سورة البقرة

البحث الرابع : حول التعبیر بالإنباء

البحث الرابع

‏ ‏

حول التعبیر بالإنباء

‏ ‏

‏فیـه من الـعرفان الإلهی والـحکمـة الـربّانیـة، وهو الـسرّ الـمستور‏‎ ‎‏حول قولـه تعالـیٰ: ‏‏«‏أَنْبِئْهُمْ بِأَسْمَاءِ هَـٰؤلاَءِ‏»‏‏، ولم یقل اللّٰه تعالـیٰ: علِّمْهم؛ کی‏‎ ‎‏تـتوجّـه الـملائکـة إلـیٰ جهالـتهم الـذاتیـة ودنوّهم الـواقعی، مع أنّـه‏‎ ‎‏مُعلّمهم، واللّٰه تعالـیٰ معلّم آدم، فهم مع لـفت نظرهم فی هذه الـصورة إلـیٰ‏‎ ‎‏أکملیـة آدم ‏‏علیه السلام‏‏، کیف خوطبوا بالإنباء والإخبار بهم دون الـتعلیم؟ وهل یمکن‏‎ ‎‏الـتفکیک بین الإخبار هنا والـتعلیم، أو یستلزم الإنباء والاستماع والاطّلاع‏‎ ‎‏علمهم بعد ذلک؟!‏

‏وذلک أنّ الـفیض الإلهی فی مرحلـة الـکثرة یتعلّق بالـماهیات‏‎ ‎‏الـمختلفـة فی الـحاجـة إلـیـه، فمنها الـقواهر الأعلَون، والـعقول الـعرضیـة‏‎ ‎‏وهی الـقواهر الأدنون والـمُثُل الـنُّوریـة فإنّها یکفی لـوجودها ولنزول‏‎ ‎‏الـفیض علیها مجرّد الإمکان الـذاتی، ولارقاء لـها ولا حالـة استکمالـیـة‏

کتابتفسیر القران الکریم: مفتاح أحسن الخزائن الالهیة (ج. 5)صفحه 346
‏تـتصوّر فیهم طبعاً، ولا جهالـة لـهم بالـنسبـة إلـیٰ جمیع ما دونهم؛ لـکونهم‏‎ ‎‏الـعلل أو ممرّ الـفیوض الإلهیـة، ومنها الـموجودات والـماهیّات الـمحتاجـة‏‎ ‎‏إلـیٰ الإمکان الـذاتی وإلـیٰ الـتقدیرات الـکمیّـة والأبعاد الـخاصّـة‏‎ ‎‏والـکیفیات الـمتخصّصـة من قِبَل عِلَلها، فهم أیضاً أنواع ولا أفراد لـها ولا‏‎ ‎‏حالـة انتظاریـة تـتصور فی حقّهم.‏

‏وأمّا ما اشتهر بین حکماء الـسلف من الـحاجـة إلـیٰ الـمادّة‏‎ ‎‏الـمحضـة دون لواحقها، فهو مجرّد تخیّل لا أصل لـه عندی، کما حرّرناه فی‏‎ ‎‏«قواعدنا الـحِکَمیـة»، فإنّ جمیع ما فی عالـم الـسُّفْلیات ـ سماویات کانت أو‏‎ ‎‏أرضیات ـ محتاجـة إلـیٰ الـمادّة والـمدّة والـهیولیٰ والإمکان الاستعدادی‏‎ ‎‏والـحرکـة وحصصها؛ کی تصل إلـیٰ منزلها أحیاناً.‏

‏وما اشتهر من تقسیم الـمادّة إلـیٰ الأثیریـة والـعنصریـة، لا أصل لـه،‏‎ ‎‏بل کلّها عنصریات.‏

‏ومنها ما هو الـمحتاج إلـیٰ الـمادّة والـمدّة؛ زائداً علیٰ الإمکان الـذاتی‏‎ ‎‏والـمقدار الـمتخصّص لـه من قبل علّتـه أو الـحاصل لـه بعد حرکتها إلـیٰ‏‎ ‎‏غایتها، وتسمّی الاُولیٰ مُبدَعات، والـثوانی مُخترَعات، والـثوالـث کائنات‏‎ ‎‏حسب الاصطلاحات؛ نظراً إلـیٰ قصور اللفظ وخوف الإطالـة.‏

‏وهذه الـمسائل تستنبط من هذه الآیات، کما مرّ الإیماء إلـیـه، فإنّ آدم‏‎ ‎‏کان فیـه الـحالـة الـمنتظرة وإمکان الـحرکـة الـذاتیـة نحو الـوجوب‏‎ ‎‏الإطلاقی والـوجود الـحقیقی، فکان فیـه الإمکان الاستعدادی والـقابلیـة‏‎ ‎‏الـمتقدّرة بالـفیض الأقدس، فعلّمـه اللّٰه تعالـیٰ ما لـم یعلم بخلاف الـطائفـة‏‎ ‎‏الـثانیـة الـکاملـة فی بدو الـخلقـة، الـمنزّهـة عن قابلیـة الـحرکـة إلـیٰ ما‏

کتابتفسیر القران الکریم: مفتاح أحسن الخزائن الالهیة (ج. 5)صفحه 347
‏هو الأکمل عنهم فلذلک أنبئهم بأسماء ولم یعلّمهم وما اُمر آدم بالـتعلیم لـفقدهم‏‎ ‎‏شرط الـتعلّم.‏

‏هذا، ولکن الـظاهر من هذه الآیات، أنّ هذه الـملائکـة من ملائکـة‏‎ ‎‏الأرضین والـقویٰ الـحافّـة الـشاعرة الـمسبِّحـة والـمقدِّسـة، الـمسخَّرة‏‎ ‎‏للغیب الـقابلـة للمحاجّـة والـمکافحـة، الـتی هی مخالـفـة لـلأدب ونوع‏‎ ‎‏فساد منهم، وقابلـة للعرض والإنباء والـمقاولـة حسب طبائعهم، فتکون علیٰ‏‎ ‎‏هذا هی من الـطائفـة الـثالـثـة، ولکن علیٰ جمیع الـتقادیر تکون الـمقاولـة‏‎ ‎‏والـمجاوبـة والاستعراض شبیهـة صفحات «الـسینما» وشاشـة «الـتلفزیون»،‏‎ ‎‏ولأجل ذلک لا یلزم أن یتعیّن الـملائکـة الـجاهلون بالـمصالـح والأسماء‏‎ ‎‏بتلک الأسماء والـکمالات والـصفات والـوجودات الـخاصّـة، الـراجعـة فی‏‎ ‎‏الـقوس إلـیٰ وجوب الـوجود علیٰ الإطلاق.‏

وبالجملة: ‏لا یلزم بمجرّد رؤیتهم تلک الآثار والـغیوب والـخواصّ‏‎ ‎‏والأسماء ومبادئها الـبسیطـة من شاشـة «الـتلفزیون»، أن تصیر ذواتهم‏‎ ‎‏مستکملـة لـکونها مستکفیـة بحسب الـطینـة والـخِلْقـة، ولا تزید بذلک‏‎ ‎‏الاستعراض ذواتهم، ولا تـتعیّن بأعیان الـکمالات الـواقعیـة الأسمائیـة.‏

‎ ‎

کتابتفسیر القران الکریم: مفتاح أحسن الخزائن الالهیة (ج. 5)صفحه 348