الأمر الثالث : حول المراد من کلمة «الحال» فی العنوان
قد مضیٰ تفسیر المراد من کلمة «فی الحال» فی عنوان المسألة، وأنّ النزاع المعقول هو أنّ الأخصّی یدّعی: أنّ الموضوع له حال التلبّس فعلاً؛ من غیر النظر إلی مفهوم الزمان وأخذه فی الموضوع له، والأعمّی ینکره علیه؛ بدعویٰ عدم الخصوصیّة فی ناحیة الموضوع له.
وقد یتوهّم : أنّ المراد من «الحال» هو حال النطق ، أو زمان الحال مقابل الماضی والاستقبال.
وأنت خبیر بما فیه ؛ ضرورة أنّ وضع الهیئات نوعیّ، ولو کان الأمر کما قیل، یلزم تجوّز استعمال المشتقّات فی المجرّدات الفارغة عن الزمان، ولاریب أنّ قولنا: «زید کان بالأمس قائماً» أو «یکون فی الآتی عالماً» صحیح وحقیقة، مع أن لازم التوهّم المجازیّة، بل والغلط.
ومثل هذا التوهّم دعویٰ: أنّ المراد من «الحال» حال الجری والإطلاق، ضرورة أنّ الأخصّی لاینکر صحّة استعمال المشتقّات؛ بلحاظ تلک الحال فی جمیع
کتابتحریرات فی الاصول (ج. ۱)صفحه 349
الأزمنة لو أمکن، ولایدّعی المجازیّة أو الغلطیّة فی المثال السابق، فلا منع من قبله عن إجراء المشتقّ علی المتلبّس به سابقاً؛ بلحاظ زمان تلبّسه الذی مضیٰ وانقضیٰ.
ولو رجع القول : بأنّ المراد من «الحال» حال النسبة الحکمیّة، إلیٰ ما ذکرناهـ وهو المعنی المرادف لکلمة «فعلاً» و «بالفعل» ـ فهو، وإلاّ فلا یتعقّل معنی آخر لها.
فبالجملة : لاتنافی بین کون المراد من «الحال» هو حال التلبّس بالمبدأ فعلاً، وبین عدم دلالة الأسماء الاشتقاقیّة علیٰ زمان الحال؛ لأنّ تلازم الفعلیّة مع زمان الحال قهراً وبالطبع، غیر اعتبار دخوله بمفهومه فی الموضوع له.
وقد یشکل : بأنّ نزاع المشتقّ متقوّم بزمان الحال والماضی، ولو خلا عنه علی الإطلاق فلا معنیٰ للنزاع.
وفیه ما لا یخفیٰ؛ فإنّ الأخصّی لیس فی مقام إثبات حدود الموضوع له، بل هو فی مقام إنکار کفایة التلبّس المطلق لصحّة الإطلاق، وإنکار أخذ الزمان فی الموضوع له.
وربّما یخطر بالبال؛ أن إلغاء قید الزمان عن الموضوع للهیئات، یستلزم تعیّن قول الأعمّی؛ لأنّ تخلیة زمان الحال عن الموضوع لها، یلازم صحّة إطلاق المشتقّ علی المتلبّس فی کلّ وقت بالضرورة، فلا محیص عن الالتزام بأنّ کلمة «فعلاً» مقابل کلمة «الانقضاء» ولیس هذا إلاّ أخذ مفهوم زمان الحال فی الموضوع لها.
وفیه : أنّه فرق بین القیود المأخوذة فی الکلام بعنوان المعرّف، وبین المأخوذة فیه بعنوان القید والتقیید، وفیما نحن فیه یکون الأمر من القسم الأوّل؛ ضرورة أنّ الأخصّی یرید دعویٰ: أنّ الموضوع لها هی الذات المتّصفة بأن یکون
کتابتحریرات فی الاصول (ج. ۱)صفحه 350
الوصف ثابتاً لها، والأعمّی یرید دعویٰ: أنّه الأعمّ منها ومن الذات الفاقدة التی کانت متّصفة، فافهم وتدبّر.
