الوجه الثانی
حـول تناقض الصدر والذیل
ربّما یوهم الـمناقضـة صدر الآیـة وذیلها، فإنّ الـخطاب بما أنّـه عامّ یشمل جمیع الأجیال و الـطبقات، وقولـه تع الـیٰ: «اُعْبُدُوا»لا یمکن أن یکون عامّاً؛ لأنّ طائفـة من الـناس کانوا یعبدون ربّهم الـذی خلقهم، ولأجل هذه الـمنافرة الـمتوهّمـة ربّما ذهب بعضهم إلـیٰ اختصاص الآیـة الـشریفـة ب الـکفّار، ویؤیّد هذا الـمذهب قولـه تع الـیٰ بعد آیـة: «وَإِنْ کُنْتُمْ فِی رَیْبٍ»، فخروج الـمؤمنین بل الّذین یعبدون ربّهم قطعی، فتکون الآیـة مخصوصـة ب الـمشرکین الّذین کانوا یعبدون الأصنام، ویتقرّبون بها إلـیٰ اللّٰه تع الـیٰ، ویشهد لـه الـمنساق من الآیـة الـکریمـة، فإنّ قولـه تع الـیٰ: «رَبَّکُمُ الَّذِی خَلَقَکُمْ» کأنّـه سیق لإفادة أنّ الـواجب عبادة الـخ الـق لا غیره، فتکون الآیـة لردْع عَبَدة الأوثان، وربّما یدلّ علیـه قولـه تع الـیٰ فی الآیـة الـت الـیـة: «وَلاَ تَجْعَلُوا لِلّٰهِ أنْدَاداً».
وربّما یقال : إنّ هذه الآیة من قبیل قوله تع الیٰ : «إِهْدِنَا الصِّرَاطَ الْمُسْتَقِیمَ»فکمـا أنّ هنـاک یکـون طلب الـهدایـة راجعاً إلـیٰ طلب
کتابتفسیر القران الکریم: مفتاح أحسن الخزائن الالهیة (ج. 4)صفحه 301
الاستدامـة والاشتداد، یکون الأمر هنا طلباً للعبادة وللاستدامـة علیٰ عبادة اللّٰه والاشتداد فی ذلک.
أقول: أمثال هذه الـخطابات الـعامّة الـکلّیّـة ـ سواء کانت قانونیّـة أو إرشادیـة ـ کثیرة، ولا یضرّ بعمومها الـقانونی ولا بشمولها الإرشادی، امتثالُ جماعـة وعملُهم بها قبل الـتقنین والإرشاد؛ ضرورة أنّ عائلـة الـبشر بین سعید وشقیّ ومتوسّط، و الـسعداء کثیراً ما لقوّة إدراکهم یعملون ب الـخیرات، ویترکون الـشرور، ومع ذلک لیسوا خارجین عن الأوامر الـکلّیـة الـعامّـة الـمتوجهـة إلـیٰ عموم الـنّاس، الآمرة ب الـخیر و الـناهیـة عن الـشرّ.
والسرّ کلّ السرّ ما تحرّر فی الاُصول: من أنّ الـخطابات الـقانونیـة وغیرها، لیست تنحلّ إلـیٰ الـخطابات الـجزئیّـة و الـشخصیّـة، بل هی خطابات کلّیـة عامّـة، یشترک فیها الـعصاة و الـکفّار و الـسعداء، و الـذین کانوا یصنعون الـخیر طبعاً، ویترکون الـشرّ جِبِلّـة، وهذه الـمناقضـة الـمتوهّمـة نشأت من تحلیل قولـه تع الـیٰ: «یَا أَیُّهَا النَّاسُ اعْبُدُوا رَبَّکُمُ» إلـیٰ الـخطابات الـجزئیـة و الـشخصیـة، فیکون خطاب من یعبد اللّٰه تع الـیٰ فی نهایـة الإخلاص من الـلغو؛ لما لا یترتّب علیٰ الأمر و الـبعث الـمزبور أثر وتحریک، وأمّا علیٰ ما تحرّر فهو خطاب کلّیّ قانونیّ عامّ، لا یلاحظ فیـه خصوصیّات الـمخاطبین، بل یکفی وجود جماعـة غیر عابدین لربّهم الّذی خلقهم لتوجیـه الکلّ بهذا الخطاب العامّ، وتفصیلـه یطلب من تحریراتنا
کتابتفسیر القران الکریم: مفتاح أحسن الخزائن الالهیة (ج. 4)صفحه 302
الاُصولیّـة، وقد أبدَعَ هذه الـمق الـة فی هذا الـمیدان و الـدنا الـمحقّق الـنحریر ـ جزاه اللّٰه خیراً ـ وقد استفدنا منها الـمسائل الـکثیرة، ورتّبنا علیها الآثار، وبها تنحلّ معضلات غیر عزیزة.
ثمّ إنّ فی هذا الـمقام کلاماً آخر فی طور غیر هذا الـنمط، یأتی علیکم فی بعض الـبحوث الآتیـة إن شاء اللّٰه تع الـیٰ.
بقی شیء: ربّما یظهر من شیخنا الـطوسی ـ قدّس سرّه الـقدّوسی ـ وجـه آخر بـه تنحلّ هذه الـمعضلـة وهو : أنّ الأمر ب الـعبادة معناه الأمر بکلّ ما هو عبادة اللّٰه؛ من معرفتـه تع الـیٰ ومعرفـة أنبیائـه و الـعمل بما أوجبـه علیهم وندبهم إلـیـه، وهو الأقویٰ. انتهیٰ.
وأنت خبیر: بأنّ الـمعرفـة لیست عبادة إلاّ ب الـمجاز والادّعاء، والإتیان ب الـواجبات و الـمندوبات ولو کان من الـعبادة أحیاناً، إلاّ أنّ هذه الآیـة بصدد سوق الـنّاس من عبادة الـباطل إلـیٰ الـحقّ، وفی مقام الـردع عن الأباطیل و الـضلالـة وعبادة الأوثان إلـیٰ الـهدایـة وعبادة اللّٰه تع الـیٰ.
فبالجملة: الأمر ولو کان إرشاداً وموعظـة ولکنّـه عامّ شامل، ویکون نظره إلـیٰ هذه الـجهـة من الـجهات، لا الـذی قوّاه، فلا تخلط.
کتابتفسیر القران الکریم: مفتاح أحسن الخزائن الالهیة (ج. 4)صفحه 303