المقصد الأوّل موضوع الاُصول وتعریفه مع نبذة من مباحث الألفاظ

الأمر الثالث : حول المراد من کلمة «الحال» فی العنوان

الأمر الثالث : حول المراد من کلمة «الحال» فی العنوان

‏ ‏

‏قد مضیٰ تفسیر المراد من کلمة «فی الحال» فی عنوان المسألة، وأنّ النزاع‏‎ ‎‏المعقول هو أنّ الأخصّی یدّعی: أنّ الموضوع له حال التلبّس فعلاً؛ من غیر النظر‏‎ ‎‏إلی مفهوم الزمان وأخذه فی الموضوع له، والأعمّی ینکره علیه؛ بدعویٰ عدم‏‎ ‎‏الخصوصیّة فی ناحیة الموضوع له‏‎[1]‎‏.‏

وقد یتوهّم :‏ أنّ المراد من «الحال» هو حال النطق ، أو زمان الحال مقابل‏‎ ‎‏الماضی والاستقبال‏‎[2]‎‏.‏

‏وأنت خبیر بما فیه ؛ ضرورة أنّ وضع الهیئات نوعیّ، ولو کان الأمر کما قیل،‏‎ ‎‏یلزم تجوّز استعمال المشتقّات فی المجرّدات الفارغة عن الزمان، ولاریب أنّ قولنا:‏‎ ‎‏«زید کان بالأمس قائماً» أو «یکون فی الآتی عالماً» صحیح وحقیقة، مع أن لازم‏‎ ‎‏التوهّم المجازیّة، بل والغلط.‏

‏ومثل هذا التوهّم دعویٰ: أنّ المراد من «الحال» حال الجری والإطلاق‏‎[3]‎‏،‏‎ ‎‏ضرورة أنّ الأخصّی لاینکر صحّة استعمال المشتقّات؛ بلحاظ تلک الحال فی جمیع‏

کتابتحریرات فی الاصول (ج. ۱)صفحه 349
‏الأزمنة لو أمکن، ولایدّعی المجازیّة أو الغلطیّة فی المثال السابق، فلا منع من قبله‏‎ ‎‏عن إجراء المشتقّ علی المتلبّس به سابقاً؛ بلحاظ زمان تلبّسه الذی مضیٰ وانقضیٰ.‏

‏ولو رجع القول : بأنّ المراد من «الحال» حال النسبة الحکمیّة‏‎[4]‎‏، إلیٰ ما‏‎ ‎‏ذکرناه‏‎[5]‎‏ـ وهو المعنی المرادف لکلمة «فعلاً» و «بالفعل» ـ فهو، وإلاّ فلا یتعقّل‏‎ ‎‏معنی آخر لها.‏

فبالجملة :‏ لاتنافی بین کون المراد من «الحال» هو حال التلبّس بالمبدأ فعلاً،‏‎ ‎‏وبین عدم دلالة الأسماء الاشتقاقیّة علیٰ زمان الحال؛ لأنّ تلازم الفعلیّة مع زمان‏‎ ‎‏الحال قهراً وبالطبع، غیر اعتبار دخوله بمفهومه فی الموضوع له.‏

وقد یشکل :‏ بأنّ نزاع المشتقّ متقوّم بزمان الحال والماضی، ولو خلا عنه‏‎ ‎‏علی الإطلاق فلا معنیٰ للنزاع.‏

‏وفیه ما لا یخفیٰ؛ فإنّ الأخصّی لیس فی مقام إثبات حدود الموضوع له، بل‏‎ ‎‏هو فی مقام إنکار کفایة التلبّس المطلق لصحّة الإطلاق، وإنکار أخذ الزمان فی‏‎ ‎‏الموضوع له.‏

‏وربّما یخطر بالبال؛ أن إلغاء قید الزمان عن الموضوع للهیئات، یستلزم تعیّن‏‎ ‎‏قول الأعمّی؛ لأنّ تخلیة زمان الحال عن الموضوع لها، یلازم صحّة إطلاق المشتقّ‏‎ ‎‏علی المتلبّس فی کلّ وقت بالضرورة، فلا محیص عن الالتزام بأنّ کلمة «فعلاً»‏‎ ‎‏مقابل کلمة «الانقضاء» ولیس هذا إلاّ أخذ مفهوم زمان الحال فی الموضوع لها.‏

