الوجه الثالث
اشتماله علیٰ الحقائق الحکمیة والطبیعیّة
إنّ القرآن کشف عن نقاب الحقائق الحکمیة والمسائل الفلسفیة فی عبارات موجزة، فینادی ـ مثلاً ـ :
فی موقف الإشارة إلـیٰ مسألـة وحدة الـوجود وأص الـتـه بقولـه: «اَلله ُ نُورُ السَّمَوَاتِ وَالْأَرْضِ»، وبقولـه: «مَایَکُونُ مِنْ نَجْویٰ ثَلاَثَةٍ إِلاَّ هُوَ رَابِعُهُمْ»، وبقولـه: «هُوَ الْأَوّلُ وَالاْخِرُ وَالظَّاهِرُ وَالْبَاطِنُ».
وینادی ـ مثلاً ـ فی موقف مسألـة کیفیّـة حصول الـکثرة فی الـع الـم
کتابتفسیر القران الکریم: مفتاح أحسن الخزائن الالهیة (ج. 4)صفحه 489
بالأیمان والأقسام فی الـسور الأخیرة الـمکّیـة، کسورة الـمرسلات و الـعادیات و الـنازعات، وفی هذه الـیمینیات أسرار إلـهیـة ومسائل فلسفیـة بلغت غایتها فی عبارات رائقـة مختلفـة الـمراتب؛ حسب اختلاف رُتب عقول الـبشر وأفکار الـقارئین.
وفی موقف وجود الـوسائط بین الـواحد الأوّل الـبسیط و الـمادّة الـتی مثار الـکثرة ینادی ـ مثلاً ـ بقولـه: «أَحْسَنُ الْخَالِقِینَ».
وفی موقف مسألـة الـعلم ونفوذه بقولـه: «أَلاَ یَعْلَمُ مَنْ خَلَقَ وَهُوَ اللَّطِیفُ الْخَبِیرُ»، وقد أدّیٰ الـبرهان وبلغ إلـیٰ میقات الـفرقان فی أنّ علمـه تع الـیٰ بکلّ شیء، لیس علیٰ سبیل الـعلوم الـکلّیـة الـمتعلّقـة ب الـمفاهیم الـعامّـة.
وفی موقف نفوذ قدرتـه وسریان سلطنتـه، وفی مسألـة الـجبر والاختیار جاء بالآیات الـکثیرة الـتی تشتمل علی اختلاف الـنسب، فتارة ینسب فعلاً واحداً إلـیـه تع الـیٰ، فیقول: «اَلله ُ نَزَّلَ أَحْسَنَ الْحَدِیثِ»، واُخریٰ یقول: «نَزَلَ بِهِ الرُّوحُ الْأَمِینُ عَلَیٰ قَلْبِکَ»، وفی سورة الـواقعـة آیات ثلاثـة ب الـغـة إلـیٰ غایـة اضمحلال فعل الـعبد فی فعلـه، فیقول: «أَأَنْتُمْ تَزْرَعُونَهُ أَمْ نَحْنُ الزَّارِعُونَ...» إلـیٰ آخره، فإنّ فیها نداء إلـیٰ إسقاط
کتابتفسیر القران الکریم: مفتاح أحسن الخزائن الالهیة (ج. 4)صفحه 490
الإعداد و الـعلّیـة الـناقصـة، کما لایخفیٰ علی الـخبیر الـبصیر.
وبقولـه: «وَالله ُ خَلَقَکُمْ وَمَاتَعْمَلُونَ» یُنادی إلـیٰ نهایـة الـمأمول لأهل الـیقین، وغایـة الـمقصود لأصحاب الـعرفان و الـدین، وأنّ قدرتـه وإرادتـه نافذة فی کلّ شیء وکلّ فعل، کما علیـه أحادیث أئمّتنا ـ علیهم الـصلوات و الـسلام ـ وهو مقتضیٰ الـبراهین الـحکمیـة والأدلّـة الـفلسفیـة الـمحرّرة فی « الـحکمـة الـمتع الـیـة» و« الـقواعد الـحکمیـة».
وفی موقف صفاتـه وأسمائـه، وأنّها عین ذاتـه، ینادی بقولـه: «هُوَ الله ُ الَّذِی لاَ إِلَـٰهَ إِلاّ هُوَ الْمَلِکُ الْقُدُّوسُ السَّلاَمُ الْمُؤمِنُ الْمُهَیْمِنُ الْعَزِیزُ الْجَبَّارُ الْمُتَکَبِّرُ... لَهُ الأسْمٰاءُ الحُسْنَیٰ»فتدبّر جیّداً.
