المسألة الثالثة
حـول کلمة «السماء»
« الـسماء» قال فی «الأقرب»: هی الـفلک الـکلّی، ومایحیط بالأرض من الـفضاء الـواسع، ویظهر فوقنا وحولنا، کقُبّـة عظیمـة فیها الـشمس و الـقمر وسائر الـکواکب. انتهیٰ.
وأصلـه من الـسُّمُوّ ب الـواو؛ لأنّـه بمعنیٰ الـعُلُوّ والارتفاع ولابأس بأن یُجمع علیٰ «أسْمِیـة»، کما عن بعضهم، فإنّ الـجمع وإن یردّ الأشیاء إلـیٰ
کتابتفسیر القران الکریم: مفتاح أحسن الخزائن الالهیة (ج. 4)صفحه 149
اُصولها، إلاّ أنّها لیست قاعدة کُلّیـة، ولذلک یجوز فی جمعها الـسَمَوات و الـسماوات.
وقال فی « الـقاموس»: الـسماء سقف کلّ شیء وکلّ بیت، وفی شرحـه: الـسماء کلّ ما علاک فأظلّک.
وبالجملة: اختلفت کلماتهم، ویظهر من موارد الاستعمال: أنّ الـسماء موضوع للأعیان الـواقعـة فی جهـة الـعُلُوّ والارتفاع، ویشهد لـه قول الـراغب: کلّ سماء بالإضافـة إلـیٰ مادونها فسماء، وبالإضافـة إلـیٰ ما فوقها فأرض، إلاّ الـسماء الـعلیا، فإنّها سماء بلا أرض. انتهیٰ.
ویدلّ علیـه الآیات الـکثیرة الـناطقـة: بأنّـه تع الـیٰ خلق الـسماوات والأرض، ف الـسماوات و الـسماویات واحدة. وأمّا توهّم أنّ الـسماء هی جهـة الـعُلُوّ والارتفاع، وإطلاقها علیٰ الأعیان الـواقعـة فی تلک الـجهـة نوع مجاز، فهو بلا وجـه ولایساعد علیـه الـلغـة.
نعم ربّما یختلج ب الـبال : أنّ إطلاق الـسماء علیٰ نفس الـقمر و الـشمس و الـنجوم غریب، ویُطلق علیها الـسماویّات، ولکنّـه مجرّد استبعاد لایرجع إلـیٰ محصّل؛ ضرورة أنّ الـسماء فی مقابل الأرض، وکما أنّ الأرض عبارة عن الـعین الـخارجیـة، والأرضیات هی الـموجودات فی الأرض، کذلک الـسماء . هذا کلّـه ب الـنظر إلـیٰ الـلّغـة وموارد الاستعمالات فی الـلّغـة.
کتابتفسیر القران الکریم: مفتاح أحسن الخزائن الالهیة (ج. 4)صفحه 150
وأمّا الـسماء فی الـقرآن فهی کما تستعمل فی جهـة الـعُلُوّ ، تُستعمل وتُطلق علیٰ الـعین الـخارجیـة.
فمن الأوّل: قولـه تع الـیٰ: «وَأَنْزَلَ مِنَ السَّمَاءِ مَاءً» وأمث الـها کثیرة، وقولـه تع الـیٰ: «کَأَنَّمَا یَصَّعَّدُ فِی السَّمَاء»، وقولـه تع الـیٰ: «بَرَکَاتٍ مِنَ السَّمَاءِ وَالْأَرْضِ» وغیر ذلک من الآیات الـکثیرة.
ومن الثانی: قولـه: «جَعَلَ لَکُمُ الْأَرْضَ فِرَاشاً وَالسَّمَاءَ بِنَاءً»، وقولـه تع الـیٰ: «سَبْعَ سَمَـٰوَاتٍ» وأمث الـه کثیر، وقولـه تع الـیٰ: «وَمِنْ آیَاتِهِ أَنْ تَقُومَ السَّمَاءُ وَالْأَرْضُ بِأَمْرِهِ»، وقولـه تع الـیٰ: «جَعَلَ لَکُمُ الْأَرْضَ قَرَاراً وَالسَّمَاءَ بِنَاءً»، وقولـه تع الـیٰ: «فَإِذَا انْشَقَّتِ السَّمَاءُ فَکَانَتْ وَرْدَةً کَالدِّهَانِ»، وقولـه تع الـیٰ: «أَفَلَمْ یَنْظُرُوا إِلَیٰ السَّمَاءِ فَوْقَهُمْ کَیْفَ بَنَیْنَاهَا وَزَیَّنَّاهَا»، وغیر ذلک من الآیات الـمشابهـة لها، وربّما یُطلق أحیاناً فی بعض الآیات علیٰ نفس السـحاب، نحـو قولـه تع الـیٰ: «وَأَرْسَلْنَا السَّمَاءَ عَلَیْهِمْ
کتابتفسیر القران الکریم: مفتاح أحسن الخزائن الالهیة (ج. 4)صفحه 151
مِدْرَاراً».
