المسألة الثالثة
حول حدیث النفس
اختلفوا فی أنّ الـنفس روحانیـة الـحدوث والـبقاء، أو جسمانیـة الـحدوث وروحانیـة الـبقاء علیٰ أقوال، بعد اتّفاق أرباب الـعقل علیٰ أنّها روحانیـة الـبقاء، کما تحرّر فی الـمسألـة الـثانیـة.
وقد اشتهر الـقول بروحانیـة الـحدوث والـبقاء بین الإشراقیـین والـمشّائین، إلاّ أنّ الـطائفـة الاُولیٰ قالـوا بقدم الـنفوس، والـثانیـة قالـوا بحدوثها بمجرّد حدوث الـبدن الـقابل لـتعلّق الـروح بـه، وقال معلّم الـحکمـة الـمتعالـیـة ومؤسّس الـمناهج الـجدیدة: بأنّها جسمانیـة الـحدوث وروحانیـة الـبقاء.
وعند ذلک ربّما یُستشمّ من الآیـة الـشریفـة بانضمامها إلـیٰ الآیـة الـسابقـة: أنّ آدم فی قوس الـنزول علّم بالأسماء وعرضها علیٰ الـملائکـة،
کتابتفسیر القران الکریم: مفتاح أحسن الخزائن الالهیة (ج. 5)صفحه 334
وأنّ اللّٰه تعالـیٰ قاول مع الـملائکـة فی هذه الـقصّـة؛ برفع الـحجب وبإبراز ما فی آدم من الـفساد، ثمّ إعلام ما فیـه من علم الأسماء... وهکذا، فعلیٰ هذا کانت الـنفس الآدمیـة قبل أن تـتعلّق بالـبدن، وتصیر خلیفـة فی الأرض، کانت مورد الـتعلیم الإلهی، ومهبط الأسماء الـسماویـّة، فتکون روحانیـة الـحدوث، ویؤیّد بها قول الأسبقین والـمشهور بین الـعقلاء والـمتفکّرین من الإشراقیـین الـمشّائین.
أقول: إنّ الـمحاجّـة والـمقاولـة کانت علیٰ نهج الـرمز بین الـملائکـة وربّهم الأعلیٰ، وأمّا الـملائکـة فهم کانوا یتوجّهون إلـیٰ فساد آدم حسب تخیّلهم؛ من جهـة ما کانوا یشاهدون من أبناء الـنسناس والـشیطان أو من اُمور اُخر، ومنها مناسبـة الأرضِ والـمادّةِ الـمرکّبـة والـسفک والإفسادَ کما مرّ، فلا یلزم إلـیٰ هنا تقدّم خلقـة آدم بحسب الـروح علیٰ الـبدن، ثمّ بعد ذلک یمضی مدّة مدیدة حتیٰ تصلح الـمادّة الـبدنیـة لـنزول الـصورة الآدمیـة والإنسانیـة، وتحرُّکِها نحو الـکمال اللائِق بحالـه، وتعلّمـه الأسماء الإلهیـة، وتعیّنـه بالـصفات الـرحمانیـة، وبلغ حین الاحتجاج علیٰ الـملائکـة، والـتفاتهم إلـیٰ جهالـتهم فی الـنقاش بالـعرض علیهم، ما حصلت لـه من الـصفات والـکمالات الـتی لا تنبغی للملائکـة، إلاّ من شذّ منهم، وکان ذلک الحصول فی قوس الـصعود؛ لإمکان أن یشاهد الـبشر ملائکـة اللّٰه وهو متعلّق بالـبدن روحاً، کما کان کثیر من الـصدّیقین والأنبیاء والأولیاء، ویتکلّمون معهم، وقد ورد فی مواضع من الـکتاب ما یصرّح بذلک، قال اللّٰه تعالـیٰ: «إنَّ الَّذِینَ قَالُوا
کتابتفسیر القران الکریم: مفتاح أحسن الخزائن الالهیة (ج. 5)صفحه 335
رَبُّنا اللّٰهُ ثُمَّ اسْتَقَامُوا تَتَنَزَّلُ عَلَیْهِمُ المَلائِکَةُ»، ومن الآیات الـشاهدة علی هذه الـمقالـة من الـبدو إلـی الـختم قولـه تعالـیٰ: «وَلَقَدْ خَلَقْنَاکُمْ ثُمَّ صَوَّرْنَاکُمْ ثُمَّ قُلْنَا لِلْمَلاَئِکَةِ اسْجُدُوا لاِدَمَ»، فیکون آدم الـکلّی الـسِّعی والـطینـة والـمخمَّرة بیدی الـربّ الـجلیل؛ لـورود الأمر بالـسجود، کما أنّ الـخلق قبل الـتصویر والإکمال ـ مع وحدة الـخطاب ـ یشهد علیٰ جسمانیـة الـحدوث، وأنّ الـنطفـة قوّة الإنسان وإنسان بالـقوّة، فیخاطبـه اللّٰه بأنّه خلقکم، ثمّ صوّرکم بنفخ الـروح فیـه؛ حیث إنّ جمیع صور الـعالـم بنفخ اللّٰه تبارک وتعالـیٰ، الاّ اللّٰه أنّ تعظیم شأنـه اقتضیٰ الاختصاص الـمذکور،فدلالـة هذه الآیـة الـشریفـة ـ والآیات الـسابقـة ـ علیٰ أنّ الـنفس روحانیـة الـحدوث، محلّ منع، کما تمنعـه الـعقلاء.
کتابتفسیر القران الکریم: مفتاح أحسن الخزائن الالهیة (ج. 5)صفحه 336