ویظهر من المحقّق الوالد ـ مدّظلّه إثبات امتناع کون المراد من «الحال» سائر الأزمنة ـ وهو زمان الجری والإطلاق، وزمان النطق والتکلّم، وزمان النسبة الحکمیّة ـ لأنّ البحث هنا لغویّ؛ وفی مرحلة تصوّریة، وهذه الاُمور متقوّمة بالاستعمال الذی هو فی مرحلة تصدیقیّة، فلایعقل أخذها فی تلک المفاهیم حال الوضع.
وأنت خبیر : بأنّه یتمّ علی القول: بأنّ الموضوع له خاصّ، وأمّا علی القول: بأنّ الموضوع له عامّ، فلابأس بأخذ المفاهیم الاسمیّة من المذکورات فی الموضوع له، کما هو خیرة جمع. وهکذا لایتمّ علیٰ مقالة شیخه العلاّمة الحائریّ: من إنکار الدلالة التصوّریة للألفاظ إلاّ حین الاستعمال التصدیقیّ، فلاتخلط.
فتحصّل : أنّ إلغاء قید الزمان، لایستلزم کون الموضوع له عامّاً؛ لأنّ العمومیّة والخصوصیّة الملحوظة هی التلبّس الفعلیّ والأعمّ، لا التلبّس فی زمان الحال، أو فی الزمانین، ولا حاجة إلی إثبات امتناع أخذ تلک العناوین فی الموضوع له، بل هذا هو الأمر البدیهیّ غیر المحتاج إلی ذلک.
ولعمری، إنّ الذی هو الأقرب من اُفق الصواب: أنّ مراد الباحثین الأقدمین من «الحال» هو زمانه، ولکن نزاع المشتقّ لایتقوّم بذلک کما عرفت، فالأولیٰ تبدیل کلمة «فی الحال» إلیٰ کلمة «بالفعل» أو «فعلاً».
کتابتحریرات فی الاصول (ج. ۱)صفحه 351
إن قلت : بناءً علیه یلزم کون النزاع فی المشتقّ من الأمر المبتذل الرکیک، وقد فررتم من ذلک.
قلت : کلاّ؛ فإنّ اختلافهم یرجع إلیٰ أنّ الهیئة مثلاً، موضوعة للموصوف بالمبدأ بالفعل؛ بحیث تدلّ علی التلبّس الفعلیّ، أو لا تدلّ إلاّ علی أصل الاتصاف بالمبدأ، وأمّا الفعلیّة وغیرها فتعلم من الدوالّ الاُخر، فلو ورد «أکرم العالم» أو «جئنی بعالم» فلا دلالة للهیئة علی ذلک، نعم ربّما یدلّ القرائن المتّصلة علی الأخصّ، وهذا خارج عمّا نحن بصدده.
فما توهّمه بعض : من أنّ الجمل الاسمیّة ظاهرة فی التلبّس الفعلیّ، لعلّه مربوط بهیئة الجملة، أو بأمر آخر: من الاستعمال الکثیر، وغیر ذلک، فلاینبغی الخلط بین الظهور الوضعیّ، والاستظهار الإطلاقیّ، فربّما یدّعی الأعمّی ما یدّعیه الأخصّی؛ للاستظهار الإطلاقیّ من الجمل الاسمیّة، أو من العناوین الجاریة علی الذوات فی مثل «أکرم العالم» و «جئنی بعالم» فإنّ کلّ ذلک لقرائن خارجیّة، لالدلالة الهیئة التصوّریة.
وإن شئت قلت : النزاع فی المشتقّ راجع إلیٰ أنّ الهیئة، هل هی موضوعة للدلالة علی أنّ الجری بلحاظ حال التلبّس الفعلیّ، أو الأعمّ؟ وهذا هو مرادنا من کلمة «بالفعل» وأمّا ما أراده غیرنا منها، فیرجع إلی النزاع الذی استظهرنا سقوطه؛ وعدمَ إمکان التزام أحد من العقلاء بمثله، کما مرّ.
وبعبارة واضحة : إذا قیل: «زید ضارب» فقضیّة هیئة الجملة، هو نحو اتحاد بین الموضوع والمحمول، وکلمة «زید» تدلّ علی المسمّی المعلوم، و «الضرب» علی الحدث الواضح، وهیئة المحمول ـ علی الأخصّی ـ تدلّ علی أنّ الجری بلحاظ
کتابتحریرات فی الاصول (ج. ۱)صفحه 352
تلبّسه الفعلیّ؛ أی أنّ زیداً فعلاً ضارب، وصدر منه الضرب بالفعل؛ وفی الحال.