وفیه :‏ أنّه فرق بین القیود المأخوذة فی الکلام بعنوان المعرّف، وبین‏‎ ‎‏المأخوذة فیه بعنوان القید والتقیید، وفیما نحن فیه یکون الأمر من القسم الأوّل؛‏‎ ‎‏ضرورة أنّ الأخصّی یرید دعویٰ: أنّ الموضوع لها هی الذات المتّصفة بأن یکون‏

کتابتحریرات فی الاصول (ج. ۱)صفحه 350
‏الوصف ثابتاً لها، والأعمّی یرید دعویٰ: أنّه الأعمّ منها ومن الذات الفاقدة التی کانت‏‎ ‎‏متّصفة، فافهم وتدبّر.‏

‏ویظهر من المحقّق الوالد ـ مدّظلّه إثبات امتناع کون المراد من «الحال» سائر‏‎ ‎‏الأزمنة ـ وهو زمان الجری والإطلاق، وزمان النطق والتکلّم، وزمان النسبة‏‎ ‎‏الحکمیّة ـ لأنّ البحث هنا لغویّ؛ وفی مرحلة تصوّریة، وهذه الاُمور متقوّمة‏‎ ‎‏بالاستعمال الذی هو فی مرحلة تصدیقیّة، فلایعقل أخذها فی تلک المفاهیم حال‏‎ ‎‏الوضع‏‎[6]‎‏.‏

وأنت خبیر :‏ بأنّه یتمّ علی القول: بأنّ الموضوع له خاصّ‏‎[7]‎‏، وأمّا علی القول:‏‎ ‎‏بأنّ الموضوع له عامّ، فلابأس بأخذ المفاهیم الاسمیّة من المذکورات فی الموضوع‏‎ ‎‏له، کما هو خیرة جمع‏‎[8]‎‏. وهکذا لایتمّ علیٰ مقالة شیخه العلاّمة الحائریّ: من إنکار‏‎ ‎‏الدلالة التصوّریة للألفاظ إلاّ حین الاستعمال التصدیقیّ‏‎[9]‎‏، فلاتخلط.‏

فتحصّل :‏ أنّ إلغاء قید الزمان، لایستلزم کون الموضوع له عامّاً؛ لأنّ العمومیّة‏‎ ‎‏والخصوصیّة الملحوظة هی التلبّس الفعلیّ والأعمّ، لا التلبّس فی زمان الحال، أو‏‎ ‎‏فی الزمانین، ولا حاجة إلی إثبات امتناع أخذ تلک العناوین فی الموضوع له، بل‏‎ ‎‏هذا هو الأمر البدیهیّ غیر المحتاج إلی ذلک.‏

‏ولعمری، إنّ الذی هو الأقرب من اُفق الصواب: أنّ مراد الباحثین الأقدمین‏‎ ‎‏من «الحال» هو زمانه، ولکن نزاع المشتقّ لایتقوّم بذلک کما عرفت، فالأولیٰ تبدیل‏‎ ‎‏کلمة «فی الحال» إلیٰ کلمة «بالفعل» أو «فعلاً».‏


کتابتحریرات فی الاصول (ج. ۱)صفحه 351
إن قلت :‏ بناءً علیه یلزم کون النزاع فی المشتقّ من الأمر المبتذل الرکیک، وقد‏‎ ‎‏فررتم من ذلک.‏

قلت :‏ کلاّ؛ فإنّ اختلافهم یرجع إلیٰ أنّ الهیئة مثلاً، موضوعة للموصوف‏‎ ‎‏بالمبدأ بالفعل؛ بحیث تدلّ علی التلبّس الفعلیّ، أو لا تدلّ إلاّ علی أصل الاتصاف‏‎ ‎‏بالمبدأ، وأمّا الفعلیّة وغیرها فتعلم من الدوالّ الاُخر، فلو ورد «أکرم العالم» أو‏‎ ‎‏«جئنی بعالم» فلا دلالة للهیئة علی ذلک، نعم ربّما یدلّ القرائن المتّصلة علی‏‎ ‎‏الأخصّ، وهذا خارج عمّا نحن بصدده.‏

