بقی شیء: بعض شبه حول فصاحة القرآن وبلاغته
إنّ هناک بعض شُبَهٍ لابدّ من الإشارة إلـیها وإلـیٰ ماهو حلّها عندی، ولعلّ الله یُحدث بعد ذلک أمراً.
الشبهة الاُولیٰ: الـتحدّی ب الـفصاحـة و الـبلاغـة وبکیفیـة الـکلام الـخاصّـة بـه، الـتی لایعرفها إلاّ الأوحدیون من أهل الأدب من الـعرب، یناسب کون نطاق دعویٰ الـنبوّة محصوراً بشبـه جزیرة الـعرب؛ لعدم تمکّن الآخرین، ولاسیّما الـقاطنین فی الـشرق الأقصیٰ و الـغرب الأغرب، الـبعیدین عن لسان الـعرب بما لا حدّ لـه عرفاً.
وتوهّم: لزوم الـسیر فی الـعروبـة حتّیٰ یتوجّـه الإنسان بلاغـة الـقرآن، سخیف صادر عن الـمجانین، فما بـه تحدّیٰ الـقرآن حسب الاتّفاق، یوجب اختصاصـه حکماً بطائفـة خاصّـة یفهمون ذلک وین الـون الـبلاغـة، وبَعُد الـقرآن عن مستویٰ کلماتهم.
الشبهة الثانیة: إنّ الـتحدّی ب الـفصاحـة و الـبلاغـة وتعجیز الـناس عن الإتیان بمثلـه فی الـعصر الأوّل إلـیٰ عصرنا هذا لایکون کافیاً لکونـه معجزة؛ لإمکان الإتیان بمثلـه فی الـعصور الـمستقبلـة، ولا دلیل ینسدّ بـه هذا
کتابتفسیر القران الکریم: مفتاح أحسن الخزائن الالهیة (ج. 4)صفحه 502
الاحتمال والإمکان، وعندئذٍ لایمکن الاعتقاد بأنّـه کتاب لایتمکّن الـبشر أن یأتی بمثلـه. نعم إلـیٰ زماننا هذا ما تمکّن الـبشر من ذلک، ولکن إمکان تمکّنـه غیر مسدود جدّاً.
وقد اتّفق کثیراً أنّ مثل شاعر لم یأتِ فی برهـة من الـزمان، ثمّ اتّفق ذلک فامسخ شعره بأمث الـه کثیراً. وقد اشتهر بین أبناء الـعصر: أنّ أمثال الـنابغـة وامرئ الـقیس وسعدی وحافظ وفردوسی و «مثنوی» لم توجد بَعْدُ، ولکن لایمکن الـحکم بامتناع ذلک فی الـعصر الآتی، فعندئذٍ لایجوز تعلیق الـعقیدة علیٰ مثلـه، ولایجوز اتّباعـه بمجرّد عجز أهل مصر فی عصر، کما لایخفیٰ.
وبالجملة: هذا الـقرآن حسب نظر الـمسلمین معجزة خ الـدة، و الـحکم ب الـخلود لایمکن إلاّ بعد مُضیّ الأزمنـة بتمامها ، وإذا امتنع الـحکم علیـه ب الـخلود امتنع الـحکم علیـه بأنّـه معجزة من الأوّل؛ لأنّ الـتحدّی لیس مخصوصاً بزمان دون زمان، ف الـعجز عن الإتیان بمثلـه فی الـعصر الأوّل لایوجب کونـه معجزة من الأوّل، کما لایخفیٰ.
الشبهة الثالثة: إنّ فی الـطبائع الـع الـیـة من طبیعـة الإنسان إلـیٰ طبائع الـنباتات و الـجمادات، مواضع استثنائیـة وموارد خاصّـة، مثلاً فی طبیعـة الـبشر صفـة الـشجاعـة، وقلّما یوجد هذه الـصفـة علیٰ وجـه الـکمال إلاّ فی الـنوادر، ویسمّون بنوادر الـتأریخ، فشجعان الـفرس و الـعجم معدودون، وهکذا سائر الأوصاف والإدراکات والاستعدادات، فربّما یوجد فی الـع الـم امرأة تلد عشراً فهی نادرة عصرها وزمانها من هذه الـجهـة، وهکذا الأمر فی سائر الـمزایا و الـخصوصیات الـمادّیـة و الـمعنویـة، بل ربّما توجد فی زوایا الـحرکات الـع الـمیـة بعض الاستثنائیات الـموجبـة لتحیّر الـعلماء الـمتفنّن.