وعلی الأعمّی إنّها لا تدلّ إلاّ علیٰ صدور الضرب منه؛ واتصافه به، وأمّا صدوره عنه فعلاً فیحتاج إلیٰ دلیل آخر، کما أنّ صدوره عنه فی الزمان الماضی أو الاستقبال یحتاج إلی کلمة تدلّ علیه ، فلاتغفل.
وعلیٰ هذا، لابدّ من تغییر عنوان المسألة؛ حتّیٰ لایکون إجمال فی محلّ البحث، ومصبّ النفی والإثبات، فنقول فی عنوان البحث : «هل العناوین الجاریة علی الذوات، موضوعة للدلالة علی أنّ الجری کان بلحاظ تلبّسها بمبادئها فعلاً، أو هی موضوعة للدلالة علی أصل التلبّس بها؛ وتکون جاریة علیها لذلک؟».
وغیر خفیّ : أنّ ما صنعه الأصحاب من جعل محطّ البحث الحقیقة والمجاز، غیر صحیح؛ لأنّ الحقیقة والمجاز من الأوصاف الطارئة علی الاستعمال، والبحث هنا حول الموضوع له وحدوده تصوّراً ولحاظاً، فلاتخلط.
ومن هنا یظهر ما أسمعناکم: من أنّ نزاع المشتقّ علیٰ ما تحرّر عندهم، أمر غیر معقول؛ إلاّ علیٰ بعض الوجوه التی أشرنا إلیها، علی إشکال فیها، وأمّا النزاع الذی تصدّینا لتحریره، فهو أمر معقول وممکن، وقریب جدّاً عقلاً ولغة کما لایخفیٰ؛ ضرورة عدم لزوم التزام أحد من العقلاء: بأنّ هذه العناوین قابلة للحمل علیٰ کلّ شیء من غیر لزوم المرجّح الواقعیّ، ولایلزم التزامه بأنّ الهیئة موضوعة، وتکون دالّة مع قطع النظر عن دلالة المادّة؛ بحیث إذا قیل: «زید متحرّک» تکون الهیئة دالّة علیٰ أنّ زیداً له الحرکة، والحرکة التی هی المادّة لاتدلّ علی شیء أو تدلّ علی الأعمّ من التحرّک والسکون.
کتابتحریرات فی الاصول (ج. ۱)صفحه 353
إن قیل : لو کان مفاد الهیئة عند الأخصّی، الدلالةَ علی أنّ الذات موصوفة بالفعل ـ بمعنیٰ أنّ الجری کان بلحاظ اتصافها الفعلیّ ـ یکون ذلک من الإفادات التصدیقیّة، لا التصوّریة.
قلنا : مفاد الهیئة التصدیقیّة فی الجملة التامّة: هو أنّ الذات الکذائیة زید، ومفاد هیئة المشتقّ: هو أنّ الجری بلحاظ اتصافه الفعلیّ، لا أصل الاتصاف، وهذا هو المعنی التصوّری.
إن قلت : هذا هو الالتزام بخصوص الموضوع له فی الهیئات الاشتقاقیّة، وعند ذلک لایمکن تصویر الجامع للأعمّی أیضاً؛ إلاّ علی التقریب الذی مضیٰ تفصیله فی المقدّمة.
قلت : کلاّ؛ فإنّ کونها موضوعة للدلالة علیٰ کذا، لایلازم کون الموضوع له خاصّاً، وهذا نظیر قولهم: «إنّ الأسد موضوع للدلالة علی الحیوان المفترس» فربّما ضیق المجال یورث بعض التوهّمات .
وبعبارة اُخریٰ : إنّها موضوعة للدلالة، إلاّ أنّ عند الاستعمال یکون المستعمل فیه ـ بتبع الموضوع له ـ عامّاً، فلا تذهل.
إیقاظ : کأنّ من الخارج عن عنوان البحث علی المشهور المعروف، مثل «البغدادیّ» و «العراقیّ» و «النجفیّ» و «القمّی» مع أنّ الوضع نوعیّ فی النسبة، وعلیٰ ما سلکناه فی هذا المضمار، اندراجه فی محطّ البحث واضح.
کتابتحریرات فی الاصول (ج. ۱)صفحه 354