سورة البقرة

علیٰ مسلک أرباب التفسیر وأصحاب الفهم والتحریر

وعلیٰ مسلک أرباب التفسیر وأصحاب الفهم والتحریر

‏ ‏

‏وإذ قال: یا أیّها الـناس اذکروا ‏‏«‏إِذْ قَالَ رَبُّکَ‏»‏‏؛ أی ربّکم علیٰ الـبدلیـة،‏‎ ‎


کتابتفسیر القران الکریم: مفتاح أحسن الخزائن الالهیة (ج. 5)صفحه 276
‏والـخطاب إلـیٰ الـجنس والـنوع ‏‏«‏لِلْمَلاَئِکَةِ‏»‏‏، لا لمطلق الـملائکـة، بل‏‎ ‎‏لطائفـة خاصّـة منهم: ‏‏«‏إنّی‏»‏‏؛ أی إنّ ربّکم ‏‏«‏جَاعِلٌ فِی‏»‏‏ هذه ‏‏«‏الأَرْضِ‏»‏‎ ‎‏الـتیبین أیدیکم ‏‏«‏خَلِیفَةً‏»‏‏ وخلفاً عنّی؛ أی ربّکم، وهذا الـفعل لغرض من‏‎ ‎‏الأغراض الـصحیحـة اللازم وجوده فیها، ‏‏«‏قَالُوا‏»‏‏ـ فأظهروا ما فی وجودهم‏‎ ‎‏من الـخواطر ـ : ‏‏«‏أَتَجْعَلُ‏»‏‏ ـ جعلاً بسیطاً ـ وتخلق خلقاً ‏‏«‏فِیهَا مَنْ یُفْسِدُ‎ ‎فِیهَا‏»‏‏فی الأرض؛ حسب طبیعـة الأرض وطینـة الـتراب وأمثالـه من‏‎ ‎‏الأرضیات والـسفلیات، ‏‏«‏وَیَسْفِکُ الدِّمَاءَ‏»‏‏، ویُخلّ الـنظام، ویکون ظالـماً‏‎ ‎‏بعضهم لبعض وبعض أصنافهم لبعض، بل لبعض الأنواع الاُخر اللاحقـة‏‎ ‎‏بالأرض، فیجعلون من الـجنّ فی الـسجون، فیفسدون من جهات شتّیٰ، ‏‏«‏وَ‏»‏‎ ‎‏الـحال ‏‏«‏نَحْنُ‏»‏‏ الـملائکـة ‏‏«‏نُسَبِّحُ بِحَمْدِکَ‏»‏‏ حسب الـطینـة ـ کما تعرف‏‎ ‎‏وتدری ـ ‏‏«‏وَنُقَدِّسُ لَکَ‏»‏‏ حسب اللیاقـة والاستحقاق الـمعلوم عندنا لک‏‎ ‎‏«‏قَالَ‏»‏‏ الله ربّکم: ‏‏«‏إِنِّی‏»‏‏ الـذی هو الـربّ الـمتصدّی لتربیـة الـعالَم،‏‎ ‎‏ومخرجها من الـظلمات إلـیٰ الـنور ‏‏«‏أ عْلَمُ مَا‏»‏‏ ـ بعضاً من الأشیاء الـتی ـ‏‎ ‎‏«‏لاَتَعْلَمُونَ‏»‏‏ أنتم الـملائکـة نقلاً عن غیرکم من سائر الأنواع.‏

وقریب منه: ‏«‏قَالُوا‏»‏‏ ـ أی الـملائکـة ـ : ‏‏«‏أَتَجْعَلُ فِیهَا مَنْ یُفْسِدُ‎ ‎فِیهَا‏»«‏‏إِذْ قَالَ رَبُّکَ لِلْمَلائِکَةِ إِنِّی جَاعِلٌ فِی الأَرْضِ خَلِیفَةً‏‏»‏‏ إنّی أجعل فِی‏‎ ‎‏الأرض خلیفـة کانت هی موجودة، ولکنّها نصبت خلیفـة، کما أنّ جعل‏‎ ‎‏الـخلافـة بعد جعل الـوجود، وخلق الإنسان فی سائر الأقوام والـملل، فلا‏‎ ‎‏شأن جدید لـه تعالـیٰ فی هذا الأمر، فکان من یجعلـه خلیفـة موجوداً قبل‏‎ ‎‏ذلک الـزمان إلاّ أنّه لم یکن فی الأرض، بل کان فی قطر آخر من الأقطار فی‏‎ ‎‏الـعالـم والـفضاء.‏