کتابتفسیر القران الکریم: مفتاح أحسن الخزائن الالهیة (ج. 4)صفحه 503
وربّما یقال: إنّ فی الـقطر الـخاصّ تحصل وردة لاتُحاذیها سائر الـوردات؛ وذلک لأنّ فی تلک الـقطعـة من الأرض کمالات کسائر الـقطعات، ولکن فی سائر الـقطعات انتشرت الـصفـة الـکاملـة فی أفرادها، فأصبحوا متقاربین، وفی ذلک الـقطر استجمعت فی شخص خاصّ، فتکون وردة الـبرّ أعطر من ورد الـجنّـة و الـحدائق الـمعدّة لها.
وبعض الأقطار من قطر إیران مشهور بقلّـة الـقوّة الـفکریـة، وقد استُثنی منـه فرد وهو من الـمحقّقین الأعلام، ولولا خوف الـهتک و الـتوهین لأشرنا باسمـه الـشریف. وب الـجملـة: ربّما تُستجمع قویٰ سائر الأفراد فی فرد.
ومن هنا یتوجّه القارئ إلـیٰ الـشبهـة فی الـمسألـة، فإنّ محیط الـحجاز کان محیط الـبربریـة والاستعباد ومهبط الـخشونـة و الـخیانـة وغیر ذلک، فأصبح فیـه إنسان أمین یخدم الـبشریـة والإنسانیـة، فیکون من الـمستثنیات الـتی لها مشابـه فی الـجملـة، فلا معجزة ولا تعجیز، و الـنوادر الـتأریخیـة غیر عزیزة، فلیکن هو منهم، فلا دلالـة علیٰ وجود الـغیب، ولا علیٰ تصرّفـه فی شبـه جزیرة الـعرب بتنزیل الـکتاب الـسماوی، بل کلّ هذه الاُمور مستندة إلـیٰ الـعلل الـطبیعیـة و الـشرائط الـمادّیـة، وإلـیٰ الاختلاف فی تلک الـعلل و الـشرائط.
وأمّا الجواب عن أمثال هذه الشبهات بالإجمال:
فإنّ تعجیز الـقرآن ـ کما عرفت لیس بمعنیٰ الامتناع الـذاتی أو الـغیری علیٰ الآخرین؛ لعدم انسداد باب ذلک علیٰ کلّ موجود مصاحب للمادّة و الـقوّة. وقد عرفت بما لا مزید علیـه أنّ الـبعثـة کما لاتکون بحسب الـوجود إلاّ کبعثـة الـحکماء والأطبّاء و الـمخترعین، کذلک لاتکون إلاّ مثلها بحسب
کتابتفسیر القران الکریم: مفتاح أحسن الخزائن الالهیة (ج. 4)صفحه 504
سعـة الـوجود عرضاً وطولاً، وأنّ سائر الـفرق ینبعثون بأنواع الـبعثات لتنظیم بلاد الإنسان الـجزئیـة و الـکلّیـة، وترفیـه حال الـبشر، وتشریح الاُمور الـلاّزمـة فی الـحیاة الـفردیـة الـمزاجیـة والاجتماعیـة، وکذلک الأنبیاء ینبعثون لإرشاد الـعائلـة الإنسانیـة إلـیٰ دار الآخرة وإلـی أحسن الأس الـیب فی الـمعیشـة الـدنیویـة. وکما أنّ طائفـة منهم یکون لبعثتهم حدّ محدود ووقت مؤجّل، ولطائفـة اُخریٰ یکون لنظریاتهم الـخلود و الـبقاء والأثر الـباقی، کذلک الأنبیاء علیهم السلام، و الـنبی الإسلامی من الأخیرین؛ لأنّ نطاق کشفـه أقویٰ وأتمّ ودور وصولـه ونیلـه أوسع وأرفع.