وفی موقف أنّ بسیط الـحقیقـة کلّ الأشیاء، ولیس بشیء منها، ینادی ویشیر ـ مثلاً ـ بقولـه: «قُلْ کُلٌّ مِنْ عِنْدِ الله ِ»، وبقولـه: «وَمَا أَمْرُنَا إِلاَّ وَاحِدَةٌ»، فإنّـه یفید أنّ الـبسیط کلّ الأشیاء؛ سواء کان آمراً أو أمراً.
وفی موقف مسألـة امتناع صدور الـکثیر منـه تع الـیٰ ومن الـبسیط علیٰ الإطلاق، یُنادی ـ مثلاً ـ بأعلیٰ صوتـه: «وَمَا أَمْرُنَا إِلاَّ وَاحِدَةٌ».
وفی موقف لزوم الـسِّنخیـة بین الـعلّـة و الـمعلول بقولـه: «قُلْ کُلٌّ یَعْمَلُ عَلَیٰ شَاکِلَتِهِ».
کتابتفسیر القران الکریم: مفتاح أحسن الخزائن الالهیة (ج. 4)صفحه 491
وفی موقف قوسی الـنزول و الـصعود بقولـه: «إِنَّا لِلّٰهِ وَإِنَّا إِلَیْهِ رَاجِعُونَ».
وفی موقف تقسیم الـموجودات إلـی الـمبدعات و الـکائنات، وأنّـه تع الـیٰ فاعل ب الـتجلّی بقولـه: «إِنَّمَا أَمْرُهُ إِذَا أَرَادَ شَیْئَاً أَنْ یَقُولَ لَهُ کُنْ فَیَکُونُ»، وأنّ نسبـة الـع الـم إلـیـه تع الـیٰ کنسبـة الـصور الـذهنیـة إلـی الأنفس الـمجرّدة، مع فرق غیر خافٍ علیٰ أرباب الـعقول و الـفحول من أصحاب الـوصول.
وفی موقف ربط الـحادث ب الـقدیم الـذی هو من أغمض الـمسائل الإلهیـة، یشیر أحیاناً بقولـه: «اَلله ُ نُورُ السَّمَواتِ وَالْأَرْضِ»، وبقولـه: «هُوَ مَعَکُمْ أَیْنَمَا کُنْتُمْ»، وبقولـه: «فَأَیْنَمَا تُوَلُّوا فَثَمَّ وَجْهُ الله ِ».
هذه جملـة قلیلـة من الآیات الـتی تکون رمزاً إلـی الـمسائل الـع الـیـة الـعلمیـة الـتی وصل إلـیها الـعلم الإلهی بعد مُضیّ الألف والأکثر.
وهناک آیات ربّما تکون إشارة ورمزاً إلیٰ المسائل الطبیعیة العامّة کمسألـة الـحرکـة الـجوهریـة وبعض الـمسائل الاُخر:
فمنها: قولـه تع الـیٰ فی موقف مسألـة حدوث الـنفس حدوثاً جسمانیّاً قبال الـقائلین بأنّها حادثـة بحدوث الـبدن، أو کان قدیماً، وذلک قولـه: «ثُمَّ
کتابتفسیر القران الکریم: مفتاح أحسن الخزائن الالهیة (ج. 4)صفحه 492
أَنْشَأْنَاهُ خَلْقَاً آخَرَ».
وقولـه فی موقف مسألـة الـحرکـة الـجوهریـة: «وَتَرَیٰ الْجبَالَ تَحْسَبُهَا جَامِدَةً وَهِیَ تَمُرُّ مَرَّ السَّحَابِ».
أو قولـه: «بَلْ هُمْ فِی لَبْسٍ مِنْ خَلْقٍ جَدِیدٍ».
وقولـه فی ترتیب مراتب الـخلق من الـماء و الـطین إلـیٰ الـنطفـة و الـعلقـة إلـیٰ آخر الآیـة.
وفی موقف الـجاذبـة الـعامّـة: «أَلَمْ نَجْعَلِ الْأَرْضَ کِفَاتَاً* أَحْیَاءً وَأَمْوَاتَاً».
وفی موقف کیفیـة حصول الـکرات الـسماویـة: «نَأْتِی الْأَرْضَ نَنْقُصُهَا مِنْ أَطْرَافِهَا».
وفی موقف الـفلکیات وهدم أساس الـهیئـة الـقدیمـة آیات کثیرة مذکورة فی محالّها، وقد جمعها الـعلاّمـة الـشهیر الـشهرستانی، والّفت رسالـة فی هذه الـمسألـة مستقلّـة فی الـسنوات الـبعیدة.
