ولعمری، إنّ هذه اللغات وهذه المشتقّات أوقعت جماعة ـ کما مضیٰ تفصیلهـ فی الالتزام بخروج طائفة من المشتقّات عن محلّ النزاع، ومنها: أسماء الآلات، بل وطائفة من أسماء الأماکن کـ «المفتاح» و «المکنسة» بل و«الکنیسة» مثلها وحیث إنّ الالتزام بتعدّد الوضع غیر ممکن، فلابدّ من إخراجها، أو القول بالأعمّ مطلقاً.
وأمّا الأعلام ، فذهبوا إلیٰ أنّ الهیئة فی الکلّ، لاتدلّ إلاّ علیٰ ما دلّ علیه هیئة «الضارب» و «الضرّاب» وهیئة سائر الموادّ، إلاّ أنّ المبادئ والموادّ فی هذه الطوائف مختلفة؛ ضرورة أنّ منها : ما یکون من قبیل أوصاف النفس، کـ «العدالة» و«الاجتهاد».
ومنها: ما یکون من قبیل أوصاف النفس، مع الاشتغال الفعلیّ فی الجملة بالفعل الذی هو لازم ذلک المبدأ، کـ «العطّار».
ومنها : ما یکون المبدأ فیه أمراً اقتضائیّاً، کـ «المفتاح» و «المکنسة» ومن هذا النسخ «الشمس مشرقة» و «النار محرقة» و «السقمونیا مسهل» و «السمّ قاتل».
ومنها : ما یکون المبدأ فیه أمراً استعدادیّاً وتهیّئیاً، کـ «المثمرة» فی الشجرة،
کتابتحریرات فی الاصول (ج. ۱)صفحه 355
ولعلّه یرجع إلی الاقتضاء أیضاً.
فعلیٰ هذا، التلبّس والانقضاء المعتبران فی العنوان، بمعنی واحد مفهوماً، ومختلفان مصداقاً وخارجاً، فإذا زال الاجتهاد، وأعرض عن بیع العطر والبقل وهکذا، یأتی نزاع المشتقّات، وهکذا إذا زالت القوّة والاقتضاء والاستعداد، یأتی البحث المزبور. وظاهرهم الاتفاق علی الجواب المشار إلیه، معتقدین انحلال المعضلة به، کما لایخفیٰ ولایستر.
قلت : فیما أفادوه نظر واضح؛ وذلک لأنّ الهیئة فی الکلّ بمعنی واحد، فلایکون اختلاف المبادئ مستنداً إلیها، فیبقیٰ کونه مستنداً إلی الموادّ، فتکون «التجارة والنجارة والاجتهاد والبقل والثمرة والقتل والإشراق والإحراق والإسهال» وغیر ذلک، دالّة علی الحرفة والصناعة والملکة والقوّة والاستعداد.
وأنت خبیر : بخلوّها من تلک الدلالة التصوّریة قطعاً؛ ضرورة أنّ «القتل» فی جملة «السمّ قاتل» و «زید قاتل» بمعنی واحد، و «التجارة» فی جملة «زید تاجر» و«عمرو اتجر» بمعنی واحد، و«البقل» فی جملة «عندی بقل» وفی «زید بقّال» بمعنی واحد، ومثله «الاجتهاد» و «الطبابة» وغیر ذلک، فلا دلالة فی شیء منها إلاّ علیٰ نفس الفعل؛ لو کان ممّا یدلّ علی الفعل مقابل الوصف، أو علی الوصف کـ «الشجاعة والعدالة والشرافة والبخل» فلایدلّ إلاّ علیٰ أوصاف النفس مقابل الأفعال.
فمجرّد تفسیر کلمة «التلبّس والانقضاء» غیر کافٍ فی حلّ ذلک الإعضال، فلا اختلاف قطعاً بین المبادئ؛ بالمعنی الذیقرّره الأعلام ـ رضوان الله تعالیٰ علیهم ـ .
نعم، کما اُشیر إلیه آنفاً، تختلف المبادئ حسب اختلاف موضوعاتها؛ فمنها: ما هی من قبیل أوصاف النفس، ومنها: ما هی من قبیل أفعال البدن.
ولو کانت الموادّ المذکورة دالّةً علیٰ ما أفاده القوم، کان مجرّد اتخاذ السفر
کتابتحریرات فی الاصول (ج. ۱)صفحه 356
شغلاً ـ کـ «المکاری» و «الجمّال» ـ کافیاً فی تعیّن التمام مع أنّ الأعلام رحمهم الله التزموا بلزوم السفرة الواحدة الطویلة، أو السفرتین القصیرتین؛ فی انقلاب حکم القصر إلی التمام.