فعلیٰ هذا إذا نظرنا إلـیٰ هذه الـمجموعـة ـ الـمسمّاة ب الـقرآن ـ وأخواتها بأس الـیب خاصّـة ومضامین ع الـیـة فی تلک الأعصار والأمصار، وفی ذلک الـوقت الـقصیر الـمشغول فیـه نبیّ الإسلام بأنواع الاشتغالات و الـشواغل، وبأقسام الابتلاءات الـداخلیـة و الـخارجیـة، یحصل لأهل الـضمیر و الـوجدان علم بأنّ هذا الأمر لایمکن أن یکون حسب الـطاقـة الـعادیـة و الـشرائط الـعامّـة الـمتعارفـة.
فعندئذٍ إن اتّفق نیل هذه الـمجموعـة فهو، وإلاّ فعدم نیل الإنسان الـبعید عن الـساحات الاجتماعیـة، لایوجب قصوراً فیها، کما هو کذلک فی سائر الـوسائل الـمستحدثـة للمعیشـة الأحسن ولنیل الـسعادة الـعلیا.
ثمّ إنّ الجواب عن الشبهة الاُولیٰ فهو: أنّ اعتراف الـمتخصّصین و الـمتفنّنین فی أس الـیب الـکلام و الـبلاغـة، یکفی لذلک، ولایعتبر أزید منـه، کما هو کذلک فی سائر الـمستحدثات؛ فإنّ اعتراف جماعـة بأنّها کذا وکذا، یورث الـعلم بأنّ غیر الـعارف بها أعجز منهم وأبعد من الإتیان بمثلـه.
کتابتفسیر القران الکریم: مفتاح أحسن الخزائن الالهیة (ج. 4)صفحه 505
وأمّا عن الثانیة: فَلَعَمْری إنّها ولو کانت شبهـة قویّـة، ولکنّها تنحلّ بعدم اشتراط إعجازه فی بدو نزولـه بإحراز عجز الـبشر الاستقب الـی و الـبلغاء الآتین فی الأعصار الآتیـة، بل هو شرط کونـه معجزة خ الـدة، وإذا ثبت صدقـه فی أصلـه یثبت صدقـه فی خلوده، وهو الـمطلوب.
وبعبارة اُخریٰ: صدق مق الـتـه الأوّلیـة یثبت ب الـبرهان، وصدق مق الـتـه الـخلودیـة یثبت بإخباره وإظهاره ، فلاینبغی الـخلط. وللمسألـة طور آخر، فتدبّر تعرف.
وأمّا عن الثالثة: ف الـحقّ ولو کان کذلک بحسب الإجمال فی الـنوادر الاستثنائیـة، إلاّ أنّ الـکلام فی أنّ هذه الـنادرة، هل یعقل أن یکون مبدأ لهذا الـتحوّل فی الـعالَم؛ بإتیان هذه الـمجموعـة فی هذه الـشرائط وتلک الـموانع، أم یکون ذلک دلیل وجود الـقدرة الاُخریٰ الـوسیعـة، فیکون هذه الـنبوّة الـع الـمیـة دلیلاً علیٰ الـغیب و الـتوحید، ودلیلاً علیٰ دخ الـة الـغیب فی هذا الـع الـم، ودلیلاً علیٰ نبوّتـه الـعامّـة وصدق مقالاتـه وصحّـة کتابـه ومضامینـه؛ لاستناده إلـیٰ الـغیب الـواقف علیٰ الأسرار و الـمجهولات.
وبالجملة: لانعنی من بعثـة الأنبیاء أمراً خارجاً عن الـع الـم وحرکاتـه الـطبیعیـة و الـعادیـة، إلاّ أنّ أمثال هذه الـحرکات تحت شرائط، توجب استناد هذا الـعالَم إلـیٰ الـقدیر الـمتعال طبعاً، وإلاّ یلزم أمر علیٰ خلاف الـطبیعـة، ویلزم معلول بلا علّـة، ویلزم أمر خارج الـعادة وخارق الـطبیعـة. فهرباً عن وقوع ذلک لابدّ من الإقرار باستناده إلـیٰ أمر آخر، ومن الاعتراف بأنّـه صلی الله علیه و آله وسلم کان یأخذ عن الـمبادئ الاُخر الـموجودة فی الـعالَم، الـقائم بها اُمور الـعالَم من قضّها إلـیٰ قضیضها.
کتابتفسیر القران الکریم: مفتاح أحسن الخزائن الالهیة (ج. 4)صفحه 506