الوجه الثالث عشر
حـول توجیه هذا التمثیل
اختلفوا فی توجیـه هذا الـتمثیل، وتشتّت نظریّاتهم فی توضیح وجـه الـتشبیـه، ومنشأ هذا الاختلاف تفرّق ذوقیاتهم الـنفسانیـة وإدراکاتهم، فق الـوا فی موقف الـتشبیـه الـمفرّق: إنّ الـصیِّب مَثَلٌ للإسلام، و الـظُّلُمات مَثَلٌ لما فی قلوبهم من الـنفاق، و الـرعد و الـبرق مثلان لما یُخوَّفون بـه، أو أنّ الـبرق مَثَل للإسلام، و الـظلمات مَثَل للفتنـة و الـبلاء، أو الـصیِّب الـغیث الـذی فیـه الـحیاة للإسلام، و الـظلمات مثل لإسلام الـمنافقین، وما فیـه من إبطان الـکفر، و الـرعد مَثَل لما فی الإسلام من حقن الـدماء والاختلاط ب الـمسلمین فی الـمناکحـة و الـموارثـة، و الـبرق ومافیـه من الـصواعق، مَثَل لما فی الإسلام من الـزجر ب الـعقاب فی الـعاجل والآجل.
وقیل: إنّ الـصیِّب و الـظلمات و الـرعد و الـبرق و الـصواعق کانت حقیقـة أصابت بعض الـیهود، فضرب اللّٰه مثلاً بقصّتهم الـواقعـة علیهم.
وهذا وما سبق مرویّ عن ابن مسعود وابن عبّاس و الـحسن.
کتابتفسیر القران الکریم: مفتاح أحسن الخزائن الالهیة (ج. 4)صفحه 189
وقیل: إنّ الـصیّب ضُرِب مثلاً لما أظهر الـمنافقون من الإیمان، و الـظلمات مثلاً لضلالتهم وکفرهم الـذی أبطنوه، وما فیـه من الـبرق لما علاهم من خیر الإسلام... إلـیٰ غیر ذلک من الـتخیّلات الـمذکورة فی الـمفصّلات.
وأمّا فی موقف الـتشبیـه الـمرکّب فق الـوا: إذا حصل الـصیِّب وفیـه الـظلمات و الـرعد و الـبرق، ثم اجتمعت الـظلمات: ظلمـة الـسحاب وظلمـة الـلیل وظلمـة الـمطر، وکانت تعانقها الـصواعق، فیجعلون أصابعهم فی آذانهم حذر الـموت فیقعون فی الـحیرة الـشدیدة، فشبّـه حال الـمنافقین بح الـهم فی الـحیرة والاضطراب، وحیث هم یجهلون طریق الاهتداء شبّـه جهلهم بجهل المصابین فی تلک الـظلمات.
أو أنّ الـمطر بحسب الـطبع نافع، ویزول نفعـه فی تلک الـح الـة، وهؤلاء الـمنافقون یکون إظهارهم للإیمان نافعاً بما هو إظهار، إلاّ أنّـه یضرّهم لأجل مقارنتـه مع خبث الـباطن وفساد الـسریرة وفقد الإخلاص و الـنیّـة الـصحیحـة.
أو أنّ عادة الـمنافقین کانت هی الـتأخّر عن الـجهاد؛ لأجل الـخوف من الـموت و الـقتل، فشبّـه اللّٰه تع الـیٰ ح الـهم الـباطلـة بحال من نزلت هذه الاُمور بـه وأراد دفعها بجعل أصابعـه فی آذانـه.
کتابتفسیر القران الکریم: مفتاح أحسن الخزائن الالهیة (ج. 4)صفحه 190
أو أنّ هؤلاء الـمصابین بتلک الـکوارث الـجوّیـة؛ وإن نَجَوا من الـموت و الـهلاک؛ لأجل ما صنعوا بجعل الأصابع فی الآذان، إلاّ أنّ الـموت من ورائهم: کذلک الـیهود الـمنافقون، فإنّهم وإن یخوضوا لحقن دمائهم عن الـموت و الـهلاک، إلاّ أنّ الـموت و الـفظاعـة من ورائهم.
أو غیر ذلک من الـوجوه الـتخیّلیـة لتوجیـه الـتشبیـه الـمرکب.