‏فما توهّمه بعض : من أنّ الجمل الاسمیّة ظاهرة فی التلبّس الفعلیّ، لعلّه‏‎ ‎‏مربوط بهیئة الجملة، أو بأمر آخر: من الاستعمال الکثیر، وغیر ذلک، فلاینبغی‏‎ ‎‏الخلط بین الظهور الوضعیّ، والاستظهار الإطلاقیّ، فربّما یدّعی الأعمّی ما یدّعیه‏‎ ‎‏الأخصّی؛ للاستظهار الإطلاقیّ من الجمل الاسمیّة، أو من العناوین الجاریة علی‏‎ ‎‏الذوات فی مثل «أکرم العالم» و «جئنی بعالم» فإنّ کلّ ذلک لقرائن خارجیّة،‏‎ ‎‏لالدلالة الهیئة التصوّریة.‏

وإن شئت قلت :‏ النزاع فی المشتقّ راجع إلیٰ أنّ الهیئة، هل هی موضوعة‏‎ ‎‏للدلالة علی أنّ الجری بلحاظ حال التلبّس الفعلیّ، أو الأعمّ؟ وهذا هو مرادنا من‏‎ ‎‏کلمة «بالفعل» وأمّا ما أراده غیرنا منها، فیرجع إلی النزاع الذی استظهرنا سقوطه‏‎[10]‎‏؛‏‎ ‎‏وعدمَ إمکان التزام أحد من العقلاء بمثله، کما مرّ.‏

وبعبارة واضحة :‏ إذا قیل: «زید ضارب» فقضیّة هیئة الجملة، هو نحو اتحاد‏‎ ‎‏بین الموضوع والمحمول، وکلمة «زید» تدلّ علی المسمّی المعلوم، و «الضرب»‏‎ ‎‏علی الحدث الواضح، وهیئة المحمول ـ علی الأخصّی ـ تدلّ علی أنّ الجری بلحاظ‏‎ ‎

کتابتحریرات فی الاصول (ج. ۱)صفحه 352
‏تلبّسه الفعلیّ؛ أی أنّ زیداً فعلاً ضارب، وصدر منه الضرب بالفعل؛ وفی الحال.‏

‏وعلی الأعمّی إنّها لا تدلّ إلاّ علیٰ صدور الضرب منه؛ واتصافه به، وأمّا‏‎ ‎‏صدوره عنه فعلاً فیحتاج إلیٰ دلیل آخر، کما أنّ صدوره عنه فی الزمان الماضی أو‏‎ ‎‏الاستقبال یحتاج إلی کلمة تدلّ علیه ، فلاتغفل.‏

‏وعلیٰ هذا، لابدّ من تغییر عنوان المسألة؛ حتّیٰ لایکون إجمال فی محلّ‏‎ ‎‏البحث، ومصبّ النفی والإثبات، فنقول فی عنوان البحث : «هل العناوین الجاریة‏‎ ‎‏علی الذوات، موضوعة للدلالة علی أنّ الجری کان بلحاظ تلبّسها بمبادئها فعلاً، أو‏‎ ‎‏هی موضوعة للدلالة علی أصل التلبّس بها؛ وتکون جاریة علیها لذلک؟».‏

وغیر خفیّ :‏ أنّ ما صنعه الأصحاب من جعل محطّ البحث الحقیقة‏‎ ‎‏والمجاز‏‎[11]‎‏، غیر صحیح؛ لأنّ الحقیقة والمجاز من الأوصاف الطارئة علی‏‎ ‎‏الاستعمال، والبحث هنا حول الموضوع له وحدوده تصوّراً ولحاظاً، فلاتخلط.‏

