وعلیٰ مسلک أصحاب الـتفسیر وأرباب الـنظر:
«وَ بَشِّرِ الَّذِینَ آمَنُوا»باللّٰه وبرُسُلـه وکُتُبـه وبما جاء بـه الـنبیّ صلی الله علیه و آله وسلم من صفات الـمبدأ وأحکام الـمیعاد، «وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ»الـشرعیّـة والـعرفیـة والـعقلیـة فیما یبتلون بـه منها، ویتمکّنون من الإتیان بها «أَنَّ لَهُمْ جَنَّاتٍ تَجْرِی مِنْ تَحْتِهَا الاَْنْهَارُ»ویتجول فیها الـمیاه،
کتابتفسیر القران الکریم: مفتاح أحسن الخزائن الالهیة (ج. 5)صفحه 105
وتکون بین الـجنّـة والـبساتین ودون الـمساکن والـقصور، کما هو الـمتعارف فی هذه الـعصور وهذا هو الـمقصود والـمأمول لدلالـة الاقتضاء «کُلَّمَا رُزِقُوا مِنْهَا مِنْ ثَمَرَةٍ رِزْقاً قَالُوا هَذَا الـَّذِی رُزِقْنَا مِنْ قَبْلُ» وهو الـذی واعدنا ربّنا فی الـدنیا وهیّأ لنا من قبل أن ندخل الـجنّـة جزاء بما کانوا یعملون «وَ أُتُوا بِهِ مُتَشَابِهاً» بما کانوا یتمتّعون بـه فی الـدنیا؛ لأنّ ذلک ألذّ وأحسن؛ لما فیـه من تذکّر الأیّام الـسالـفـة، ولما فیـه الاُنس بما کان عندهم فی الأعصار الـماضیـة، وکان الـتشابـه من جمیع الـجهات؛ لأنّ فیـه الالتذاذ الأکثر، والـجنّـة دار اللذّة «وَ لَهُمْ فِیهَا أَزْوَاجٌ مُطَهَّرَةٌ»عن کلّ ریب ودنس، وعن کلّ عیب وخُبث، خلافاً لما فی الـدنیا، فإنّها مقرونـة بالآلام والأسقام «وَ هُمْ فِیهَا خَالِدُونَ»، وباقون ما بقی الـدهر ومادام یشاء لهم اللّٰه تعالـیٰ بقاءهم فیها.
وقریب منه: «وَ بَشِّرِ الـَّذِینَ آمَنُوا» باللّٰه وبالـرسول والـکتاب، وأنّـه الـذی جاء من عنداللّٰه، «وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ» أی الأعمال الـصالـحـة الـشرعیـة الـفرضیـة، لامطلق الأعمال ولو کانت صالـحـة، ومن الـعمل الـصالـح ترک الـمحرّمات والـموبقات، فإنّ من یرتکبها فلا یعمل صالـحاً، وهو خلاف قولـه: وعملوا الـصالـحات الـشرعیـة.
«أَنَّ لَهُمْ جَنَّاتٍ تَجْرِی مِنْ تَحْتِهَا الأَنْهَارُ» إلاّ أنّ ذلک لایصل إلـیهم، ولایتمتّعون منها إذا کانوا یؤمنون باللّٰه ویعملون الـصالـحات ولایکفرون بعد ذلک، فمن عمل من الـصالـحات وآمن باللّٰه فهو لـه الـجنّـة الـکذائیـة بالاستحقاق، ولکنّـه أعمّ من وصول ما یستحقّـه إلـیـه وعدمـه، فإذا مات علیٰ الإیمان وتلک الأعمال الـصالـحـة، فیصل إلـیـه ما یستحقّـه.
«کُلَّمَا رُزِقُوا مِنْهَا مِنْ ثَمَرَةٍ رِزْقاً قَالُوا هَذَا الـَّذِی رُزِقْنَا مِنْ قَبْلُ»؛ أی
کتابتفسیر القران الکریم: مفتاح أحسن الخزائن الالهیة (ج. 5)صفحه 106
هم فی هذا الـشأن من الـقول وإن لم یتفوّهوا بـه، فإنّ ثمار الـجنّـة وفواکـه تلک الـبساتین لاتنقص بالـتناول، فیکون مکان ما یأکلونـه ثمار اُخر مثلها، فیقولون: «هَذَا الـَّذِی رُزِقْنَا مِنْ قَبْلُ» فی الـجنّـة؛ أی فی الآنیـة الـسابقـة والـساعـة الـسابقـة «وَ أُتُوا بِهِ مُتَشَابِهاً»، فیکون الـعائد مثل الـزائل؛ حذراً عن وقوع ألم الـفوت وخوف الـنقص والـزوال فی قلوبهم وصدورهم.