کتابتفسیر القران الکریم: مفتاح أحسن الخزائن الالهیة (ج. 5)صفحه 277
‏«‏قَالُوا أَتَجْعَلُ فِیهَا مَنْ یُفْسِدُ فِیها‏»‏‏ مباشرة وتسبیباً ‏‏«‏وَیَسْفِکُ الدِّمَاءَ‏»‏‎ ‎‏مباشرة بنفسـه ‏‏«‏وَنَحْنُ‏»‏‏ الـملائکـة ‏‏«‏نُسَبِّحُ بِحَمْدِکَ‏»‏‏حسب ما هو‏‎ ‎‏الـمعروف الـمشهور عنّا ‏‏«‏وَنُقَدِّسُ لَکَ‏»‏‏فی الاستقبال والـحال، وقد کنّا کذلک‏‎ ‎‏فی الأزمنـة الـسابقـة، ولیس ذلک رشوة لصرفک عن هذا الـجعل فی الأرض‏‎ ‎‏«‏قال إِنِّی‏»‏‏الـعالـم بجمیع الـجهات والـنواحی والـضواحی ‏‏«‏أَعْلَمُ مَا‎ ‎لاتَعْلَمُونَ‏»‏‏ ایّاه من الاُمور الـمختفیـة والأسرار الـمکنونـة.‏

وقریب منه: ‏«‏وإِذْ قَالَ‏»‏‏؛ أی وقال ‏‏«‏رَبُّکَ‏»‏‏: أیّها الرسول الأعظم فلو‏‎ ‎‏تغفل عن أسالیب الخِلْقة، وعمّا وقع فی السابق بالنسبة إلیٰ هذه الأرض التی‏‎ ‎‏أنت علیها، وبالنسبة إلیٰ ما جعله الله خلیفة، وما توجّه إلیه من الاعتراض.‏

‏«‏لِلْمَلاَئِکَةِ‏»‏‏ الـقاطنین فی الأرض والـساکنین علیها، الـمتوکّلین بها‏‎ ‎‏وبما یجری فیها ‏‏«‏إِنِّی‏»‏‏ لمرّة ثالـثـة وخامسـة وعاشرة ‏‏«‏جَاعِلٌ فِی الأَرْضِ‏»‏‎ ‎‏الـتی أنتم علیها وعلیٰ نظامها متوکّلون ‏‏«‏خَلِیفَةً‏»‏‏ وهی تکون تشابـه تلک‏‎ ‎‏الـخلائف الـسابقـة قهراً؛ لکونها فی الأرض فمدّت أعناق الـملائکـة‏‎ ‎‏الـخاصّـة الـمسیطرة علیٰ الأرض ـ بعنوان الاعتراض والاستشکال ـ‏‎ ‎‏فـ ‏‏«‏قَالُوا أَتَجْعَلُ فِیهَا‏»‏‏ بعد تلک الـدفعات الـکثیرة، أو بعد تلک الـمرّة أیضاً‏‎ ‎‏«‏مَنْ یُفْسِدُ فِیهَا‏»‏‏ عالماً عامداً متوجّهاً ملتفتاً مباشرة ‏‏«‏وَیَسْفِکُ‏»‏‏ کذلک‏‎ ‎‏«‏اَلدِّمَاءَ‏»‏‏الـمحترمـة بلا حقّ واستحقاق ‏‏«‏وَنَحْنُ‏»‏‏الـملائکـة الـمحیطون‏‎ ‎‏بهذه الأرض ‏‏«‏نُسَبِّحُ بِحَمْدِکَ‏»‏‏مسبّحین وحامدین جامعین بین الـتنزیـه‏‎ ‎‏والـتحمید، غیر صانعین فیها ما یصنعـه ذلک الـمجعول حسب ما هو الـمعهود‏‎ ‎‏عنـه فی الـدورات الـقدیمـة والأعصار الـسابقـة ‏‏«‏وَنُقَدِّسُ لَکَ‏»‏‏ حسب‏‎ ‎‏الـخِلقـة والـطینـة خالـصاً مخلصاً؛ غیر راجین منک الـجنـة، ولا خائفین عن‏