ومن العجیب توهّم: أنّ کلمة «الاجتهاد» تدلّ علی الملکة!! مع أنّه اصطلاح حادث غیر راجع إلی اللغة. وفیما ذکروه فی المقام مواضع المناقشة کثیرة، إلاّ أنّه لا حاجة إلی إیضاحها بعدما تبیّن: أنّ المشکلة والغائلة لاترتفع بذلک.
والذی یخطر بالبال : أنّ هذه الهیئات بمبادئها التصوّریة، لاتدلّ إلاّ علی ما تدلّ علیه الاُخریٰ، فإن قلنا بالأعمّ فهی مثلها، وإن قلنا بالأخصّ فهکذا، ولایجوز للأعمّی التمسّک بالجمل التصدیقیّة لإثبات دعواه؛ لما مضیٰ أنّ الاستظهار من الجمل، ربّما یکون مستنداً إلیٰ غیر ما هو المقصود؛ وهو هیئة المشتقّ.
وأمّا الأمر فی هذه الجمل الظاهرة فی معنی آخر غیر ما تقتضیه الهیئة ومادّتها، فهو ذو وجوه واحتمالات: من المجاز، ومن الحقیقة الثانویّة بکثرة الاستعمال؛ وصیرورتها من قبیل الجوامد وضعاً، ومن کون إجراء تلک المشتقّات علی الذوات، بلحاظ حال التلبّس.
ولا ظهور لمطلق القضیّة الحملیّة فی کون إجراء المحمول علی الموضوع؛ بلحاظ تلبّسه الفعلیّ، بل المشتقّات مختلفة: ففی مثل «زید عالم» و «عمرو ضارب» وهکذا، یکون ظاهرها التلبّس الفعلیّ وإجراؤه بلحاظه، وفی مثل «زید تاجر ومجتهد وحمّال وجمّال» و «الشجرة مثمرة» و «السمّ قاتل» وهکذا، یکون ظاهرها إجراء المشتقّ بلحاظ زمن الاتصاف.
کتابتحریرات فی الاصول (ج. ۱)صفحه 357
ومن کونها محذوفة الجهة، وتکون القضیّة من الموجّهات؛ أی مثلاً «إنّ السمّ قاتل بالإمکان» و «الشمس مشرقة بالإمکان» من غیر النظر إلی إثبات الفعلیّة. ولذلک یلزم التفصیل فی القضایا فی النزاع المعروف بین الشیخ والفارابیّ: من اعتبار الفعلیّة فی أحد الأزمنة الثلاثة، أو اعتبار الإمکان، ولا تکون القضایا علیٰ نسق واحد؛ ومنهاج فارد.
ومن الحقیقة الادعائیّة بدعویٰ : أنّ الفترات المتوسّطة، غیر مضرّة بعنوان «التاجر».
وغیر خفیّ : أنّ هذه الوجوه لیس کلّ واحد منها، وافیاً بالجواب عن جمیع الأمثلة، ولکن فی الکلّ غنی وکفایة علیٰ سبیل منع الجمع.
فبالجملة : لاربط للمسألة التی نحن فیها ـ وهی البحث عن المفاهیم التصوّریة ـ بباب القضایا، وما تجد من الاختلاف فی القضایا ظهوراً، فهو لایدلّ علی مقالة الأعمّی؛ لأنّ وجهة الاستعمال غیر واضحة، فافهم وتدبّر.
وبعبارة أوضح : الأعمّی کان یرید إلجاء الأخصّی إلی القول بالأعمّ، مستدلاًّ: بأنّ تلک القضایا صادقة قطعاً حال عدم التلبّس، وحیث إنّ الوضع واحد فیکون الکلّ حقیقة فی الأعمّ.
ولکنّه غفلة عن أنّ ذلک غیر کافٍ؛ ضرورة أنّ الأخصّی وإن کان یقرّ بصدق تلک القضایا التصدیقیّة، ولکنّه لایذعن بأنّ المفهوم التصوّری من «التاجر» و«المثمر» هو الأعمّ، فلابدّ من اثبات الأمر الآخر حتّیٰ یتمّ مطلوب الأعمّی؛ وهو کون الظهور فی الجملة التصدیقیّة، مستنداً إلی الظهور التصوّری فی المشتقّ، وإلاّ فلو کان ذلک لأمر آخر فلایتمّ مقصوده. وکان الأولیٰ ذکر هذه المعضلة بعنوان الدلیل للأعمّی، وعلیٰ کلّ لا دلالة له ولا إعضال فیه بعدما عرفت.
کتابتحریرات فی الاصول (ج. ۱)صفحه 358