وبالجملة: یشیر الـکتاب الـعزیز بحرکـة الأرض عند قولـه: «وَالْأَرْضَ بَعْدَ ذَلِکَ دَحَاهَا»، وإلـیٰ حاجتها إلـی الـجبال فی مسألـة
کتابتفسیر القران الکریم: مفتاح أحسن الخزائن الالهیة (ج. 4)صفحه 493
تعدیل حرکتها بقولـه: «وَالْجِبَالَ أَرْسَاهَا»، وربّما یُشیر إلـیٰ الـمسألـة الاُولیٰ قولـه تع الـیٰ: «وَتَرَیٰ الْجِبَالَ تَحْسَبُهَا جَامِدَةً» وإلـی مسألـة کرویـة الأرض ربّما یشیر قولـه تع الـیٰ: «رَبُّ الْمَشَارِقِ وَالْمَغَارِبِ»، وإلـیٰ مسألـة إمکان الـصعود إلـیٰ الـسماء ب الـسلطان، فینهدم أساس امتناع الـخرق والالتئام فی الـفلک بقولـه تع الـیٰ: «یَامَعْشَرَ الْجِنِّ وَالإِنْسِ إِنِ اسْتَطَعْتُمْ أَنْ تَنْفُذُوا مِنْ أَقْطَارِ السَّمَـٰوَاتِ وَالْأَرْضِ فَانْفُذُوا...» إلـیٰ آخره. وإلـیٰ مسألـة مبدأ خلق الـسماء والأرض بقولـه: «ثُمَّ اسْتَوَیٰ إِلَیٰ السَّمَاءِ وَهِیَ دُخَانٌ» فإنّ مایثبت عند الـمحقّقین لایرجع إلـی أکثر من ذلک، وإلـیٰ مسألـة تعدّد الأرض بقولـه: «وَمِنَ الْأَرْضِ مِثْلَهُنَّ»خلافاً لما علیـه حکماء الـسلف.
وبالجملة: تحتاج هذه الـورطـة إلـیٰ کُتب اُخر غیر کتابنا، ولو وفّقنی الله تع الـیٰ لإتمام هذا الـسِّفْر الـحقیر ـ لحقارة ساطره ـ لأشرنا خلال الـمباحث والآیات إلـیٰ أعاجیب الـکتاب، وما فیـه من حلّ الـمشاکل و الـمعاضل.
وبالنتیجة: فی کلّ وادٍ من الـمسائل الـعرفانیـة والاُلوهیـة و الـحکمیـة الإلهیـة و الـفلسفـة الـطبیعیـة و الـمادّیـة، یکون للقرآن قدم راسخ، وفیـه
کتابتفسیر القران الکریم: مفتاح أحسن الخزائن الالهیة (ج. 4)صفحه 494
آیات باهرة ظاهرة کاشفـة عن تلک الـحقائق برموز وإشارات وتنبیهات.
فمن الـمسائل الإلهیـة مسألـة الـتشکیک فی الـوجود وإلـیها ربّما یشیر قولـه تع الـیٰ: «أَنْزَلَ مِنَ السَّمَاءِ مَاءً فَسَالَتْ أَوْدِیَةٌ بِقَدَرِهَا»، وفیـه الإشارة إلـیٰ مسألـة مجعولیـة الـوجود وأص الـة الـوجود أیضاً.
ومن الـمسائل الـشامخـة الإلهیـة الـمصرَّح بها فی الـقرآن الـمبین مسألـة نُطْق الأشیاء و الـحیوانات وإدراکهم الـمرکّب وعملهم ب الـعلم وإلـیها یشیر آیات: فمنها قولـه تع الـیٰ: «وَإِنْ مِنْ شَیْءٍ إِلاَّ یُسَبِّحُ بِحَمْدِهِ وَلَکِنْ لاَتَفْقَهُونَ تَسْبِیحَهُمْ»، وقولـه تع الـیٰ: «کُلٌّ قَدْ عَلِمَ صَلاَتَهُ وَتَسْبِیحَهُ»، وقولـه تع الـیٰ: «الَّذِی أَنْطَقَ کُلَّ شَیْءٍ»، وقولـه: «عُلِّمْنَا مَنْطِقَ الْطَّیْرِ»، وقولـه: «وَقَالَتْ نَمْلَةٌ یَا أَیُّهَا النَّمْلُ ادْخُلُوا مَسَاکِنَکُمْ...» إلـیٰ آخره، وغیر ذلک من الـباهرات الـواضحـة و الـواضحات الـباهرة.