و الـذی هو الـمهمّ فی الـمقام حلّ مشکلةٍ تـتراءیٰ أحیاناً وهی : أنّ الـسماء بمعنیٰ جهـة الـعلوّ ممّا لا بأس بـه، و الـسماء بمعنیٰ الـکُرة الـخاصّـة من الـکُرات الـسماویـة، ک الـقمر و الـمریخ وأمث الـهما، أیضاً غیر ممنوع إذا اُطلق واُرید؛ سواء کان من الـمجاز أو من الـحقیقـة.
وأمّا إطلاق الـسماء وإرادة الـجسم الآخر الـمسمّیٰ ب الـفلک، الـمعروف عند أبناء الـهیئـة الـقدیمـة وأصدقاء بطلیمس وأصحابـه، أو إرادة الـجسم الآخر غیر الـفلک الـمصطلح علیـه فهو غیر واضح؛ ضرورة أنّ الـجوّ الـع الـمی و الـفضاء الأکبر فیـه الـکُرات الـکثیرة و الـمنظومات الـصغیرة و الـکبیرة، وکلّها معلّقات بغیر عَمَد ترونها، ولایوجد وراءها شیء آخر حسب الـعلم و الـمناظر الـیومیـة.
وربّما یختلج بالبال: أنّ الـقرآن قد تأثّر ب الـهیئـة الـباطلـة الـقدیمـة، وکان نظره إلـیٰ هدایـة الـناس من غیر تصدیق معتقداتهم الـعلمیـة، فإنّ من یقوم بإرشاد الـبشر، وبشارة الـطوائف و الـملل، وسیرهم فی الـملکوت الأعلیٰ، فلایهمّـه الاُمور الاُخر، وربّما کان تصدیقهم فیما لایضرّ ولاینفع، أولیٰ وأحسن فی وصولـه إلـیٰ مأمولـه وبلوغـه إلـیٰ مقصوده ومرامـه، وهو الاهتداء وإخراجهم من ظلمات جهالات الأخلاق و العمل والاعتقادات الخاصّة ـ کأحکام الـمبدأ و الـمعاد ـ إلـیٰ نور الـمعرفـة باللّٰه وبرسلـه وأحکامـه.
کتابتفسیر القران الکریم: مفتاح أحسن الخزائن الالهیة (ج. 4)صفحه 152
فعند ذلک یصحّ استعمال « الـسماء» فی ما اعتقدوه من الـسماوات الـسبع الـسیّارة؛ حتّیٰ قال اللّٰه تع الـیٰ: «اَلَّذِی خَلَقَ سَبْعَ سَمَـٰوَاتٍ طِبَاقاً»، فإنّـه یقرب من مق الـتهم الـفاسدة فی طبقات الـسماء وأنّها مطبقـة بعضها علیٰ بعض إلـیٰ الـسماء الـتاسع و الـجسم الـکلّی و الـفلک الأعلیٰ، وقال: «اَلَمْ تَرَوْا کَیْفَ خَلَقَ اللّٰهُ سَبْعَ سَمَـٰوَاتٍ طِبَاقاً»، فإنّـه کان ممّا یرون بعقولهم ، ویعتقدون بذلک حسب ماوصل إلـیهم من أسلافهم.
أقول: هذا أمر لایجوز فی حقّـه تع الـیٰ، وقد ادّعیٰ بعض الـقاصرین: أنّ جمیع الـقصص الـقرآنیـة قصص أخلاقیـة وتعلیمیـة؛ من غیر نظر إلـیٰ صدقها وکذبها، وهذا ممّا لایمکن تجویزه فی حقّـه تع الـیٰ، مع أنّـه خلاف الـظواهر و الـتواریخ، وتفصیلـه فی محلّ آخر.
وأمّا فیما نحن فیـه، فما یظهر لی ونشیر إلـیـه بإجم الـه ـ وتفصیلـه یطلب من مقام آخر ـ هو : أنّ الـسماء بناء مرکّب بغیر عمد ترونها ـ وهی الـجاذبـة الـعمومیـة الـتی لاتُریٰ، کما نصّ علیها الـقرآن ـ وهذا الـبناء مرکّب من الـکُرات الـمختلفـة الـمتطابقـة بحسب الـسیر و الـمسیر ومحالّ الـحرکـة الـدوریـة، فـ «مَا تَرَیٰ فِی خَلْقِ الرَّحْمٰنِ مِنْ تَفَاوُتٍ»، فهو تع الـیٰ جعل سبع سماوات طباقاً؛ أی بعضها فوق بعض ب الـقیاس إلـیٰ الـمرکز الأصلی، وهو الـشمس، أو ب الـنسبـة إلـیٰ الـمرکز الاعتباری، وهو الأرض.
وبالجملة: إطلاق الـسماء وإرادة جهـة الـعُلُوّ جائز، وأمّا فی هذه الآیات
کتابتفسیر القران الکریم: مفتاح أحسن الخزائن الالهیة (ج. 4)صفحه 153
الـشریفـة فقد أطلق علیٰ الأجرام الـفلکیـة ، وهذا أیضاً کما اُشیر إلـیـه جائز، وقد نصّ علیـه فی الـلغـة.
وبما ذکرنا یظهر إمکان حلّ الـمشکلـة الـمعروفـة الـمشار إلـیها، وربّما یأتی تفصیل آخر حولـه بمناسبات اُخر.
کتابتفسیر القران الکریم: مفتاح أحسن الخزائن الالهیة (ج. 4)صفحه 154