«وَ لَهُمْ فِیهَا أَزْوَاجٌ مُطَهَّرَةٌ» نقیّـة الـثیاب ونظیفـة الأبدان وطاهرة الـبواطن «وَهُمْ فِیهَا خَالِدُونَ» مقرونین بتلک الـثمار ومشفوعین بهؤلاء المطهّرات من الأزواج، فجمیع ما فی الـجنّـة خالـدوهم مثل ذلک فی الخلود.
وقریب منه: «وَبَشِّرِ» یا أیّها الـرّسول، أو یا أیّها الأمین علیٰ الـوحی، أولامخاطب هُنا لأنّ الـنظر إلـیٰ اطّلاع الـمؤمنین علیٰ ما اُعِدّ لهم فی قبال ما اُعِدّ للکافرین «اَلَّذِینَ آمَنُوا» باللّٰه وبالـیوم الآخر؛ وإن لم یؤمنوا بأنّ هذا الـکتاب من قِبَل اللّٰه تعالـیٰ إلاّ کسائر الأشیاء الـتی تستند إلـیـه تعالـیٰ: «وَ عَمِلُوا الصَّالِحَاتِ»فی الـجملـة ولو کانوا یترکون طائفـة من الأعمال الـصالـحـة، أو یرتکبون جملـة من غیر الـصالـحات الـعرفیـة، لا الـشرعیـة «أَنَّ لَهُمْ جَنَّاتٍ تَجْرِی مِنْ تَحْتِهَا الأَنْهَارُ»، فتکون الـجنّات علیٰ مرتفعات تستولی علیٰ الأنهار، وهی الـربوات، فالأنهار خارجـة عن الـجنّات وجاریـة من تحتها، ولاینافیـه وجود الـجداول فی خلال الـبساتین.
«کُلَّمَا رُزِقُوا مِنْهَا مِنْ ثَمَرَةٍ رِزْقاً» والـقضیّـة الـشرطیـة لاتدلّ علیٰ الـوقوع؛ أی کلّما کان کذا یقولون: کذا، وأمّا أنّهم یرزقون فیها شیئاً ورزقاً أم لا، فالآیـة ساکتـة عنها.
«قَالُوا هَـٰذَا الَّذِی رُزِقْنَا مِنْ قَبْلُ»، ولسنا نعرف ذلک، فکأنّ ما فی
کتابتفسیر القران الکریم: مفتاح أحسن الخزائن الالهیة (ج. 5)صفحه 107
الـجنّـة رزقهم وهم فی الـدنیا ولایعملون ذلک، فإذا دخلوا الـجنّـة فهم قد عُرّفوا بها وکانوا یستنکرون «وَأُتُوا بِهِ مُتَشَابِهاً» لما عندهم فی بساتین الـدنیا وجنّاتهم، ولما عندهم فی الـرَبَوات فی جمیع الـجهات فی الاسم والـمسمّیٰ والـخصوصیّات «وَلَهُمْ فِیهَا أَزْوَاجٌ مُطَهَّرَةٌ» من الـمنفّرات للطبع حسب اختلاف طباعهم، ولایزداد علیـه، وهنّ أیضاً متشابهات لما لهم فی الـدنیا؛ لأنّ فیـه اللذّة الأکثر والأوفر وهذا یستفاد من قولـه تعالـیٰ: «وَأُتُوا بِهِ مُتَشَابِهاً» لأنّـه معلّل حسب الـظاهر بأنّ الـتشابـه لأجل الأقربیة إلـی الالتذاذ الأکثر والأملح، ومقتضیٰ هذا الـتعلل تشابههنّ مع نسائهم فیما یوجب الالتذاد، مطهّرات عمّا یستقذر منـه الـطبع «وَهُمْ فِیهَا خَالِدُونَ»إن شاء اللّٰه تعالـیٰ.
کتابتفسیر القران الکریم: مفتاح أحسن الخزائن الالهیة (ج. 5)صفحه 108