کتابتفسیر القران الکریم: مفتاح أحسن الخزائن الالهیة (ج. 5)صفحه 278
‏نارک، بل الـتقدیس الـجامع بین الـتسبیح والـتحمید لغایـة خاصّـة، وهی‏‎ ‎‏وجودک، ولا نظر إلـیٰ شیء آخر وراءک، ولا طمع بجنّتک ولا خوف من عقابک،‏‎ ‎‏بل هو فقط یکون لک. ‏‏«‏قَالَ‏»‏‏ معبودهم ومحمودهم الـمسبّحون لـه: ‏‏«‏إِنِّی‎ ‎أَعْلَمُ مَا‏»‏‏أی شیئاً بل أشیاء ‏‏«‏لاَ تَعْلَمُونَ‏»‏‏ أنتم أیّها الـمسبِّحون الـمقدِّسون‏‎ ‎‏إیّاها، فإنّ فی هذا الـخلق الـخلیفـة من هو مثلکم فی الـخلوص والـتسبیح‏‎ ‎‏والـتقدیس، مع أنّ طبعـه وطینتـه من الاُمور الـمضادّة لذلک، وهذا هو علیّ بن‏‎ ‎‏أبی طالـب ‏‏علیه السلام‏‏، ففی بعض أخبارنا: أنّـه قال: ‏«ومنهم یعبدک طمعاً فی‎ ‎الـجنّـة، وهذه هی عبادة الاُجراء، ومنهم من یعبدک خوفاً من عذابک، وهذه‎ ‎هی عبادة الـعبید، وأنا عبدتُک لمّا وجدتک أهلاً للعبادة»‏ والـعبادة تجمع‏‎ ‎‏الـتسبیح والـتحمید والـتقدیس.‏

وقریب منه: ‏«‏وَإِذْ قَالَ‏»‏‏ قولاً یشبـه الـوحی، فیکون حاصلـه من باطن‏‎ ‎‏الـذات لا من خرق الأصوات وضرب الأجواء وقلع الـشدائد ‏‏«‏رَبُّکَ‏»‏‎ ‎‏الـمطلق وإلـهک الـخالـق لکلّ شیء، وقال مخاطباً إیّاک شرافـة لک وتجلیلاً‏‎ ‎‏لقداستک لطائفـة من ‏‏«‏الـمَلاَئِکَـةِ‏»‏‏ الـعارفین بکثیر من الاُمور، والـغافلین‏‎ ‎‏عن طائفـة منها: ‏‏«‏إِنِّی‏»‏‏بصفتی الـربّ الـمربّی لزوایا الـعوالـم ولحواشی‏‎ ‎‏الـوجود وهوامش الـخلقـة ‏‏«‏جَاعِلٌ فِی الأَرْضِ‏»‏‏وهذا الـسطح الـمستوی‏‎ ‎‏«‏خَلِیفَةً‏»‏‏وأمّا فی الـمیاه، فربّما کانت فیها أصناف الـحیوانات وأنواعها، وفیها‏‎ ‎‏الـخلفاء قبل ذلک، إلاّ أنّها مائیـة لا أرضیـة، کما ربّما تکون فی الـهواء‏‎ ‎‏الـموجود حول الأرض أنواع من تلک الـحیوانات، وفی الأرض حیوانات‏‎ ‎‏وطیور، وهی تسفک الـدماء وتفسد فی الأرض أیضاً، حسب طبع الأرض‏‎ ‎‏والـتراب والـهواء والـنار والـماء وسائر الـعناصر الـمادّیـة، إلاّ أنّها لیست مع‏

کتابتفسیر القران الکریم: مفتاح أحسن الخزائن الالهیة (ج. 5)صفحه 279
‏کونها سافکـة الـدماء ومفسدة الأرض، شبیهـة الـملائکـة فی الـرفعـة‏‎ ‎‏والإلهیـة حتّیٰ تزاحمهم، وتوجب اطّلاعهم علیٰ جهلهم وفسادهم الـروحی فی‏‎ ‎‏بواطن وجودهم، ولأجل ذلک وذاک ‏‏«‏قَالُوا أَتَجْعَلُ فِیهَا مَنْ یُفْسِدُ فِیهَا وَیَسفِکُ‎ ‎الدِّمَاءَ‏»‏‏غَافِلینَ عن سبق وجود الـسفّاکین الـمفسدین، وجاهلین بأنّ منشأ‏‎ ‎‏هذا الـقول الـشبیـه بالاعتراض، أمر روحی داخلی أجنبی عمّا ظهر عنهم‏‎ ‎‏قولاً، وأعربوا عن ضمائرهم تخیّلاً وفکراً، وهو یرجع إلـیٰ نحو من الـفساد‏‎ ‎‏وضعف الـوجود ‏‏«‏وَنَحْنُ نُسَبِّحُ بِحَمْدِکَ وَنُقَدِّسُ لَکَ‏»‏‏غفلـة عن أنّ الله تبارک‏‎ ‎‏وتعالـیٰ لا یصنع صنعاً لأجل الـتسبیح والـتقدیس، وجاهلین بغنائـه تعالـی‏‎ ‎‏عن الـتسبیح والـتقدیس:‏