‏ومن هنا یظهر ما أسمعناکم: من أنّ نزاع المشتقّ علیٰ ما تحرّر عندهم، أمر‏‎ ‎‏غیر معقول؛ إلاّ علیٰ بعض الوجوه التی أشرنا إلیها‏‎[12]‎‏، علی إشکال فیها، وأمّا النزاع‏‎ ‎‏الذی تصدّینا لتحریره، فهو أمر معقول وممکن، وقریب جدّاً عقلاً ولغة کما لایخفیٰ؛‏‎ ‎‏ضرورة عدم لزوم التزام أحد من العقلاء: بأنّ هذه العناوین قابلة للحمل علیٰ کلّ‏‎ ‎‏شیء من غیر لزوم المرجّح الواقعیّ، ولایلزم التزامه بأنّ الهیئة موضوعة، وتکون‏‎ ‎‏دالّة مع قطع النظر عن دلالة المادّة؛ بحیث إذا قیل: «زید متحرّک» تکون الهیئة دالّة‏‎ ‎‏علیٰ أنّ زیداً له الحرکة، والحرکة التی هی المادّة لاتدلّ علی شیء أو تدلّ علی‏‎ ‎‏الأعمّ من التحرّک والسکون.‏


کتابتحریرات فی الاصول (ج. ۱)صفحه 353
إن قیل :‏ لو کان مفاد الهیئة عند الأخصّی، الدلالةَ علی أنّ الذات موصوفة‏‎ ‎‏بالفعل ـ بمعنیٰ أنّ الجری کان بلحاظ اتصافها الفعلیّ ـ یکون ذلک من الإفادات‏‎ ‎‏التصدیقیّة، لا التصوّریة.‏

قلنا :‏ مفاد الهیئة التصدیقیّة فی الجملة التامّة: هو أنّ الذات الکذائیة زید،‏‎ ‎‏ومفاد هیئة المشتقّ: هو أنّ الجری بلحاظ اتصافه الفعلیّ، لا أصل الاتصاف، وهذا‏‎ ‎‏هو المعنی التصوّری.‏

إن قلت :‏ هذا هو الالتزام بخصوص الموضوع له فی الهیئات الاشتقاقیّة،‏‎ ‎‏وعند ذلک لایمکن تصویر الجامع للأعمّی أیضاً؛ إلاّ علی التقریب الذی مضیٰ‏‎ ‎‏تفصیله فی المقدّمة.‏

قلت :‏ کلاّ؛ فإنّ کونها موضوعة للدلالة علیٰ کذا، لایلازم کون الموضوع له‏‎ ‎‏خاصّاً، وهذا نظیر قولهم: «إنّ الأسد موضوع للدلالة علی الحیوان المفترس» فربّما‏‎ ‎‏ضیق المجال یورث بعض التوهّمات .‏

وبعبارة اُخریٰ :‏ إنّها موضوعة للدلالة، إلاّ أنّ عند الاستعمال یکون المستعمل‏‎ ‎‏فیه ـ بتبع الموضوع له ـ عامّاً، فلا تذهل.‏

إیقاظ :‏ کأنّ من الخارج عن عنوان البحث علی المشهور المعروف، مثل‏‎ ‎‏«البغدادیّ» و «العراقیّ» و «النجفیّ» و «القمّی» مع أنّ الوضع نوعیّ فی النسبة،‏‎ ‎‏وعلیٰ ما سلکناه فی هذا المضمار، اندراجه فی محطّ البحث واضح.‏

‎ ‎

کتابتحریرات فی الاصول (ج. ۱)صفحه 354

  • )) تقدّم فی الصفحة 322 .
  • )) لاحظ هدایة المسترشدین: 82 / السطر 5 .
  • )) کفایة الاُصول: 62، درر الفوائد، المحقّق الحائری: 61.
  • )) لاحظ نهایة الدرایة 1: 187، مناهج الوصول 1: 211.
  • )) تقدّم فی الصفحة 322 ـ 323 .
  • )) مناهج الوصول 1 : 210 ـ 211 .
  • )) قوانین الاُصول : 76 / السطر 8 ـ 9 ، تقریرات المجدّد الشیرازی 1 : 263 ، کفایة الاُصول : 64 .
  • )) مبادئ الوصول إلی علم الاُصول: 67، رسائل المحقق الکرکی 2: 82 ، تمهید القواعد: 84 .
  • )) درر الفوائد، المحقّق الحائری: 43.
  • )) تقدّم فی الصفحة 322 .
  • )) الفصول الغرویّة: 59 / السطر 38 ـ 40، کفایة الاُصول: 56 .
  • )) تقدّم فی الصفحة 315 ـ 323 .