ثمَّ إنّ مقتضیٰ الـبراهین الـقطعیـة الـعقلیـة جسمانیـة الـمعاد، ومعاد کلّ شیء إلـیـه تع الـیٰ، وإلـیـه الإشارات و الـتصریحات فی ذلک الـکتاب الـمبین، الـذی لاریب فیـه فی ذلک الـعصر الـمظلم الـممثَّل ب الـغیاهب، ویشیر فیـه إلـیٰ مسألـة تجسّم الأعمال وأنّ الـجنّـة و الـنار تبعات الـذات
کتابتفسیر القران الکریم: مفتاح أحسن الخزائن الالهیة (ج. 4)صفحه 495
والأخلاق والأفکار، فینادی: «یَوْمَ تَجِدُ کُلُّ نَفْسٍ مَاعَمِلَتْ مِنْ خَیْرٍ مُحْضَراً وَمَا عَمِلَتْ مِنْ سُوءٍ»، ویقول: «فَمَنْ یَعْمَلْ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ خَیْراً یَرَهُ* وَمَنْ یَعْمَلْ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ شَرّاً یَرَهُ»، ویقول: «نَارُ الله ِ الْمُوقَدَةُ* الَّتِی تَطَّلِعُ عَلَیٰ الْأَفْئِدَةِ»، ویقول: «وَقُودُهَا النَّاسُ وَالحِجَارَةُ»، وقد بلغت هذه الـمسألـة نصابها، وتوفّرت الأدلّـة الـعقلیـة و الـسمعیـة میقاتها، وتدلّ بمجموعها علیٰ أنّ الأعمال تجسّم بعد فراغ الـنفس عن الـبدن.
وربّما یشیر إلـیٰ مسألـة الـروح وانفکاکها من الـبدن الآدمی ورفض الـمادّة ب الـموت قولـه تع الـیٰ: «وَمِنْ وَرَائِهِمْ بَرْزَخٌ إِلَیٰ یَوْمِ یُبْعَثُونَ».
فهل یمکن ـ مع ضیق الـمجال وطیلـة ثلاثـة وعشرین عاماً ـ صدور مثلـه عن مثلـه صلی الله علیه و آله وسلم، مع لحاظ کثرة الابتلاءات الـخارجیـة، مع قیامـه صلی الله علیه و آله وسلمب الـحکومـة و الـسلطنـة و الـبسط و الـجهات و الـغزوات، وتشکیل الـحکومـة وتقنین الـقوانین الـع الـیـة، الآتیـة فی فصل علیٰ حِدة.
ولنعم ما یقال خطاباً للإنسان أن یقال خطاباً للکتاب:
أتَزعمُ أنَّک جرمٌ صغیر
وفیکَ انطویٰ العالَمُ الأکبرُ
وأنت الکتاب المبین الذی
بأحرفه یظهر الـمُضمَرُ
کتابتفسیر القران الکریم: مفتاح أحسن الخزائن الالهیة (ج. 4)صفحه 496
ولَعَمْری إنّ إعجاز الإسلام الـذی هی مهمّتنا، ینکشف لأهل الـتفکّر و الـتدبّر ولأهل الـوجدان و الـضمیر من ملاحظات یسیرة؛ ملاحظـة الـکتاب ومایحتوی علیـه، وملاحظـة قصر زمان تحقّقـه وتجمّعـه، وملاحظـة کثرة ابتلاءات من أتیٰ بـه وتحدّیٰ بـه ـ بحمد الله ولـه الـشکر ـ فإنّ من ذلک یظهر أنّ الإسلام معجز جدّاً وحقیقـة، ولایکون إلاّ من عند الـقدیر الـعلیم، فیکون الإسلام دیناً ودلیلاً. أمّا الأوّل فواضح، وأمّا الـثانی فإنّـه دلیل علی الـصانع الـغائب الـخبیر الـبصیر و الـلطیف الـقدیر، وإلاّ فکیف یتمکّن واحد من الآحاد من الإتیان بمثلـه.
وهناک ملاحظـة رابعـة وهی لحاظ تأریخ نبیّ الإسلام وحدود سیره ومشیـه ومعاشرتـه ودراستـه واطّلاعـه علیٰ الاُمور الـدینیـة الـس الـفـة و الـدنیویـة الـعصریـة، وملاحظـة جغرافیا بلدتـه فی تلک الـعصور الـبعیدة عن جمیع الـمزایا و الـمُثُل.
فالإسلام مُعجز المُلحدین القائلین ب الدهریة و الطبیعة، ومُعجز الکافرین و الطوائف الباطلة؛ من المجوس و الیهود و النصاریٰ، ومعجز خ الد فیکون دلیلاً علیٰ فساد المقالات المتأخّرة، الـواضح انحطاطها من غیر حاجـة إلـیٰ تکلّف واستدلال. وتفصیل هذه المسألة ربّما یأتی من ذی قبل إن شاء الله تع الیٰ.
کتابتفسیر القران الکریم: مفتاح أحسن الخزائن الالهیة (ج. 4)صفحه 497