والذی یظهر لی ـ کما أشرنا إلـیـه ـ : أنّ وجـه الـتشبیـه یتبیّن من الـنظر إلـیٰ حال الـمنافق وما یصنعـه، وماهو مقصوده من الـنفاق، والإظهار الـمشفوع بالإبطان، فإذا نظرنا إلـیٰ ما تصدّیٰ الـمنافقون فی الـمدینـة؛ من إظهار الإسلام وإبراز انسلاکهم فی زمرة الـمسلمین، وکانت ح الـهم بحسب الـظاهر حال الـمسلم الـواقعی و الـمؤمن الـحقیقی، وکانوا فی تلک الـح الـة الـمخادعـة مشغولین بالاُمور الإفسادیـة، وب الـتحریک علیٰ الإسلام و الـمسلمین؛ بإیجاد الـفتنـة الـمنتهیـة إلـیٰ هضم أساس الـتوحید، وهدم بنیان الـدین و الـتشریع و الـتفرید، وکانوا فی عین ذلک محافظین علیٰ أنفسهم من الـضربات الـمهلکـة، الـتی یمکن أن تـتوجّـه إلـیهم من قبل رئیس الإسلام و الـمسلمین، وکانوا یتشبّثون للحفاظ علیٰ أنفسهم بکلّ مایتمکّنون منـه، وإن کان ذلک موجباً لفظاعتهم وفضیحتهم واتّضاح مرامهم وظهور مقاصدهم؛ لأنّ ذلک هو الـمنظور الأقصیٰ.
فإذا اطّلعت علیٰ هذه الـخصائص والأحوال منهم، یتبیّن وجـه الـتشبیـه الـمفرَّق و الـمرکَّب علیٰ أحسن الـوجـه.
کتابتفسیر القران الکریم: مفتاح أحسن الخزائن الالهیة (ج. 4)صفحه 191
فإبرازهم الإسلام هو ظهور الـمطر و الـصیِّب، ونزول کلمات الـشهادتین نزولُ قطرات الأمطار، وتقارن ح الـهم الـنفاقیـة تقارن تلک الأمطار مع الـحوادث الـجویّـة، وغلبـة تلک الـح الـة علیٰ إظهار الإسلام فی الإفساد، هی غلبـة تلک الـمُقارنات الـجوّیـة علیٰ تخریب الـثمرات و الـمیاه الـنازلـة و الـخیرات الـمتوقّعـة، وتحفّظهم علیٰ أنفسهم فی خبایا نفاقهم وزوایا أفع الـهم الـشنیعـة، هی محافظـة الـمصابین علیٰ أنفسهم فی خلال تلک الـظلمات و الـرعود و الـبروق و الـصواعق، الـغ الـبـة علیٰ مص الـح الأمطار والإسلام والإیمان؛ بجعل أصابعهم فی آذانهم حَذَرَ الـموت و الـفناء وخوف الـقتل والانعدام، وتشبّثهم بالإسلام مع نفاقهم الـمعلوم لرئیس الإسلام، عین تشبّث تلک الـفرقـة بجعل أصابعهم بأجمعها فی آذانهم، مع أنّها تشبـه الاستهزاء و الـهتک، وغفلتهم عن عدم انتفاعهم بنفاقهم من الـمحکومیـة ب الـموت، هو ذهولهم عن انتفاع تلک الـفرقـة بتلک الـطریقـة الـبسیطـة عن الـموت و الـمحکومیـة ب الـفناء إذا کان یریده اللّٰه تع الـیٰ.
ثمّ بعد ذلک سقوطهم فی الـجوامع الـبشریـة عن الاعتبار والاعتماد، وتحیّرهم فی صنعهم وفیما ابتُلوا بـه من الـفظاعـة والافتضاح، وتنفّر الـطباع الإنسانیـة عنهم، وندامتهم عمّا صنعوا مع الإسلام و الـمسلمین، مع عدم وصولهم إلیٰ ما کانوا یأملون، ویعملون ما لایعنون، راغبین أن یصلوا إلـیٰ أقصیٰ مقاصدهم، غافلین عن ذلک کلّـه . وغیر ذلک من الـتخیّلات ، کلّها یُشبـه فی الـمجموع الـمرکّب حال تلک الـفرقـة الـمُصابـة بتلک الـمصائب؛ وإن کان فیها صائب من الـسماء یُرجیٰ منـه فی حدّ ذاتـه الـخیرات و الـبرکات. واللّٰه من ورائهم محیط.
کتابتفسیر القران الکریم: مفتاح أحسن الخزائن الالهیة (ج. 4)صفحه 192