‏ ‏

‏گر جمله کائنات کافر گردند‏

‎ ‎‏بر دامن کبریاش ننشیند گرد‏

‏ ‏

‏ولأجل هذا وذلک ردّ علیهم: ‏‏«‏إِنِّی أَعْلَمُ مَا لاَتَعْلَمُونَ‏»‏‏ أیّها الـجاهلون‏‎ ‎‏الـغافلون الـمعتقدون أنّـه تبارک وتعالـی یحتاج إلـی الـتسبیح والـتقدیس،‏‎ ‎‏وهو عین الـفساد والـکفر، وهو أکثر فساداً وأشدّ من إراقـة الـدماء بحسب‏‎ ‎‏الـحقیقـة، فلا تخلط.‏

وقریب منـه: ‏«‏وإِذْ قَالَ رَبُّکَ لِلْمَلائِکَةِ‏»‏‏ ملائکـة الـسماء ‏‏«‏إِنِّی جَاعِلٌ‎ ‎فِی الْأرْضِ خَلِیفَةً‏»‏‏ عمّا کانوا قبلهم من الأصناف والأنواع الـمختلفـة إنساً‏‎ ‎‏کانوا أو جانّاً أو نسناساً ‏‏«‏قَالُوا أَتَجْعَلُ‏»‏‏ وهل یجوز لنا أن نعلم حکمـة هذا‏‎ ‎‏الـخلق والـجعل؟! فإنّک فعّال لما تشاء، ولا تُسأل عمّا تفعل، وهم یُسألون،‏‎ ‎‏ولکن الـمطلوب اطّلاعنا علیٰ هذه الـحکمـة الـبالـغـة الـرشیدة ‏‏«‏مَنْ یُفْسِدُ‎ ‎فِیهَا وَیَسْفِکُ االدِّمَاءَ‏»‏‏ونظراً إلـیٰ أنّ مادّة خلقهم الـطین ‏‏«‏إِذْ قَالَ رَبُّکَ

کتابتفسیر القران الکریم: مفتاح أحسن الخزائن الالهیة (ج. 5)صفحه 280
لِلْمَلائِکَةَ إِنِّی خَالِقٌ بَشَراً مِنْ طِینٍ‏»‏‎[1]‎‏، ولازم هذا الـخلق بطبعـه ـ لا بإطلاقه ‏‎ ‎‏ذلک؛ لما فیـه من الـشهوة والـغضب حسب ما نعرف منهم ومن ذریّتهم الـذین‏‎ ‎‏اُخذوا من ظهورهم، فلا یکون الـشخص الأوّل هکذا، إِلاّ أنّ الـطبع والـطینـة‏‎ ‎‏والـجِبِلّـة تقتضی هذه اللوازم الـفاسدة الـسافلـة ‏‏«‏وَنَحْنُ‏»‏‏بحمد الله ولـه‏‎ ‎‏الـشکر ـ ‏‏«‏نُسَبِّحُ بِحَمْدِکَ‏»‏‏ ولانسفک ـ ‏‏«‏وَنُقَدِّسُ لَکَ‏»‏‏ ولا نفسد ونقدّسک‏‎ ‎‏جدّاً وکثرة لا عدد لها وشدّة لا نهایـة لها وخلوصاً لا أمد لـه ‏‏«‏قَالَ‏»‏‏الله ربّکم‏‎ ‎‏وربّهم ‏‏«‏إِنِّی أَعْلَمُ‏»‏‏وأکثر علماً بالـنسبـة إلـیٰ ‏‏«‏مَا لاَتَعْلَمُونَ‏»‏‏إلاّ شبهاً منـه‏‎ ‎‏وسطحیاً لا واقعیاً وکُنهیّاً، أو لا تعلمون أصلاً، فما لا تعلمونـه رأساً، وتکونون‏‎ ‎‏جاهلین بـه علیٰ الإطلاق، نحن أعلم بـه منکم بما لا مزید علیـه ولا عدد ولا‏‎ ‎‏شدّة ولا حدّة لـه، فتکون بلا نهایـة من جهات شتّیٰ.‏

‎ ‎

کتابتفسیر القران الکریم: مفتاح أحسن الخزائن الالهیة (ج. 5)صفحه 281

  • )) ص (38) : 71.