سورة البقرة

الوجه السادس : حول الاستثناء المنقطع فی الآیة

الوجه السادس

‏ ‏

حول الاستثناء المنقطع فی الآیة

‏ ‏

‏من الاُمور الـمتوهّم أنّها تضادّ الـبلاغـة هو الاستثناء الـمنقطع، وقد‏‎ ‎‏ذکروا: أنّ هذه الآیـة من الاستثناء الـمنقطع، فیلزم خلاف لایمکن الالتزام بـه،‏‎ ‎‏فلابدّ من دفعـه وذبّـه.‏

والإنصاف:‏ أنّـه ما أنصف مَن توهّم: أنّ الاستثناء الـمنقطع خلاف‏‎ ‎‏الـبلاغـة؛ ضرورة أنّ الـمتکلم یتمسّک لـتأکید کلامـه ولتثبیت مرامـه بأنحاء‏‎ ‎‏شتیٰ من أقسام الـتأکید: اللفظیـة والـمعنویـة والـصریحـة والـکنایـة، ومن‏‎ ‎‏ذلک الاستثناء الـمنقطع، فإنّـه بـه یورث صراحـة الـمستثنی منـه، وأنّـه تمام‏‎ ‎‏الـمرام ومتأکّد، ولا شکّ فیـه، ولا شیء خارج عنـه، ولو فرضنا أنّـه هنا شیء‏‎ ‎‏خارج فهو لابدّ أن یکون من غیر جنس الـمستثنیٰ منـه، وهذا أحسن وجوه‏‎ ‎‏الـبلاغـة والـفصاحـة والأدب. قال اللّٰه تعالـیٰ: ‏‏«‏لاَیَذُوقُونَ فِیهَا المَوْتَ إِلاَّ‎ ‎المَوْتَةَ الأُولیٰ‏»‏‎[1]‎‏، فأنت إذا تدبّرت فی الآیـة، بعدما أمعنت الـنظر فیما‏‎ ‎‏أبدعناه وأزمعت فیها، تجد أنّ سبل الـقرآن الـعظیم وسبل الأرواح اللطیفـة‏‎ ‎‏والـنفوس الـظریفـة واحدة، ولا تفرّق بینهم، وأنّ الـکتاب الـتدوینی عین‏‎ ‎‏الـتکوینی فی الـحقائق الـروحیـة والـذوقیـة وغیرها، وهما عین الـعترة‏‎ ‎‏الإلهیـة، والـتفصیل فی مقام آخر، وقال اللّٰه تعالـیٰ: ‏‏«‏لاَتَأْکُلُوا أَمْوَالَکُمْ بَیْنَکُمْ

کتابتفسیر القران الکریم: مفتاح أحسن الخزائن الالهیة (ج. 5)صفحه 391
بِالْبَاطِلِ إِلاَّ أَنْ تَکُونَ تِجَارَةً عَنْ تَرَاضٍ مِنْکُمْ‏»‏‎[2]‎‏.‏

وغیر خفیّ:‏ أنّ الالتزام بکون هذه الاستثناءات من الـمتّصلـة وإن کان‏‎ ‎‏یمکن، إلاّ أنّـه یوجب تغلیظ الـقرآن، بل وتغلیطـه علیٰ وجـه سیّئ وإن کان‏‎ ‎‏مطابقاً للنحو الأعمّ، فافهم.‏

‏وأمّا هذه الآیـة فلا دلالـة فیها علیٰ أنّـه من الـمنقطع، وقضیّـة الأصل‏‎ ‎‏هو الاتّصال.‏

وتوهّم: ‏أنّ الـبیان الـمذکور لا یأتی فی هذه الآیـة؛ لأنّ الـمتکلّم‏‎ ‎‏استثنیٰ إبلیس، وحکم علیـه بأنّـه أبیٰ واستکبر، وکان من الـکافرین، فلیس‏‎ ‎‏الـنظر تأکید الـمستثنیٰ منـه، ‏فاسد‏، فإنّ الـتأکید یحصل؛ ضرورة أنّـه لـو کان‏‎ ‎‏فی الـملائکـة من لـم یسجد لاستثناه؛ لأنّـه أولیٰ، فیکون الـکلام لأجلـه‏‎ ‎‏متوغّلاً فی الـمرام والـمطلوب الـغیر الـقابل للتخصیص والـتقیـید، ولذلک‏‎ ‎‏منعنا جواز تخصیص الآیـة الـشریفـة ‏‏«‏لاَتَأْکُلُوا أَمْوَالَکُمْ...‏»‏‏ إلـیٰ آخره.‏

‏نعم الآیـة وإن کانت ساکتـة، إلاّ أنّـه بعد الـنظر إلـی الآیات الاُخر‏‎ ‎‏الـراجعـة إلـیٰ خلق الـشیطان، یظهر الانقطاع، ولکن بعد لـفت الـنظر إلـیٰ‏‎ ‎‏خلق الـملائکـة وأصنافها وأقسامها، وأنّ إبلیس منها، وأنّ الـشیاطین أیضاً‏‎ ‎‏باعتبار من الـملائکـة حسب ما عرفت، تصیر الـنتیجـة أنّ الاستثناء متّصل،‏‎ ‎‏ولعلّ الآیـة تدلّ علیٰ هذه الـجهـة، فیأتی الـبحث حولـه فی بعض الـمسائل‏‎ ‎‏الـکلّیـة الآتیـة إن شاء اللّٰه تعالـیٰ.‏

‏ ‏

‎ ‎

کتابتفسیر القران الکریم: مفتاح أحسن الخزائن الالهیة (ج. 5)صفحه 392

  • )) الدخان (44): 56.
  • )) النساء (4) : 29.