عود علیٰ بدء
قد أشرنا إلـیٰ أنّ هذه الآیـة تدلّ علیٰ إمکان الـتکلیف ب الـمحال خلافاً لأکثر الـمخ الـفین.
ووجـه الـدلالـة: أنّ الـجمع بین عموم هذه الآیـة وعموم قولـه تع الـیٰ: «إِنَّ الَّذِینَ کَفَرُوا سَوَاءٌ عَلَیْهِمْ أَأَنْذَرْتَهُمْ أَمْ لَمْ تُنْذِرْهُمْ لاَ یُؤْمِنُونَ» یوجب إمکانـه؛ ضرورة أنّ من شرائط الـتکلیف والأمر احتمال الأثر واحتمال الانبعاث أو الـقطع بـه، وفی صورة الـقطع بعدم الـتأثیر لا معنیٰ للأمر.
وهذا هو الـبحث الـمعنون فی الاُصول تحت عنوان: أنّـه هل یجوز أمر الآمر مع الـعلم بانتفاء شرطـه أم لا؟ وقد ذهب أصحابنا إلـیٰ الـثانی، وأکثر الـمخ الـفین إلـیٰ الأوّل، وقد تحرّر تحقیق الـمسألـة فی محلّـه.
وإجماله: أنّ هذه الـمسألـة من فروع مسألـة اُخریٰ: وهو أنّـه کیف
کتابتفسیر القران الکریم: مفتاح أحسن الخزائن الالهیة (ج. 4)صفحه 320
یُعقل صدور الأمر الـجدّی ـ بل الـتکلیف الـجدّی ـ من الـع الـم ب الـهویات ب الـنسبـة إلـیٰ طائفـة الـعصاة و الـکفّار و الـملحدین و الـفاسقین، الـذین لا یسمعون ویستهزئون ولا یؤمنون؛ سواء توجّـه إلـیهم الإنذار وعدمـه؟ وتصیر الـنتیجـة امتناع عقابهم؛ لأنّـه فرع الـتکلیف الـممنوع فی حقّهم.
وبالجملة: امتناع تکلیف الـفاقدین شرط الـتکلیف ـ کاحتمال الانبعاث والانزجار فی الأوامر و الـنواهی ـ واضح، وهذه الآیـة بضمیمـة ما سبق یمکن أن یستدلّ فیها علیٰ الـمسألـة الـکلامیّـة، وهذه الـمسألـة اُصولیـة، وتصیر الـنتیجـة عدم استحقاق طائفـة من الـفجّار للعقاب.
ولذلک ذهب جمع منّا إلـیٰ أنّ الأوامر: بین ما هی إعذاریـة وبین ما هی واقعیّـة، وأمّا الأوامر الـواقعیّـة کالأوامر الـشائعـة الـمتعارفـة إلـیٰ من یحتمل فی حقّـه الاستماع و الـتأثیر، وأمّا الأوامر الإعذاریّـة فهی تلک الأوامر الـمتوجّهـة إلـیٰ هؤلاء الـنّاس من الأضلّین الـساقطین الـقاسطین، فإن بها ینقطع أعذارهم؛ «لِیَهْلِکَ مَنْ هَلَکَ عَنْ بَیِّنَةٍ وَیَحْیَیٰ مَنْ حَیَّ عَنْ بَیِّنَةٍ»، وبهذه الأوامر یستحقّون الـعذاب و الـعقاب.
وفیـه: أنّ الأوامر الامتحانیّـة والإعذاریـة ولو کانت أوامر واقعیّـة فی وجـه وصادرة عن جدٍّ، إلاّ أنّ مجرّد کون الأمر صادراً عن جدّ لا یلیق بأن یکون موجباً للاستحقاق؛ ضرورة أنّ اللّٰه تبارک وتع الـیٰ لا یرید الانتقام، ولا یرید قطع عذر الـعباد، بل یرید الـهدایـة والإصلاح، فإنّـه أرحم الـرّاحمین.
فعلیٰ هذا لو احتجّ الـعبد الـعاصی الـکافر: بأنّ سبب استحقاق سائر
کتابتفسیر القران الکریم: مفتاح أحسن الخزائن الالهیة (ج. 4)صفحه 321
أهل الـنّار لیس إلاّ أنّهم مکلّفون بالاُصول و الـفروع، وقد أراد اللّٰه منهم الإیمان و الـهدایـة، فکفروا ولم یمتثلوا أوامره الـتکلیفیّـة، وأمّا نحن ففی مَخْلص لم یکن اللّٰه تع الـیٰ یرید منّا شیئاً جدّاً، ولا یُعقل أن یرشدنا جدّاً إلـیٰ ما لا یسمع، ولا یمکن توجیـه الأوامر الإرشادیـة الـجدّیـة ب الـنّسبـة إلـینا، فعلیـه کیف یُعقل أن یعاقبنا علیٰ ما لا یرید منّا.
وإن شئت قلت: فلیکن عقابنا علیٰ ما یعاقب الآخرین، ولیس قطع الـعذر کافیاً لاستحقاق الـعقوبـة.
فما ذهب علماؤنا الاُصولیّون ـ إلاّ بعضهم ـ إلـیـه: من أنّ حلّ هذه الـمشکلـة بالأوامر الإعذاریـة ممکن، غیر واقع فی محلّـه.
والذی تنحلّ به هذه المشاکل أحد اُمور ثلاثة:
الأوّل: أنّ الـعقاب من تبعات الـذوات والأخلاق والأفعال، والأوامر الـشرعیـة ألطاف فی الـواجبات الـعقلیّة.
الثانی: أنّ امتناع الـتکلیف من ناحیـة سوء اختیار الـعبد، فلا یکون ـ حینئذٍ ـ هؤلاء الـعباد معذورین.
وبالجملة: ربّما لا یتوجّـه إلـیهم الـتکلیف؛ لقصور فی الـمقتضی، أو لوجود الـمانع الـراجع إلـیـه أیضاً، وربّما یکون ذلک لأجل امتناع الـعبد عن الامتثال، لکن الـعقلاء بناؤهم علیٰ استحقاق هذا الـعبد.
الثالث: ما أشرنا إلـیـه فی هذا الـکتاب مراراً ـ وتنقیحـه فی الاُصول ـ : أنّ امتناع الـتکلیف فی حقّهم، ناشئ من تخیّل انحلال الـخطابات الـکلّیـة الـقانونیـة إلـیٰ الـخطابات الـشخصیـة الـجزئیـة، وحیث قد تحصّل فی مقامـه فساد هذا الانحلال، یصحّ الـتکلیف الـفعلی ب الـنسبـة إلـیٰ طائفـة
کتابتفسیر القران الکریم: مفتاح أحسن الخزائن الالهیة (ج. 4)صفحه 322
الـعصاة و الـعاجزین و الـکفّار و الـمنافقین و الـفجّار و الـجاهلین الـمعلوم عدم استماعهم إلـیٰ الـتک الـیف، وجمیع الـعباد مشترکون فی هذا الـتکلیف، ومختلفون فی الأعذار، فمنهم من یُقبل عذره، ومنهم من لا یقبل عذره، وعندئذٍ ینحلّ کثیر من الـمشاکل الـعلمیـة فی شتّیٰ الـنواحی ومختلف الـمیادین، ونحن نشیر إلـیها فی محالّها، وتحقیق أصل الـمبحث لیطلب من موسوعتنا فی علم الاُصول. واللّٰه هو الـموفّق الـمؤیّد.
کتابتفسیر القران الکریم: مفتاح أحسن الخزائن الالهیة (ج. 4)صفحه 323