سورة البقرة

المسألة الثالثة : حول حدیث النفس

المسألة الثالثة

‏ ‏

حول حدیث النفس

‏ ‏

‏اختلفوا فی أنّ الـنفس روحانیـة الـحدوث والـبقاء، أو جسمانیـة‏‎ ‎‏الـحدوث وروحانیـة الـبقاء علیٰ أقوال‏‎[1]‎‏، بعد اتّفاق أرباب الـعقل علیٰ أنّها‏‎ ‎‏روحانیـة الـبقاء، کما تحرّر فی الـمسألـة الـثانیـة.‏

‏وقد اشتهر الـقول بروحانیـة الـحدوث والـبقاء بین الإشراقیـین‏‎ ‎‏والـمشّائین، إلاّ أنّ الـطائفـة الاُولیٰ قالـوا بقدم الـنفوس‏‎[2]‎‏، والـثانیـة قالـوا‏‎ ‎‏بحدوثها بمجرّد حدوث الـبدن الـقابل لـتعلّق الـروح بـه‏‎[3]‎‏، وقال معلّم‏‎ ‎‏الـحکمـة الـمتعالـیـة ومؤسّس الـمناهج الـجدیدة: بأنّها جسمانیـة‏‎ ‎‏الـحدوث وروحانیـة الـبقاء‏‎[4]‎‏.‏

‏وعند ذلک ربّما یُستشمّ من الآیـة الـشریفـة بانضمامها إلـیٰ الآیـة‏‎ ‎‏الـسابقـة: أنّ آدم فی قوس الـنزول علّم بالأسماء وعرضها علیٰ الـملائکـة،‏‎ ‎


کتابتفسیر القران الکریم: مفتاح أحسن الخزائن الالهیة (ج. 5)صفحه 334
‏وأنّ اللّٰه تعالـیٰ قاول مع الـملائکـة فی هذه الـقصّـة؛ برفع الـحجب وبإبراز ما‏‎ ‎‏فی آدم من الـفساد، ثمّ إعلام ما فیـه من علم الأسماء... وهکذا، فعلیٰ هذا کانت‏‎ ‎‏الـنفس الآدمیـة قبل أن تـتعلّق بالـبدن، وتصیر خلیفـة فی الأرض، کانت‏‎ ‎‏مورد الـتعلیم الإلهی، ومهبط الأسماء الـسماویـّة، فتکون روحانیـة الـحدوث،‏‎ ‎‏ویؤیّد بها قول الأسبقین والـمشهور بین الـعقلاء والـمتفکّرین من الإشراقیـین‏‎ ‎‏الـمشّائین.‏

أقول: ‏إنّ الـمحاجّـة والـمقاولـة کانت علیٰ نهج الـرمز بین الـملائکـة‏‎ ‎‏وربّهم الأعلیٰ، وأمّا الـملائکـة فهم کانوا یتوجّهون إلـیٰ فساد آدم حسب‏‎ ‎‏تخیّلهم؛ من جهـة ما کانوا یشاهدون من أبناء الـنسناس والـشیطان أو من اُمور‏‎ ‎‏اُخر، ومنها مناسبـة الأرضِ والـمادّةِ الـمرکّبـة والـسفک والإفسادَ کما مرّ، فلا‏‎ ‎‏یلزم إلـیٰ هنا تقدّم خلقـة آدم بحسب الـروح علیٰ الـبدن، ثمّ بعد ذلک یمضی‏‎ ‎‏مدّة مدیدة حتیٰ تصلح الـمادّة الـبدنیـة لـنزول الـصورة الآدمیـة والإنسانیـة،‏‎ ‎‏وتحرُّکِها نحو الـکمال اللائِق بحالـه، وتعلّمـه الأسماء الإلهیـة، وتعیّنـه‏‎ ‎‏بالـصفات الـرحمانیـة، وبلغ حین الاحتجاج علیٰ الـملائکـة، والـتفاتهم إلـیٰ‏‎ ‎‏جهالـتهم فی الـنقاش بالـعرض علیهم، ما حصلت لـه من الـصفات‏‎ ‎‏والـکمالات الـتی لا تنبغی للملائکـة، إلاّ من شذّ منهم، وکان ذلک الحصول فی‏‎ ‎‏قوس الـصعود؛ لإمکان أن یشاهد الـبشر ملائکـة اللّٰه وهو متعلّق بالـبدن‏‎ ‎‏روحاً، کما کان کثیر من الـصدّیقین والأنبیاء والأولیاء، ویتکلّمون معهم، وقد‏‎ ‎‏ورد فی مواضع من الـکتاب ما یصرّح بذلک، قال اللّٰه تعالـیٰ: ‏‏«‏إنَّ الَّذِینَ قَالُوا

کتابتفسیر القران الکریم: مفتاح أحسن الخزائن الالهیة (ج. 5)صفحه 335
رَبُّنا اللّٰهُ ثُمَّ اسْتَقَامُوا تَتَنَزَّلُ عَلَیْهِمُ المَلائِکَةُ‏»‏‎[5]‎‏، ومن الآیات الـشاهدة علی‏‎ ‎‏هذه الـمقالـة من الـبدو إلـی الـختم قولـه تعالـیٰ: ‏‏«‏وَلَقَدْ خَلَقْنَاکُمْ ثُمَّ‎ ‎صَوَّرْنَاکُمْ ثُمَّ قُلْنَا لِلْمَلاَئِکَةِ اسْجُدُوا لاِدَمَ‏»‏‎[6]‎‏، فیکون آدم الـکلّی الـسِّعی‏‎ ‎‏والـطینـة والـمخمَّرة بیدی الـربّ الـجلیل؛ لـورود الأمر بالـسجود، کما أنّ‏‎ ‎‏الـخلق قبل الـتصویر والإکمال ـ مع وحدة الـخطاب ـ یشهد علیٰ جسمانیـة‏‎ ‎‏الـحدوث، وأنّ الـنطفـة قوّة الإنسان وإنسان بالـقوّة، فیخاطبـه اللّٰه بأنّه‏‎ ‎‏خلقکم، ثمّ صوّرکم بنفخ الـروح فیـه؛ حیث إنّ جمیع صور الـعالـم بنفخ اللّٰه‏‎ ‎‏تبارک وتعالـیٰ، الاّ اللّٰه أنّ تعظیم شأنـه اقتضیٰ الاختصاص الـمذکور،فدلالـة‏‎ ‎‏هذه الآیـة الـشریفـة ـ والآیات الـسابقـة ـ علیٰ أنّ الـنفس روحانیـة‏‎ ‎‏الـحدوث، محلّ منع، کما تمنعـه الـعقلاء.‏

‎ ‎

کتابتفسیر القران الکریم: مفتاح أحسن الخزائن الالهیة (ج. 5)صفحه 336

  • )) راجع الشفاء (قسم الطبیعیات): 353 ـ 355، وشرح الإشارات 3: 260 ـ 263، والأسفار 8 : 325 ـ 380.
  • )) راجع الأسفار 8 : 331، وشرح المنظومة (قسم الحکمة) : 216 .
  • )) راجع الشفاء (قسم الطبیعیات) : 353 ـ 355، وشرح الإشارات 3: 260 ـ 263.
  • )) راجع الأسفار 8 :325 ـ 380، والشواهد الربوبیّة:221 ـ 224، والمبدأ والمعاد: 223.
  • )) فصّلت (41) : 30.
  • )) الأعراف (7) : 11 .