سورة البقرة

المبحث الثالث : حول دلالة الآیة علی امتناع الحبط

المبحث الثالث

‏ ‏

حول دلالة الآیة علی امتناع الحبط

‏ ‏

‏اعلم أنّ من الـمسائل الـخلافیـة مسألـة حَبْط الأعمال وتحقیقها علی‏‎ ‎‏الـوجـه الـوافی یأتی من ذِی قِبَلٍ فی محلّ أنسب إن شاء اللّٰه تعالـیٰ.‏

‏والـمقصود هنا الإشارة إلـیٰ استدلال بعض الـقاصرین ـ کالـفخر‏‎ ‎‏وغیره ـ بهذه الآیـة الـکریمـة علیٰ امتناع الـحَبْط؛ وذلک لظهور قولـه تعالـیٰ‏‎ ‎‏فی أنّ ‏‏«‏اَلَّذِینَ آمَنُوا وَ عَمِلُوا الصَّالِحَاتِ أَنَّ لَهُمْ جَنَّاتٍ تَجْرِی مِنْ تَحْتِهَا‎ ‎الأَنْهَارُ‏»‏‏، ومقتضیٰ الإطلاق أنّ ذلک ثابت لهم؛ سواء کفروا بعد ذلک أو آمنوا،‏‎ ‎‏وحیث لامعنیٰ لاستحقاقهم بعد الـکفر، فیمتنع الـکفر بعد الإیمان، وحیث‏‎ ‎‏لامعنیٰ لکون الـکفر محبطاً للإیمان الـسابق؛ لامتناع الـتحابط، فیکون الـکفر‏‎ ‎‏بعد الإیمان ممتنعاً.‏

‏ولو قیل: إنّ الـفرض الـمذکور واقع، فکیف یکون ممتنعاً، وقد قال اللّٰه‏‎ ‎‏تعالـیٰ: ‏‏«‏إِنَّ الـَّذِینَ آمَنُوا ثُمَّ کَفَرُوا ثُمَّ آمَنُوا ثُمَّ کَفَرُوا‏»‏‎[1]‎‏؟‏

‏قلنا: هذا الإیمان صورة ظاهریـة من الإیمان، ولایکون إیماناً واقعیاً‏

کتابتفسیر القران الکریم: مفتاح أحسن الخزائن الالهیة (ج. 5)صفحه 74
‏راسخاً حقیقیاً، وهذا لایستـتبع شیئاً حتّیٰ یُحبط بالأعمال الـمتأخّرة‏‎ ‎‏والاعتقادات الـطارئـة‏‎[2]‎‏.‏

أقول:‏ نظر الـقائلین بامتناع الـتحابط إلـیٰ إثبات استحقاق الـعباد فی‏‎ ‎‏قبال الأعمال الـصالـحـة للجنّـة، واستحقاقهم الـنار کذلک؛ منکرین أنّ‏‎ ‎‏الـمسألـة فی باب الـثواب والـعقاب خارجـة عن قانون الـعلّیـة‏‎ ‎‏والـمعلولیـة، ومندرجـة فی الـجزاف والاستهزاء؛ غافلین عن أنّ الأمر لیس‏‎ ‎‏کما توهّموه، کما مرّ تفصیلـه، ویأتی أیضاً الإیماء إلـیـه.‏

‏فعلیـه من کان مؤمناً ثمّ کفر فی هذه الـنشأة، یکون متحرّکاً فی‏‎ ‎‏الـدرجات وفی الـطبیعـة، وتزول الـصور، وتُکتَسب الـصور الاُخر، و یشتدّ‏‎ ‎‏الـوجود ویضعف إلـیٰ أن یصل إلـیٰ مفارقـة الـمادّة أو ما بحکمها، حتّیٰ‏‎ ‎‏ینقطع عن الحرکة الذاتیة الـطبیعیـة، وعن الـمعراج الـروحی والاستکمال‏‎ ‎‏التدریجی أو الضعف التدریجی، فالاعتقادات الـزائلة کالسواد والـبیاض علیٰ‏‎ ‎‏الأجسام المتحرّـة الـزائلین؛ من غیر فرق بینهما، وأمّا الإیمان فإن کان راسخاً‏‎ ‎‏فلایزول، فإذا زال فهو أیضاً، إیمان ضعیف کالسواد الزائل بضیاء الشمس.‏

‏فالاستدلال بتکثیر الـصور ـ کما فی تفسیر الـفخر‏‎[3]‎‏ ـ من الـقیل‏‎ ‎‏والـقال الـذی لیس لـه مجال، وأمّا الآیـة الـشریفـة فلا تدلّ إلاّ علیٰ أنّ لهم‏‎ ‎‏کذا، وأمّا وصولهم إلـیها فهو أمر آخر؛ ضرورة إمکان منعهم لمانع خارجیّ‏‎ ‎‏أحدثوه، وهو الـکفر والإلحاد والـزندقـة والإفساد. وتفصیل حدیث حبْط‏‎ ‎‏الأعمال فی محلّـه إن شاء اللّٰه تعالـیٰ.‏

‎ ‎

کتابتفسیر القران الکریم: مفتاح أحسن الخزائن الالهیة (ج. 5)صفحه 75

  • )) النساء (4) : 137 .
  • )) راجع التفسیر الکبیر 2 : 127.
  • )) راجع التفسیر الکبیر 2 : 128.